كان الانقسام بين اللبنانيين في 13 نيسان ابريل 1975 انقساماً سياسياً يندرج في جنب منه في إطار الحرب الباردة والصراع العربي - الإسرائيلي، وفي جانب آخر في إطار الصراع التقليدي حول السلطة بين الطوائف اللبنانية. في 13 نيسان 2007، لا يزال هناك انقسام بين اللبنانيين، ولكنه من طبيعة مختلفة. لم تعد السياسة هي الأساس فيه، بل الثقافة بمعناها الواسع. فالذي نشهده اليوم في لبنان هو، في جوهره، صراع ما بين ثقافتين: ثقافة موت وثقافة حياة. لقد عشنا في لبنان على مدى أكثر من ثلاثين سنة أسرى"ثقافة الموت"، مدفوعين في كل لحظة الى الاصطفاف، بلا شروط، خلف القوى الأشد تطرفاً من بيننا، تارةً باسم المبادئ الكبرى، وتارةً باسم الإخلاص لانتماءات قومية أو طائفية أو غير ذلك. هذه القوى استغلت عاملي الكبت والخوف للسيطرة على طوائفها، فدفعتها الى التماس"حمايات خارجية"، في محاولة لتعديل موازين القوى الداخلية، بدعم من الخارج ووفقاً لشروطه. لقد كلفتنا"ثقافة الموت"هذه ثمناً باهظاً: 144240 قتيلاً، 17415 مفقوداً، وپ197506 جرحى. هذا الى تدمير مدننا وقرانا، وهجرة مئات الألوف من أبنائنا، وتدني مداخيلنا، وانخفاض نوعية عيشنا! لقد دفعنا الثمن من لحمنا الحيّ، من قدرتنا على الأمل وأهليتنا لبلوغ السعادة، ومن احترامنا لأنفسنا! لم يكن اللبنانيون وحدهم في هذه المنطقة من العالم أسرى"ثقافة الموت"هذه. فهي الثقافة ذاتها التي أدت الى طرد الشعب الفلسطيني من أرضه، الأمر الذي استجرّ ست حروب عربية - إسرائيلية، وهيَّج المشاعر القومية في المنطقة العربية، فحمل الى السلطة حكومات عسكرية، وضعت شعوبها تحت قوانين الطوارئ لعقود من الزمن، باسم الاستعداد للمعركة القمية، وكبتاً لأي صوت يعلو فوق صوت المعركة. هي الثقافة ذاتها التي أفشلت مفاوضات السلام منذ العام 1991، وأشعلت نيران الحروب الأهلية في الجزائر والصومال والسودان. وهي التي حملت القيادة العراقية على إدخال العراق في أتون ثلاث حروب متوالية في بضع سنين، مفسحة في المجال، للمرة الأولى في تاريخ المنطقة العربية الحديث، لحرب أهلية بين المسلمين السنّة والمسلمين الشيعة. هي"ثقافة الموت"ذاتها التي تدعو في صراع الحضارات وصدام الثقافات، بما في ذلك صدام الأديان، زاعمة احتكار الحقيقة، فتضع البلدان في محور خير ومحور شر، وتصنّف الناس بين أهل كفر وأهل إيمان. وهي أخيراً"ثقافة الموت"ذاتها التي تضرب مفهوم العدالة والقانون الدولي، من خلال النظر بعين واحدة والكيل بمكيالين: ضد السلاح النووي في إيران، ومعه في إسرائيل! مع تطبيق قرارات الشرعية الدولية بالقوة في العراق، والتغاضي عن عدم تطبيقها في فلسطين! مع اعتراف العرب بدولة إسرائيل، والتسامح مع إسرائيل في رفضها الاعتراف بالدولة الفلسطينية!... لقد بدأ اللبنانيون التفكير والعمل على تجاوز ثقافة الموت بعد توقف الحرب في العام 1990، فقد نشأ خط التواصل اللبناني في مواجهة سياسة الفصل والتقسيم التي اعتمدتها سلطة الوصاية السورية منذ البداية، تلك السياسة التي رمت الى منع المصالح الوطنية بعد الحرب، والى تشكيل دولة أمنية تمثل قوة الفصل والردع الأساسية في المجتمع اللبناني. لم يتمكن خط التواصل اللبناني من تحقيق أهدافه الا بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ففي الرابع عشر من آذار مارس 2005، استطاع اللبنانيون أن يتجاوزوا"ثقافة الموت"، بتجاوزهم ماضي الحروب والآلام