ينفي البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير عن نفسه على الدوام الصفة السياسية، لكن المتابع للشأن اللبناني يجد انه يستخدم موقعه الديني والروحي لبناء مرجعية سياسية للمعارضة المسيحية في لبنان، والتي ضعفت كثيراً بسبب غياب اقطابها البارزين. فلولا وجوده السياسي في المرحلة الماضية لغابت هذه المعارضة عن الساحة السياسية تماماً، فالبطريرك صفير كان ولا يزال محامياً شجاعاً عن حقوق اللبنانيين والمسيحيين منهم تحديداً، ويمكن القول، من دون تحفظ، ان موقفه الرافض للوجود السوري على مدى ثلاثة عقود كان الشعلة التي ابقت حماسة الجميع، وافضت الى النتيجة الراهنة، فخلال الوجود السوري في لبنان تمسك باتفاق الطائف، وسكت عن سلاح"حزب الله"، وأيد المقاومة عشية تحرير الجنوب، وتصالح مع الجميع من اجل الاستقلال، أما اليوم فمن الواضح انه غير راض عن تشكيل قوائم المعارضة المسيحية في قريطم، والضاحية الجنوبية، ويستعد لبناء سقف جديد للمعارضة المسيحية من ابرز معالمه استعادة مكانة المارونية السياسية وحماية موقع رئيس الجمهورية وزيادة صلاحياته. والسؤال هنا هل سيبني البطريرك صفير هذا السقف بالتحالفات القديمة نفسها، ام سيسعى لبناء تحالفاته لتأخذ بعداً وطنياً بعد ان الحقت المعارضة المسيحية بالمسلمين، فأصبح الجنرال عون"شيعياً"، وسمير جعجع"سنياً"؟ لعل هذا تفكير بالتمني. فالوطنية في عرف السياسة اللبنانية لا تلزم القطيعة مع البعد الطائفي، فمطالبة البطريرك صفير بأن يكون الرئيس المقبل"على مسافة واحدة من الجميع ومتجرداً"، لا يعني فصل الموقع عن البعد الطائفي، فهذا الوصف الذي اطلقه البطريرك على الرئيس المقبل سببه خشية مجلس المطارنة الموارنة ان يتم الحاق الرئاسة هي الاخرى بأحد التيارين المتنازعين على زعامة البلد في شكل نهائي، بعد ان مال الرئيس لحود بمنصبه شمالاً. ولهذا تحرك القطب المسيحي الاول في لبنان، وانهى قطيعة دامت اكثر من عامين مع رئاسة الجمهورية ليقول للبنانيين وغيرهم: كفاكم عبثاً بموقع الرئاسة وتحويله الى جيب من جيوب الازمة الراهنة، او زجه في ملف المحكمة، فلن نقبل اجراء الانتخابات الرئاسية مباشرة من الشعب، ولو لمرة واحدة، ف"الدستور لا يحور بطرفة عين"، ولبنان ليس تركيا، ولن يكون. مجددا لا بد من التذكير ان البطريرك صفير رجل سياسة بامتياز، وتحركه لانقاذ موقع الرئاسة جاء على خلفية وضعه في اجواء بأن الرئيس اميل لحود ينوي تشكيل حكومة اخرى، ما يعني حصول انقسام في البلد بوجود حكومتين ولهذا قرر زيارة لحود وتجاوز خلافاته مع الاخير من اجل الحؤول دون هذه الخطوة التي، لو حدثت، فإنها ستعيد ما حدث عام 1988 التي شهدت قيام حكومة ثانية برئاسة العماد ميشال عون، مع انتهاء ولاية الرئيس امين الجميل، بالاضافة الى حكومة سليم الحص، فتعطل انتخاب الرئيس ودخل البلد في فراغ سياسي ونزاع انتهى مع اتفاق الطائف، الذي توافق فيه الاطراف على انتخاب رينيه معوض لرئاسة الجمهورية، لكنه اغتيل بعد وقت قصير من انتخابه، فخلفه الرئيس الياس الهراوي، في ظروف قبلت بها البطريركية المارونية من دون راحة بال. وعليه يمكن القول ان البطريرك صفير يخشى ان تنعكس الازمة الراهنة على موقع الرئاسة مجدداً، وتتطور الامور على نحو يفضي الى اختيار رئيس في ظروف لا يكون للمسيحيين فيها رأي ولا مشورة، وربما تغيرت آليات هذا الاختيار، فيتحول موقع الرئاسة الى مجرد منصب شرفي لإرضاء هذا الطرف او ذاك، فلا يكون للمارونية السياسية من موقع الرئاسة الا اسم الرئيس! ان تشديد البيان الشهري الثاني لمجلس المطارنة الموارنة على اجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها، ومطالبة النواب جميعاً بحضور جلسة الانتخاب، مؤشر الى المخاوف المتعاظمة في اوساط البطريركية المارونية من نجاح الجهود الساعية الى فشل المجلس في هذه المهمة التاريخية، والدخول في مرحلة تنفلت البلاد من دستورها، فيصعب معها الحديث عن قانون الانتخابات، وأطر سياسية وقانونية، واقلية وغالبية، فيحدث فراغ في المنصب الاول، فضلاً عن انه يبدو ان لدى البطريرك نصرالله صفير معلومات شبه مؤكدة بوجود قرار سوري سيجري تنفيذه من خلال المعارضة بأن هذا المجلس لن ينتخب رئيساً، فيصار الى تشكيل حكومة تعتبر المجلس منحلاً، ما يعني ان البلد مرشح للدخول في ازمة سياسية حقيقية وموحشة، ومن هنا حرص صفير على اتمام هذه الخطوة ودعوته النواب الى ان يقاطعوا داخل مجلس النواب بدلاً من مقاطعة الجلسة، فمقاطعة جلسة البرلمان ربما تحولت الى ذريعة لبدء الحديث عن انهياره. ولهذا يجب تقدير تحرك البطريرك لحماية موقع الرئاسة من العبث لانه مطلب وطني في المحصلة، بصرف النظر عن البعد الطائفي في الموضوع. لا شك ان تنفيذ استحقاق منصب الرئاسة في لبنان في موعده هو الجدار الاخير لحماية لبنان من ازمة سياسية محققة، فمن الواضح، في ظل التصعيد المتبادل بين طرفي الازمة، ان الاتفاق على ما يسمى حكومة وحدة وطنية لن يتم، وحتى في حال تحول الحديث عن حكومة وحدة وطنية الى واقع ملموس، فإن هذه الحكومة لن تعمر طويلاً لأن من يطالبون بها يهدفون الى كسب الوقت وليس للخروج من المشكلة، وامام وضع كهذا فإن على الاطراف الساعية الى نزع فتيل الازمة في لبنان، مطالبة الاكثرية بالمرونة تجاه بعض المواقف، وصولاً الى حسم قضية الرئيس قبل فوات الاوان، فتركها للسجال الداخلي من دون تحرك عاجل يعني ببساطة ادخال لبنان، حتى لا اقول المنطقة كلها، تحت البند السابع.