31.6% نمو متوقع بصادرات المملكة لدول الخليج    شاشة تفاعلية في موسم تمور الأحساء    دحول الصمان ملاذات الجن ومعاقل الفتيات الحسان    4.4% ارتفاعا في جملة الزراعة والأسماك    Guinness توثق أكبر طبق جولوف    %44 من شركات إنتاج الروبوتات يابانية    نشاط بركاني طويل على القمر    أرض غزة فلسطينية    غوتيريش: الوضع في غزة «مروع»    مبابي يقود ريال مدريد المنقوص إلى فوز صعب على مرسيليا    يوم النخيل العربي    انتظر في حسرتي لين الغياب    ماكل هرج نسمعه نستمع له ولا كل من وصِي على الطيب طابي    اللصقات الهرمونية أنسب لمرضى السكري    وجبة دهون واحدة تضعف الذاكرة    جلسة علمية تستعرض تاريخ الجزيرة العربية    الهلال يتغلب على الدحيل بثنائية في النخبة الآسيوية    جامعة الملك سعود تخترع ربورت لمكافحة الحرائق    الهلال يبدأ مشواره في دوري أبطال أسيا للنخبة بالفوز على الدحيل    في غياب رونالدو.. تشكيل النصر المتوقع أمام الاستقلال    أمانة الشرقية تشارك في المنتدى العالمي للبنية التحتية بالرياض    "وزير الشؤون الإسلامية" يوجّه خطباء الجوامع للحديث عن نعم الوطن ووحدة الصف في خطبة الجمعة القادمة    الشؤون الإسلامية في جازان تنفذ أكثر من 90 جولة ميدانية لصيانة عدد من الجوامع والمساجد    وزير الدفاع وقائد القيادة المركزية الأميركية يستعرضان التعاون في المجالات العسكرية والدفاعية    إحباط تهريب (10) كجم "حشيش" في عسير    خطى ثابتة لمستقبل واعد    الإعلام في مهرجانات الإبل والهجن من صوت التراث إلى صناعة المستقبل    ولي العهد يستقبل أمين مجلس الأمن القومي الإيراني    أمام مجلس حقوق الإنسان.. المملكة تدين الاعتداء الإسرائيلي على سيادة قطر    مجلس الوزاء يوافق على عدة قرارات ويجدد الدعم لفلسطين وقطر وسوريا    سلمان بن سلطان يفتتح منتدى المدينة للتعليم    القيادة تهنئ رئيسة الولايات المتحدة المكسيكية بذكرى استقلال بلادها    الوقوف في الأماكن غير المخصصة مخالفة مرورية تعطل انسيابية السير    مستشفى قوى الأمن بالدمام يحصل على المركز الأول في جائزة أداء الصحة بمسار الأمومة والطفولة    40 طبيبا يبحثون أحدث طرق علاج أمراض الدم بالمدينة    "موسم الرياض" يشهد أضخم حدث لكرة القدم الأميركية بنظام العلم    النقل تفرض غرامات وحجز المركبات غير النظامية    محافظ الأحساء يكرّم مواطنًا تبرع بكليته لأخيه    وسط تعثر الجهود الدبلوماسية.. استمرار التصعيد العسكري بين روسيا وأوكرانيا    إطلاق مبادرة تصحيح أوضاع الصقور بالسعودية    يستعيد محفظته المفقودة بعد 51 سنة    «قدم مكسورة» تدخل تامر حسني المستشفى    ظل الماضي    سوريا.. ضبط شحنة أسلحة معدة للتهريب للخارج    السلوك العام.. صورة المجتمع    الإسراف وإنفاق ما لا نملك    متقن    الأرصاد: حالة مطرية بمحافظات مكة حتى الجمعة    أمير القصيم يزور محافظة البدائع ويلتقي المواطنين ويطلع على مشاريع تنموية تفوق 100 مليون ريال    «الموارد» : انتهاء فترة حظر العمل تحت أشعة الشمس    أعلنوا رفضهم للاعتداء على قطر.. قادة الدول العربية والإسلامية: ردع إسرائيل لحماية أمن واستقرار المنطقة    الفيصل رئيساً للاتحاد العربي    لبنان يوقف عملاء لإسرائيل ويفكك شبكة تهريب مخدرات    دراسة أسترالية: النظام الغذائي يحد من اضطرابات النوم والأمراض المزمنة    تكريس الجذور واستشراف للمستقبل    عزنا بطبعنا    نائب أمير تبوك يستقبل مدير عام فرع الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمنطقة    المفتي يستعرض جهود وأعمال الدفاع المدني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ألف وجة لألف عام - "إلحاح الذاكرة" سلفادور دالي : الجنون قناع لا أكثر
نشر في الحياة يوم 01 - 04 - 2007

