في 27 حزيران يونيو 1857- أي منذ مئة وخمسين عاماً، صدرت الطبعة الأولى من ديوان "أزهار الشر"، في 1100 نسخة، بسعر 3 فرنكات للنسخة. وكان بودلير نشر معظم القصائد في المجلات والصحف. وكان عنوان الديوان تغير مرتين سابقتين، من"الأنصال"إلى"السحاقيات"، ليستقر- في خاتمة المطاف- على"أزهار الشر". وبعد عشرة أيام، شنت جريدة"الفيغارو"بقلم غوستاف بوردان هجوماً فظّاً على الديوان وصاحبه، محرضةً السلطات عليه:"لم يشهد المرء أبداً إهداراً- بمثل هذا الجنون- لمثل هذه القدرات الرفيعة، فثمة لحظات يتشكك المرء فيها بالحالة العقلية للسيد بودلير"ولحظات أخرى لا يعتري المرء فيها أي شك. والقبيح في ذلك يقترن بالدنيء"والمنفِّر في ذلك يبلغ النتِن. فأبداً لم ير المرء قَضْم، بل مضغ، كل هذه الأثداء في مثل هذه الصفحات القليلة، أبداً لم يشهد المرء استعراضاً مماثلاً للشياطين والأجنَّة، والأبالسة واليرقان والقطط والهوام. فهذا الكتاب مستشفى مفتوحة لكل العاهات العقلية، وكل انحلالات القلب، وليت ذلك كان من أجل علاجها، لكنها مستعصية". وبعد يومين فقط من نشر المقال، تم تقديم بودلير وناشريه إلى المحاكمة بتهمة"انتهاك الأخلاق العامة". وطالبت النيابة العامة- في عريضة الدعوى- بحذف عشر قصائد، ست منها بحجة"إهانة الأخلاق العامة"، وأربع بحجة"إهانة الأخلاق المسيحية"، لكن المحكمة لم تقبل سوى التهمة الأولى-"إهانة الأخلاق العامة"- فيما رفضت التهمة الثانية. وقضت محكمة الجنح- في ما يتعلق بالتهمة الأولى- بتغريم بودلير 300 فرنك، وكل من الناشرين 100 فرنك، مع حذف 6 قصائد من تلك المذكورة في عريضة الاتهام ليسبوس، نساء ملعونات، ليثيه، إلى تلك المبتهجة للغاية، الجواهر، تحولات مصاصة الدماء. في ذلك الحين، كتب بودلير إلى أمه:"إني سعيد تقريباً للمرة الاولى في حياتي. فالكتاب جيدٌ تقريباً، ولسوف يبقى، هذا الكتاب، شهادةً على قرفي وحقدي على سائر الأشياء". يكتب فيكتور هوغو إلى بودلير:"أزهارك تشع وتتألق كالنجوم، ولسوف تتلقى أحد الأوسمة النادرة التي يمنحها النظام الحقيقي، وما يقال من أن القضاء أدانك باسم ما يقال إنه الأخلاق لهو إكليل إضافي لك". لكن القضاء الفرنسي سيتراجع من تلقاء نفسه، في وقت لاحق من القرن العشرين، عن قراره، ويصدر حُكماً جديداً بإلغاء حكم الإدانة السابق، حتى لا يظل وصمةً في تاريخه. كان الديوان الصغير الذي يضم مئة قصيدة، في أقل من ثلاثمئة صفحة، صفعةً في وجه الذوق الأدبي العام، الذي تهيمن عليه الأصوات الرومانتيكية، من هوغو إلى ألفرد دي فيني إلى ألفرد دو موسيه وسواهم"فإذا بالديوان الجديد يمثل قفزةً خارج السياق وضده: بنية متراتبة معماريّاً، واكتشاف أليم لقاع الحياة المدينية، من دون اتكاء على