مياه الشفة ليست في متناول عدد كبير من سكان الارض. فأكثر من شخص من ثلاثة لا يستطيع الحصول على المياه. ويحتاج الواحد، يومياً، الى نحو أربعين ليتراً من الماء ليكفي حاجاته. ومشكلة شح مياه الشفة هي نواة مشكلات العقود المقبلة. وقد ينتشر وباء الكوليرا في البلدان الضعيفة، على غرار دول أفريقيا وأميركا اللاتينية والهند وبنغلادش، إذا لم تبادر السلطات الى تعقيم المياه وتنقيتها. ومنذ موجة وباء الكوليرا في 1917، الى موجة 1992 الاخيرة، لم تتراجع ذيول داء المياه، الكوليرا، بَعد. ففي 2006، أحصيت أكثر من 236 ألف إصابة كوليرا. وبحسب"مركز الكوليرا الوطني"بكالكوتا الهندية، تواجه الهند موجتي كوليرا سنوياً، الاولى في نيسان ابريل، والثانية في فصل الرياح الموسمية. وفي 2007، عالج هذا المركز 21500 إصابة. فشح مياه الشفة يفتك بالبشر، على ما يقول الأطباء الهنود. والحق ان المياه ليست نفطاً. فعلى خلاف النفط، واحتياطاته تنفد، المياه لا تنضب. ويفضي الاحتباس الحراري الى ذوبان الجليد، وارتفاع منسوب الامطار المتساقطة، وزيادة دورة المياه. وهذه الدورة طبيعية. ولكن الأنشطة الانسانية تعدل طبيعة هذه الدورة. ففي العقود الخمسة القادمة، من المتوقع أن يزيد منسوب المياه في المناطق ذات الموارد المائية السخية ازدياداً مطرداً، وأن يتناقص في المناطق الجافة، فيشتد الجفاف فيها. وحريّ بهذه المناطق الاستعداد لمواجهة نقص المياه. وأكثر المناطق تضرراً هي المغرب وبنغلادش وبلاد حوض النيل. ومن المتوقع أن ينخفض معدل تساقط المياه في المغرب نحو 20 في المئة، في العقود الثلاث المقبلة. وفي هذه العقود، يتضاعف عدد سكان المغرب ثلاثة أضعاف. ولكن ما السبيل الى مواجهة هذه الأزمة؟ والحق ان تحلية مياه البحر ليست الحل المناسب. فهي تؤدي الى رمي كميات كبيرة من الملح في البحر المتوسط، وهو بحر مغلق قد تركد فيه الاملاح، على خلاف المحيطات المفتوحة والكبيرة. ويرتبط مصير بنغلادش بنهرين ينبعان في الهمالايا، الغانج وبراهمابوتر. ولكن الهندوالصين يستنفدان مياه النهرين، قبل صبهما في بنغلادش، يبنيان السدود. ومن المتوقع أن يرتفع منسوب مياه خليج البنغال المالحة في نهري بنغلادش، وأن تبور، تالياً، الأراضي الصالحة للزراعة، وتتقلص مساحاتها. وهذه كارثة كبيرة. والنيل هو شريان الحياة في ثلاثة بلدان، مصر والسودان وأثيوبيا. واليوم، تستغل مصر 98 في المئة من مياه النيل، في حين لا تتعدى حصة اثيوبيا 1 في المئة. ويتوقع أن يبلغ عدد سكان اثيوبيا في 2025، 120 مليون نسمة. ويحتاج هؤلاء الى كمية أكبر من المياه. وهذه الحاجة قد تسهم في نشوب حرب على مياه النيل بين الدول الثلاث. ويمد جليد الهمالايا 40 في المئة من سكان العالم بالمياه. فمياه هذه الجبال هي مفتاح لفهم النزاع السياسي بالتيبيت. فالهمالايا، شأن جبال طوروس في تركيا، هي خزان مياه الصينوالهند والبنغلادش، والثانية، هي خزان مياه العراق. وفي وسع من يهيمن على جبال طوروس، أي الاكراد اليوم، قطع المياه عن بلاد ما بين النهرين، والتحكم بكمياتها. فالمياه متوفرة في بعض الاماكن، وشحيحة في بعضها الآخر. وهي لعنة في بعض الاماكن، ونعمة في أخرى. وهذه حال الصين. فعلى بعد 80 كلم من شمال بكين، تلوح كثبان رمال صحراء غوبي، بينما تغرق الفيضانات مناطق أخرى من الصين. والصين ليست واحدة، بل هي اثنتان يفصل بينهما خط شنغهاي - التيبيت. ففي الشمال، يحصل نصف عدد سكان الصين، أي نحو 700 مليون نسمة، 17 في المئة من مخزون المياه. بينما يحصل النصف الآخر على بقية المياه. فالعدالة في توزيع المياه غائبة. ومن العسير نقل المياه من منطقة الى أخرى. وظروف نقلها صعبة. فهي ثقيلة الوزن. وعلى هذا، لم تبصر أسواق الماء العالمية النور. ولا ريب في أن شح المياه هو مشكلة محلية وغير عالمية. وتواجه الصين مشكلة تلوث الانهار. فعلى سبيل المثال، حرم 5 ملايين نسمة من شرب المياه طوال اسبوع، إثر رمي كميات كبيرة من البنزين في نهر سونغوا. ويعوق تلوث المياه والتربة في الصين مسيرة النمو الاقتصادي فيها. ويبحث المسؤولون الصينيون عن سبل تفادي تلويث المياه والتربة في عملية التنمية الاقتصادية الهادفة الى انتشال مئات ملايين البشر من الفقر والبؤس. وهذه المسألة هي مدار حرب بين حكومة بكين المركزية والقوى النافذة في المناطق الصناعية. وتثقل سياسة الحكومة في الحفاظ على البيئة على المناطق الصناعية. والنزاعات بين الحكومة المركزية والقوى الصناعية تشبه النزاعات بين الامبراطور وامراء الحرب المحليين. وكأن التاريخ يعيد نفسه. ولا شك في ان اسرائيل هي أكثر دول العالم براعة في ادارة المياه. فهي طورت أنظمة تقلِّص تبديد المياه. ويسعى باحثو جامعة النقب في تحويل الصحراء الى مساحة خضراء. ولكن اسرائيل سرقت مياه دول الجوار، وقطعت مياه طبريا عن الأردن. ففي الماضي، كانت المياه تفيض عن حاجة الأردن، وهي، اليوم شحيحة. والحق أن قضايا المياه معقدة. فقد يحسب المرء أن مد أنابيب المياه، يحرر النساء من مهمة نقل المياه الى المنازل، وهي مهمة شاقة تحتاج الى نحو 4 ساعات يومياً، ويعبّد، تالياً، الطريق الى مقاعد الدراسة، على ما حصل بأفريقيا. ولكن حركة طالبان سارعت الى مد المنازل بالمياه للحؤول دون خروج النساء الى المنازل. ففي افغانستان، صنبور المياه المنزلية هو في مثابة برقع ثان يحجب النساء. عن ايريك أورسينا صاحب"رحلة في بلاد القطن"و"مستقبل المياه"،"لونوفيل أوبسرفاتور"الفرنسية، 13-19/11/2008 نشر في العدد: 16672 ت.م: 26-11-2008 ص: 29 ط: الرياض