ربما كان الجنون هو الصفة الأكثر التصاقاً بالرسام الإسباني سلفادور دالي ... إذ لا شك أن الكلمة الأولى التي تخطر على بال الناس حين يصار الى الحديث عنه أو الى مجرد ذكر اسمه هي كلمة "مجنون"... ولكن بالتأكيد، ليس دائماً بالمعنى السيئ للكلمة. بل نكاد نقول ان سلفادور دالي كان واحداً من قلة من المبدعين في القرن العشرين اجبروا الناس على إعادة تعريف كلمة مجنون، لربطها بالعبقرية والإبداع والفن في شكل عام. ولعلنا، هنا لا نكون بعيدين من الصواب إن نحن ذكرنا ان دالي نفسه، في فنه خصوصاً، ولكن أيضاً في تصرفاته وفي سمات شخصيته، وفي كل تعامله مع الزمن الذي عاشه والأحداث التي واكبها وواكبته، كان ينمي من حوله فكرة الجنون. ومع هذا كان أندريه بريتون، زعيم السوريالية، التي إليها انتمى دالي فنياً أول الأمر، يقول عنه إنه لم يكن مجنوناً على الإطلاق بل كان انتهازياً، همه الأساس الحصول على المكاسب المادية، الى درجة إن بريتون حرّف اسم"سفادور دالي"آفيدا دولاري"ومعناه"النهم إلى الدولارات". غير ان يريتون، وفي سطوته كلها، إذا كان استطاع أن يقنع كثراً ب"فساد أخلاق"دالي، فإنه لم يقنع أحداً بأن هذا الأخير ليس فناناً حقيقياً، ليس واحداً من كبار فناني القرن العشرين. بل لعلنا سنكون أكثر صواباً إن نحن قلنا إنه كان على أي حال - أكثر فناني القرن الفائت خيالاً وربطاً للفن بالخيال، وتوسعاً في استخدام العناصر البصرية في لوحاته، من دون أن يعني هذا أي إهمال لعنصر المعنى، على عكس ما يتصور كثر.
في هذا المعنى لا بد من أن نقول ونكرر دائماً إن أعمال سلفادور دالي، ليست إنجازات شكلية فقط، على روعة هذه الإنجازات الشكلية، بل هي تعمق في المضمون الإنساني والفكري أيضاً، تعمّقٌ لا شك أنه، على رغم كل المظاهر من شأنه هو فقط أن يعطي الجنون نفسه دلالات غير معهودة. أو على الأقل يجعل من الجنون طريقاً الى الفعل، والى فهم الزمن وإدراك جوهر الأمور. ولا شك أن إعادة"قراءة"معظم لوحات سلفادور دالي، على ضوء قراءة نصوص كتبها، أو حتى على ضوء"قراءة"الزمن والظروف التي خلالها رسم ما رسم، قادرة هذه الإعادة على رسم صورة لدالي قد تكون مختلفة عن الصورة المعهودة. بل تقترب مما كان أندريه بريتون يقوله، وإنما مع استنتاجات أخرى، غير تلك المسلكية الحافلة بالإدانة التي كان بريتون يتوخّاها.
في شكل أو آخر، يمكننا أن نفترض هنا ان واحداً من العلوم الأساسية التي ينبغي أن نستخدمها ل"قراءة"بعض أبرز أعمال سلفادور دالي، هو علم النفس، أو الأحرى التحليل النفسي. ذلك إن هذا الرسام الذي عرف نصوص فرويد وحوارييه باكراً، وصولاً الى رسمه فرويد نفسه وإنجازه لوحات عديدة تكاد تكون ترجمة حرفية لنظريات التحليل النفسي، كان واعياً تمام الوعي لكل عنصر تضمه لوحته وكان يعرف وظيفة هذا العنصر في اللوحة التي تتحول لديه بسرعة الى مجموعة من الدالاّت التي تبدو في النهاية وكأنها تحتوي حكاية وفكراً إضافة إلى احتوائها رؤية ما. والحقيقة إن المرء يمكنه ان يصل بسهولة إلى مثل هذا الاستنتاج إن أعطى وقتاً كافياً وجهداً إضافياً لقراءة كل لوحة ووضعها في سياقها التاريخي و... الفكري فكيف ودالي نفسه سهل الأمر وأكثر، هو الذي بحبه الكبير للحديث عن لوحاته والكتابة عنها، غالباً ما أعطى مفاتيح هامة لقراءة هذه الأعمال، لا سيّما حين يمعن في الثرثرة عن كيفية رسمه عملاً ما، نافياً - مواربة - أي ربط لهذا العمل بتلك الممارسة التلقائية التي كان يحلو لبريتون و للسورياليين الحديث عنها بوصفها جوهر الفن السوريالي؟ ترى أفليس في مثل هذه اللحظات يمكن اكتشاف حقيقة الشرخ بين سلفادور دالي، السوريالي المستقل، وبين السوريالية الرسمية؟ طبعاً ليس الجواب على هذا السؤال هو ما نود أن نتوقف عنده هنا، بل ما يهمنا هو ربط عمل لدالي، معين ومشهور، بتفسير دالي نفسه له، أو على الأقل بكلامه عنه.