والمهانة واليأس، ليأخذوا بيدهم مصيرهم الوطني. ان قوة هذه الحركة وقدرتها الاستثنائية على اجتذاب من شاركوا فيها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إنما تكمنان في تعبيرها عن إرادة اللبنانيين ورغبتهم في العودة إلى"العيش معاً"، في إطار وطني واضح المعالم، يكونون فيه أسياد أنفسهم بلا منازع. لقد شهد الرابع عشر من آذار ولادة هوية وطنية جامعة لا تقوم على استتباع فريق طائفي لآخر ولا تشترط إلغاء الانتماءات الطائفية المتعددة، كما شهد هذا اليوم التاريخي اختباراً ملموساً لقانون يميّز حياتنا الوطنية وهو ان الوحدة الداخلية شرط الاستقلال. بيد ان اللبنانيين، الذين اكتشفوا ثقافة اخرى، هي"ثقافة الحياة"، لم يتوفر لهم الوقت ولا الوسائل الكافية لتمكين هذه الثقافة الجديدة في حياتهم السياسية. ففي غضون ايام قليلة أعقبت الرابع عشر من آذار 2005، شنّت القيادة السورية حملة شرسة للعودة بالبلد الى ما كان عليه قبل انتفاضة الاستقلال: من اغتيالات ومحاولات اغتيال، الى تفجيرات متنقلة في بعض المناطق، الى تحرشات بالجيش اللبناني، الى العمل على تعطيل المؤسسات... وفي 12 تموز 2006، قام"حزب الله"باختطاف جنديين إسرائيليين من خارج"الخط الأزرق"، فواجه اللبنانيون حرباً مدمرة لم يختاروها، ويتوجب عليهم دفع كلفتها، كما وجدوا أنفسهم على خط مواجهة كونية بين"إسلام جهادي"تقوده ايران الساعية الى اعتراف بدورها الإقليمي، وبين قوى دولية تريد فرض"أجندتها"على المنطقة. وهي مواجهة إلغائية للبنان والعالم العربي. ان اللبنانيين، في غالبيتهم الساحقة، لا يستطيعون ولا يريدون الاستمرار في التعايش مع"ثقافة الموت"هذه. غير ان كسر دورة الموت، والتأسيس لثقافة الحياة، يتطلبان اتخاذ قرار جذري: هو ان نعمل على تغيير"الزمن اللبناني"المحكوم بخلافات وصراعات زعماء وأحزاب الطوائف حول حصة كل منهم في الدولة وأجهزتها، وأن نبني دولة الاستقلال الثاني بعد ان انتهت دولة الاستقلال الأول مع اندلاع الحرب اللبنانية وسقطت دولة الوصاية السورية التي حلت مكانها في الرابع عشر من آذار 2005. دولة الاستقلال المطلوبة هي"الدولة المدنية، الحديثة، الديموقراطية، القائمة على التوفيق بين المواطنية والتعددية"المجتمع البطريركي الماروني، ذلك"أن المشروع الذي يناسب الجميع هو مشروع لبنان، وليس مشروعاً شيعياً أو سنياً أو درزياً أو مارونياً أو أرثوذكسياً... إنه مشروع دولة مدنية لا دين لها"الإمام محمد مهدي شمس الدين. فدولة الاستقلال التي تقوم بالضرورة على العيش المشترك لا يمكنها إلا ان تكون دولة مدنية، بمعنى انها: * دولة غير طائفية، لا تمنح حقوقاً إلا للمواطنين، على قاعدة المساواة والعدالة اللتين بدونهما يغدو التنوع مصدر صراع يستجر عنفاً ينتهي بدوره الى إلغاء التنوع. * دولة غير علمانية - بالمفهوم التقليدي للعلمنة-، لا تجد نفسها في حال صراع مع طوائفها، ولا تقدم على اتخاذ قرارات من شأنها تهديد وجود الطوائف وحضورها الحر أو الإضرار بإرادتها في العيش معاً. ودولة الاستقلال هذه هي التي تستطيع المساهمة في تطوير النظرة الجديدة إلى المصلحة العربية التي بدأت تتبلور على قاعدة الواقعية والاعتدال والتي تقوم، كما جاء في"إعلان الرياض"، على"ثقافة الاعتدال والتسامح والحوار والانفتاح، ورفض كل أشكال الإرهاب والغلو والتطرف وجميع التموجات العنصرية وحملات الكراهية والتشويه". * نائب لبناني.