"يُعزف الآن النشيد الوطني". يرتصف فريقا كرة القدم في الملعب الواسع. ترتسم مهابة النشيد - الرمز، على وجوه الحكام. الجميع في حال استعداد يذكر بذهاب الجنود الى المعركة، كالعادة عند عزف تلك الاناشيد. هكذا يفتتح إعلان لإحدى شركات المشروب غير الروحي في مونديال ألمانيا 2006. وسرعان ما تنتقل كاميرا الاعلان الى الجمهور، الذي يبدو اقل تهيّباً. ولا يظهر في صفوفه آثار الهويات الوطنية، التي تغصّ بها مشاهد الجمهور الذي يتابع مباريات المونديال الفعلي في ملاعب ألمانيا. ليس ثمة من طلى وجهه بألوان علم بلاده، ولا من حوّلت جسدها ملعباً لرسم رموز الهوية"الكبيرة"للشعب والوطن. في صفوف الجمهور، يظهر لاعبو كرة القدم العالميون، الذين باتوا من رموز العولمة البصرية للفضائيات، خصوصاً لدى الأجيال الشابة. يظهر دافيد تريزيغيه وتيري هنري، وكلاهما في ملابس"كاجوال". تصدر همهمة عن الجمهور. فعلى الشاشة الكبيرة تظهر مغنيتان: الاميركية مادونا واللبنانية إليسا. ويتحدى الظهور النسائي لحظة الاناشيد الوطنية المُغرقة في ذكوريتها وتحيزاتها. وبدل الموسيقى المهيبة، تندلع أصوات الغناء. تُصاب مراسم النشيد الوطني بالارتباك. وتبدو الهوية الأُحادية للنشيد المهيب وقد باتت في مهب ريح النساء وخفة الموسيقى وملابس العولمة وتمدد الشركات العملاقة العابرة لحدود القوميات، سعياً وراء إحكام قبضتها على السوق العالمية. وعلى صدى كلمات الحب، والتهريج الضاحك لكلمة"دا دا"تعني نعم بالالمانية، تندفع أجساد الجمهور الى الرقص. وتتدافع التناقضات أيضاً. فيبدو تراقص الانكليزي بيكهام بالسخرية من النشيد الوطني، على تناقض مع هوس"الهوليغانز"بالهوية البريطانية، وأحياناً بالهوية الانكليزية الأضيق. ويتناقض ضحك هنري مع مظاهر التعصب للهويات الذي يغزو الملاعب الاوروبية، بما فيها الفرنسية. وليس ببعيد من الذاكرة ان شوفينياً مثل جان ماري لوبان أرجع هزائم سابقة للمنتخب الفرنسي الى انه مكوّن من اصحاب البشرات السود مثل تيري هنري والمسلمين مثل زيدان وغيرهم. وثمة إعلان آخر عن المونديال، للشركة عينها، يُظهر سخرية من مظاهر الهوية الضيقة، حيث يتبارى اللاعبون المعولمون، مثل روبرتو كارلوس وبيكهام وهنري، مع فريق يتقصد الالتزام الشديد، الى حد إثارة الضحك، بالملابس التي تدل على هوية محلية. وأما في شاشات المونديال الفعلي، فيظهر تناقض قوي بين العولمة والهوية الفردية أيضاً، على رغم المزاعم المتكررة بالترابط بينهما. فمثلاً، يظهر كثر ميلاً قوياً لتمييز هويتهم الفردية، خصوصاً في حضورها البصري، عبر الوشم والالوان وقصات الشعر ورسوم الجلد وغيرها. ولكن يظهر العلم الوطني وكأنه يستولي دوماً على الالوان والاشكال التي تستعمل في التميّز الفردي.