والعمل الذي يخطر في بالنا في هذا السياق هو اللوحة الأكثر شهرة بين أعمال دالي"إلحاح الذاكرة"أو"الساعات الرخوة"اللوحة التي رسمها في العام 1931 وتعتبر، على صغر مساحتها 24-33سم مفتاحاً أساسياً من مفاتيح فهم علاقة فن سلفادور دالي بالفكر... الواعي.
في تعليقه على الساعات الرخوة، في هذه اللوحة غيرها، قال دالي مرة:"تماماً كما يدهشني إن موظفاً في مصرف لا يأكل شيكاً، يدهشني أيضاً أن أي رسام قبلي، لم يفكر في رسم ساعة رخوة.. اما بصدد لوحة"إلحاح الذاكرة"هذه، فكتب دالي يتحدث عن كيف اكتملت لديه فكرتها:"كنا قد أنهينا عشاء وفيه قطع رائعة من جبنة الكاممبير. وحين بقيت في غرفة الطعام وحدي بقيت برهة مستنداً إلى المائدة أفكر في المسألة التي يثيرها الارتخاء المفرط لتلك الجبنة السائلة... اللوحة التي كنت في صدد رسمها في ذلك الحين كانت تمثل مشهداً طبيعياً موجوداً في جوار منطقة برو - ييغا، حيث تبدو الصخور دائماً وكأنها مغمورة بضوء غسقي. كنت أشعر تماماً أن تلك الخلفية المشهدية يجب أن تخدم تصوير فكرة ما... ولكن ما هي تلك الفكرة؟ كنت أعلم أيضاً أنني في حاجة كي تكتمل اللوحة إلى صورة مفاجئة ولم أكن تمكنت من العثور على تلك الصورة. ذات لحظة توجهت لأطفئ ضوء الغرفة وأخرج. وفي اللحظة نفسها"رأيت"الحل، بالمعنى الحرفي للكلمة: رأيت ساعتين رخوتين تتدلى إحداهما في شكل مثير للشفقة من على غصن شجرة زيتون".
هكذا، إذاً، ولد الجانب"الغريب"، السوريالي في هذه اللوحة. ولد من تصور واقعي تماماً، أعاد الرسام توظيفه بصورة عقلانية أولاً - وحسب ما يؤكد هو نفسه - للوصول إلى فكرة معينة، وثانياً، لأحداث صدمة مفاجئة لدى الناظر إلى اللوحة.
فهلا يكون من شأن هذا التأكيد. أن يفتح مجالات عديدة وإضافية لدراسة فن سلفادور دالي على أسس أكثر عقلانية؟
هذا أمر حاوله النقاد والدارسون دائماً لا سيّما هذه اللوحة التي وصفت دائماً بأنها تنتمي إلى"منهج البارانويا النقدية"، ما يضعنا مرة واحدة في صلب بعدين أساسيين: التحليل النفسي، والوظيفة الهدامة للفن. ودالي لم يكن أبداً بعيداً من هذه الازدواجية... وهو أمر تؤكد هذه اللوحة التي يربط النقاد بينها مباشرة وبين البارانويا الرهاب خصوصاً من حيث ان هذا الرهاب يجد تعبيره هنا في الهلوسات المزمنة والهذيان وجنون العظمة وعقدة الاضطهاد. ومن الواضح أن كل عنصر من عناصر هذه اللوحة يأتي معبراً عن هذا كله في الوقت نفسه، من الحيّز الخالي الصحراوي، الى الشجرة العارية الى الصخور الجرداء، وصولاً إلى الاشكال المرتخية والزمن السائل، إضافة إلى الزمن الغائب، في الساعة الوحيدة التي لا تبدو رخوة لكنها مقلوبة بحيث - تخفي ميناءها -، وصولاً إلى الشكل الذي أعطي للساعات الرخوة: شكل ألسنة تلهث بفعل ربو يكاد يتفجّر فوق اللوحة.
واضح أن ليس ثمة أيّ تلقائية، أو عفوية، في تركيبة عناصر هذه اللوحة. بل إن الأمر يبدو وكأن الرسام يسعى الى التعبير، بأشكال مقصودة ومرتبّة عقلانياً، عن رؤية ذات فكرة واضحة. وإذا كان في الإمكان قول هذا عن هذه اللوحة لسلفادور دالي، فإنه ينطبق بالتأكيد على أعمال كثيرة له أخرى، يكاد القاسم المشترك بينها أن يكون البروز المفاجئ للغة العقل والمنطق، من خلال ما يبدو غياباً لهما، لدى فنان عاش القرن العشرين كله 1904 - 1989 يرسم أعمالاً رائعة ويكتب عنها نصوصاً واعية ساخرة، ثم يرتدي قناع الجنون يبيعه بمكر ودهاء لمن كان يحب أن يشتري... ونعرف إن المشترين كانوا كثراً...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.