الطبيعة الرومانتيكية، ومساءلة شائكة لجوهر الوجود الإنساني الحديث، وكشف للأقنعة وتعرية لأشكال البؤس الإنساني، وانقسام الإنسان على ذاته، وافتقاره إلى العزاء في العالم، حيث يصبح الموت والقبر- في حالات ليست قليلة- ملاذاً وعزاءً عن فساد العالم وعبثيته. أما الإنسان، فلم يعد سيد العالم، بل مجرد كائن بائس تعري القصيدة الافتتاحية أعماقه المظلمة، حيث"الْحَمَاقَةُ، وَالْخَطَأُ، وَالْفُجُورُ، وَالشُّح/ تَحْتَلُّ أَرْوَاحَنَا وَتَسْتَوْلِي عَلَى أَجْسَادِنَا"، فيما"خَطَايَانَا عَنِيدَةٌ، وَنَدَمُنَا بَلِيد"/ وَنَدْفَعُ ثَمَناً بَاهِظاً لاعْتِرَافَاتِنَا/ وَنَعُودُ مُبْتَهِجِينَ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوحِل،/ مُعْتَقِدِينَ أَنَّ دُمُوعاً زَهِيدَةً تَغْسِلُ أَوْسَاخَنَا". إنه ذلك المنافق الذي يخدع ذاته المريضة بلا شفاء:"نَجِدُ الْفِتْنَةَ فِي الأَشْيَاءِ الْمَقِيتَة"/ وَنَنْحَدِرُ كُلَّ يَوْمٍ خُطْوَةً إِلَى الْجَحِيم،/ بِلاَ هَلَعٍ، عَبْرَ الظُّلُمَاتِ الآسِنَة". ذلك هو إنسان العصر الحديث الذي كان بودلير أول من اكتشفهما معاً الإنسان والعصر الحديث. بؤسٌ، وشرٌّ، ومصير جهنمي، بلا أسًى أو عزاء. "إِنَّه الضَّجَر!- تِلْكَ الْعَيْنُ الْمَغْرَوْرِقَةُ بِدَمْعٍ لاَ إِرَادِي،/ تَحْلُمُ بِالْمَشَانِقِ وَهيَ تُدَخِّنُ النَّارجِيلَة". عفنٌ سقيم، وأحزانٌ كبيرة، لوحةٌ سوداء مفعمةٌ بالرعب، مسوخٌ نائحةٌ، وخصورٌ مضحكةٌ، ونساءٌ ينخرهن ويغتذي بهن الفجور، نحن الأمم الفاسدة، وأجناسٌ مريضة، والزمن يلتهم الحياة، وأسًى كئيبٌ على الأوهام الضائعة. أما الحبيبة، فهو يتقدم إليها ويتسلقها"مِثْلَ حَشْدٍ مِنَ الدِّيدَانِ عَلَى جُثَّة"، هي ذلك"الْحَيَوَانُ الْقَاسِي الْعَنِيد"، المدنسة،"الآلَةُ الْعَمْيَاءُ الصَّمَّاءُ، الْخِصْبَةُ بِالْقَسْوَة!/ الأَدَاةُ الشَّافِيَةُ، الشَّارِبَةُ لِدَمِ الْعَالَم"،"مَلِكَةُ الرَّذَائِل"،"السِّعلاَةُ الفَاجِرَةُ"،"الْحَيَوَانُ الدَّنِيء"،"الْعَظَمَةُ الْمُوحِلَة"و"الْخِزْيُ السَّامِي". ولعل ذلك- فضح الازدواجية الإنسانية العميقة، المقرونة بالنفاق وأبشع الرذائل- هو ما لم يقدر على مواجهته المجتمع الفرنسي في ذلك الحين، بعد تعريته، إلا بالمحاكمة، التي لم تكسر شوكة الديوان وصاحبه، بل لعلها ساهمت في فداحة حضوره. أما الجَمال، الذي صلَّى وابتهل له الرومانتيكيون طويلاً، فهو"الْوَحْشُ الْهَائِلُ، الْمُرْعِبُ، الْبَرِيء!"