حتى ذلك الحين كان ستانلي كوبريك، البالغ بالكاد الثامنة والعشرين من عمره، يشتغل على مستوى الهواية. كان يعرف طبعاً ان الإخراج السينمائي سيكون مهنته الى الأبد، وأن التصوير والتوليف والمشاركة في كتابة السيناريو، ستكون من المهمات التي ستثير دائماً اهتمامه، لكنه لم يكن ليتصور أن من شأنه، في ذلك الحين المبكر، أن يحقق فيلماً طويلاً، ومع نجوم معروفين، بل حتى - شكلياً على الأقل على النمط الهوليوودي. لكن لقاءً بالصدفة له مع جيمس ب. هاريس، المنتج الشاب في ذلك الحين، وسمعة فنية طيبة كان حققها فيلماه، القصير والمتوسط، السابقان "قبلة القاتل" 1954، وپ"خوف ورغبة"- 1953، تكفلا باختصار الدرب أمامه، وهكذا ما إن حل عام 1956، حتى كان يحقق روائيّه الطويل الأول. غير ان على هذا الواقع ألا يخدعنا، فإذا كان كوبريك، قد بدأ خوض السينما، مهنياً، انطلاقاً من فيلم من"أفلام النوع"بوليسي اجرامي -، وإذا كان استعان بنجوم معروفين على رأسهم ستارلنغ هايدن، وحقق الفيلم ضمن إطار الإنتاج الهوليوودي، فإنه حرص على أن يجدد، بل يثوّر كما سندرك لاحقاً في مجالين، لم يكن لهوليوود، على أي حال أن تتسامح حيالهما: فهو قدم هنا سيناريو غير تقليدي يخلو من أي سرد لحكاية خطيّه. ثم انه حرص على ألا تكون نهاية فيلمه سعيدة من النوع الذي كانت السينما الهوليوودية ولا تزال تحبه. فإذا أضفنا الى هذا رسمه السلبي أخلاقياً لكل شخصيات الفيلم، واضعاً اياهم وإيانا أمام طريق مسدود تماماً، يمكننا أن نفهم لماذا وكيف اعتبر ستانلي كوبريك منذ تلك اللحظة سينمائياً كبيراً. الفيلم الذي نتحدث عنه هنا، هو"القتل"، الذي شكل أول تعاون بين المخرج والمنتج الشابين، إذ كونا شركة انتاج خاصة بهما واشتريا حقوق رواية، سيبنى السيناريو على أساسها، من كاتبها ليونيل وايت. وكما سيفعل كوبريك دائماً، لم يكتب السيناريو وحده، ولن يكتفي بالإخراج أيضاً، بل ساهم في التصوير والتوليف وإن كانت عناوين الفيلم تحمل أسماءً أخرى. وبالنسبة الى السيناريو، كتبه مع جيم تومبسون، علماً أن هذا الفيلم كان أول اقتباس لكوبريك عن رواية سبق نشرها، بالمعنى المعهود للكلمة، وهو بعد ذلك سيتبع الطريق نفسها، إذ سنلاحظ، وحتى النهاية، أن كل أفلامه انما أخذت عن روايات، أو في شكل أدق عن نصوص أدبية، يغلب على معظمها طابع الرواية. والحقيقة انه إذا كان كوبريك قد جدد في هذا الفيلم، من نواحٍ عدة، فإنه من ناحية أساسية قدم عملاً ينتمي الى نوع كان رائجاً، في هوليوود وغيرها، في ذلك الحين: الفيلم الأسود فيلم نوار، وهو نوع لن يتردد عن القول دائماً انه يفضله على أي نوع آخر، حتى وان كان قد ظل بعيداً منه، في معظم أفلامه التالية. بل، لنقل هنا، ان لابتعاده منه أسباباً تتعلق برغباته السينمائية نفسها: فهو في الأفلام الثلاثة عشر التي حققها طوال أكثر من أربعين عاماً، حرص على أن يجرب الأنواع كلها: من سينما الحرب الى سينما التاريخ، ومن سينما الحميمية العائلية الى أفلام الرعب والسخرية والخيال العلمي والفانتازيا... ما يعني أننا إذا استثنينا سينما الحرب التي هيمنت على فيلموغرافياه، لن نجد في كل نوع أفلاماً كثيرة تنتمي الى هذا النوع. ومهما يكن من أمر، قد يكون كافياً هنا أن ننقل عن نقاد كثر لعمل كوبريك قوله: لو أن كوبريك لم يحقق في حياته سوى فيلم"القتل"لكان هذا كافياً له كي يشغل مكانته الكبرى في تاريخ السينما. ثم أوَلم يقل هؤلاء النقاد أنفسهم ان كوبريك حين خاض كل نوع سينمائي من الأنواع، انما كان يعيد تأسيس النوع ويقدم له أفضل أفلامه؟ ينطبق هذا، طبعاً، على أفلام كوبريك الكبرى، لكنه ينطبق أكثر على"القتل". من ناحية حبكته، ينتمي فيلم"القتل"الى عالم أفلام اللصوص والأعمال التي تقوم بها عصابة من الناس، كي تحقق ربحاً مالياً كبيراً، قبل أن ينفرط عقد الجماعة ليحاول كل واحد أن يغدر بالآخر أو أن يقتله على أمل أن يفر بأكبر حصة من المال. ونعرف أن هذه الحبكة تسرد في عدد كبير من الأفلام... غير أنها لدى كوبريك، وعند بداياته، اتخذت طابعاً شديد العنف وشديد السواد، حيث لم يعد ثمة أي لون رمادي ليبرر شيئاً. تبدأ الحكاية مع جوني كلاي، الذي إذ يخرج حديثاً من سجن"الكاتزار"المريع، يقرر بينه وبين نفسه ويخبر امرأته فاي، بأن أي عملية سيقوم بها بعد لآن، لن تتحقق إلا إذا كانت تستأهل المخاطرة في شأنها. فهو لم يعد قادراً على المجازفة من أجل مبالغ تافهة من المال. وعلى ضوء هذا القرار يجمع كلاي من حوله مجموعة من الشركاء، ليقدموا معاً على سرقة غلة أحد ميادين السباق في يوم حافل. وهكذا ينضم الى جوني في العملية أمين الصندوق في ميدان السباق، جورج، وعامل البار مايك، ورجل الشرطة النصّاب راندي، ومدمن الكحول السابق مارفن، الذي يتولى تمويل العملية. وفي اليوم المعين يبدأ تنفيذ الخطة فيما يكون السباق في الميدان قد وصل الى ذروته. والحقيقة أن كل الأمور تسير كما خطط لها، في الوقت نفسه الذي يطلعنا المخرج، على خلفية أو دوافع كل شخصية من الشخصيات، فهذا يريد مالاً من أجل معالجة زوجته المريضة، وذاك يريده لاجتذاب زوجته التي باتت تميل الى آخر... وهكذا. إذاً، وسط هذا المناخ وعلى خلفية حمّى السباق تدور الأحداث ويبدو أن كل شيء سينتهي على نجاح لولا... أن شيري زوجة جورج أمين الصندوق تنكشف على علاقة مع الشاب المغامر الأفاق فال كانون، الذي إذ تثرثر أمامه حول ما يجري، يتفق معها وإن في شكل يشوبه بعض الغموض، على القيام بعمل يجعلهما يستأثران بالثروة، حتى وإن أدى ذلك الى التخلص من جورج ومن الآخرين بالقتل. وهكذا إذاً يتحول العمل، من مخطط للسرقة، الى مخطط لسرقة السارقين. بل ان كل واحد من المشاركين يراقب الآخر حذراً، إذ باتت رائحة الغدر تملأ الجو، وبدأت النظرات تفصح إما عن الخوف وإما عن الترصد وإما عن الكراهية... أو عن كل هذه معاً. طبعاً لن نقول هنا كيف سينتهي ذلك كله. لكننا سنقول ان نهايته أعجبت شركة"مترو غولدين ماير"فسارعت الى"اصطياد"كوبريك وشريكه هاريس من أجل مشاريع مقبلة، أولها فيلم عصابات جديد أُجهض قبل أن يولد، وكذلك أعجبت تلك النهاية، والفيلم كله، النقاد الذين تباروا في امتداحه، لا سيما في امتداح أسلوب كوبريك، حتى وان كان البعض قد رأى فيه"مغامرة صغيرة جرى تكبيرها في شكل مفتعل". وعموماً رأى النقاد ان مخرجاً كبيراً قد ولد مع هذا الفيلم. هذا المخرج الكبير، سيواصل تحقيق أفلام، وإن في وتيرة بطيئة، حتى رحيله عن عالمنا عام 1999 عن عمر ناهز السبعين، لم يحقق خلاله على أي حال سوى 13 فيلماً. لكن كل واحد من هذه الأفلام جاء تحفة استثنائية جعلت لكوبريك خلال النصف الثاني من القرن العشرين، مكانة أساسية في الصف الأول بين كبار المخرجين. وكيف لا يكون هكذا من حقق"خطوات المجد"وپ"لوليتا"وپ"سبارتاكوس"وپ"دكتور سترابخلاف"وپ"أوديسة الفضاء"وپ"اشراق"وپ"عيون مغمضة على اتساعها"وغيرها من الأعمال السينمائية الكبرى؟ [email protected]