، الذي يخطو"فوق الموتَى"، و"يَنْشُرُ- فِي فَوْضَى- الْخَيْرَ وَالْجَرِيمَة"،"َيبْذُرُ كَيْفَمَا اتُّفِقَ الْبَهْجَةَ وَالْكَوَارِث،/ وَيُهَيْمِنُ عَلَى الْكُلِّ بِلاَ مَسْؤولِيَّة عَن شَيْء""من جواهره الرعب والقتل، هو"الآفَةُ الْقَاسِيَةُ لِلأَرْوَاح"، والحلم الهارب العصي، في آن. إنها الازدواجية التي تضرب صورة"الجمال"، فتشقه، وتضعه موضع السؤال:"أَتَأتِي مِنَ السَّمَاءِ الْغَائِرَةِ أَم تَصْعَدُ مِنَ الْهَاوِيَة؟"،"أَتَصْعَدُ مِن لُجَّةٍ سَوْدَاءَ أَم تَهْبِطُ مِنَ النُّجُوم؟"، وحين يستعصي الجواب، يكون لا مفر من الإطاحة بالسؤال:"مَا أَهَمِّيَةُ أَنْ تَأتِي مِنَ السَّمَاءِ أَم الْجَحِيم"، والاعتصام بالحلم: أن يجعل"الْكَوْنَ أَقَلَّ دَمَامَةً وَاللَّحَظَاتِ أَقَلَّ وَطْأَة". لقد توصل بودلير- مثلما يكتب ج. ك هيوسمان إلى التعبير عما يستعصي على التعبير، بفضل لغة قوية كثيفة امتلكت، أكثر من غيرها، تلك القوة الرائعة لتثبيت الحالات المَرَضية الهاربة، المرتبكة، للعقول المنهَكة والأرواح الحزينة، بصحة تعبير غريبة، فيما يرصد أنطوان آدام أن الجوهري في"أزهار الشر"هو الترجمة المقلقة لتجربة حياة. تجربة رتابة الأيام، والعزلة، والعذاب. تجربة هذه المسيرة البطيئة نحو النهاية المحتومة، نحو الموت. تجربة الزمن، ووطأته التي تسحقنا، ومحاولاتنا للهرب منها، لإحباطها. ولكن ما من اعتراف بهزيمة خائفة. فبودلير يقبل بالحياة في عالم عبثي وقاس. إنه يقبل بأن تكون السماء خاوية. وإذا ما رأى أن لعنة الوجود تضاعفت إلى ما لا نهاية بفعل الوعي، فإنه يؤكد- من دون خوف- أن هذا الوعي في الشر هو أيضاً مجد الإنسان. وفي الأسبوع الأول من شباط فبراير 1861، صدرت الطبعة الثانية من ديوان"أزهار الشر"مع مزيد من القصائد 35 قصيدةً جديدة، بعد حذف القصائد الست المدانة قضائيّاً. أما هذه القصائد الست، فنُشرت في ديوان"البقايا"، وهو كُتيب شعري صدر في 260 نسخة في بروكسيل في شباط 1866. أما الطبعة الثالثة من الديوان، فصدرت بعد وفاة بودلير، بإشراف تيودور دي بانفيل وشارل أسيلينو، وتضم 151 قصيدة، من بينها قصائد"البقايا"الاثنتا عشرة، وبعض القصائد التي لم تكن معروفة في ذلك الحين إلا كأعمال أولى منشورة في بعض الصحف. والقصيدة الوحيدة غير المنشورة- التي ضمتها هذه الطبعة- هي سوناتا"إلى تيودور دي بانفيل". وضمت الطبعة ملحقاً يجمع"مقالات الإثبات"التي أعدها بودلير عام 1857 لتقديمها للقضاء، ورسائل سانت- بوف وكوستان وإميل ديشا. وألحق بالديوان- في ما بعد هذه الطبعة- ما اكتشفه المحققون على مدى السنوات التالية من قصائد"منظومة"، ومن بينها قصائد"الشباب"التي كتبها في سني مراهقته. لكن هذا الديوان سيظل على رغم مرور السنوات، بكلمات بول فاليري"يفوق في القيمة، بالمعيار الأدبي، أكثر الأعمال ضخامةً وشُهرة"، مشدِّداً، بصورة قاطعة، في مقالة له بعنوان"موقف بودلير"على"ألاَّ أحد أهم من بودلير"في تاريخ الشعر الفرنسي.