يحكي داعية السلام الإسرائيلي يوري افنيري هذه القصة : قبل 27 سنة دعيت لإلقاء محاضرات في جولة تشمل 30 جامعة اميركية، بينها الجامعات الكبرى مثل هارفارد وبال وبرنستون ومعهد مساتشوستس للتكنولوجيا وبيركلي وغيرها. كان مضيفي زمالة التوافق، وهي منظمة محترمة غير يهودية، إلا ان المحاضرات نفسها كانت ستلقى تحت رعاية حاخامات جمعية بيل هيليل اليهودية. وعند وصولي الى المطار في نيويورك استقبلني احد منظمي الجولة وقال:"هناك مشكلة بسيطة، ان 29 من الحاخامات ألغوا محاضراتك". في النهاية ألقيت المحاضرات، ولكن تحت رعاية قسس مسيحيين. وعندما وصلنا الى الحاخام الوحيد الذي لم يلغ محاضراتي كشف لي السر: رابطة مكافحة التشهير باليهود بناي بريث وهي شرطة الفكر في المؤسسة اليهودية منعت المحاضرات. ولا تزال عبارة من تلك الزيارة محفورة في ذهني هي"لا نستطيع ان نقول ان عضو الكنيست يوري افنيري خائن... بعد". افنيري حكى ايضاً كيف عاد في السنة التالية ليروج لفكرة دولتين اسرائيلية وفلسطينية وعقد مؤتمراً صحافياً فوجئ بأن ممثلي وسائل الإعلام كافة حضروه، ثم فوجئ اكثر ان هذه الوسائل لم تنشر كلمة واحدة عما دار في المؤتمر الصحافي. وسائل الإعلام الأميركية نفسها تجاهلت الدراسة"اللوبي الإسرائيلي"التي كتبها البروفيسور جون ميرزهايمر من جامعة شيكاغو والبروفسور ستيفن والت من جامعة هارفارد، إلا ان ردود الفعل الحادة التي أثارتها الدراسة جعلت"نيويورك تايمز"تعود بمقال كتبه المؤرخ توني جوت وأكد فيه ان خوف الإعلام التقليدي من اللوبي يمنع قيام حوار عقلاني عن الموضوع. وأختار من مقال جوت باختصار: دراسة الأستاذين أثارت قضايا في السياسة الخارجية الأميركية مطروحة للبحث علناً في الخارج، اما في اميركا فالقصة مختلفة، وهناك صمت شبه كامل في وسائل الإعلام قيل بين اسبابه ان دراسة اكاديمية لا تحظى باهتمام الجمهور، او ان الحديث عن نفوذ هائل لليهود الأميركيين يفوق حجمهم ليس جديداً، ثم ان واشنطن ملأى بكل أنواع اللوبي مثل اللوبي الإسرائيلي. هذه الحجج غير مقنعة، خصوصاً مع الجدل العاصف حول الدراسة في المحافل الأكاديمية وضمن الجالية اليهودية ومجلات الرأي ومواقع الإنترنت. وربما كان الأمر ان هناك خوفاً من ان يؤدي الجدل الى تكريس تهمة"المؤامرة اليهودية"ما يعطي شرعية للاسامية. ولكن كيف نفسر بعد كل هذا ان القضايا التي اثارها الأستاذان ميرزهايمر ووالت اثيرت في شكل واسع في اسرائيل. ان معلقاً في"هاآرتز"الليبرالية قال ان ريتشارد بيرل ودوغلاس فايث"يسيران على خط رفيع بين الولاء للحكومة الأميركية ومصالح اسرائيل"، وجريدة"جيروزاليم بوست"المحافظة قالت ان بول وولفوفيتز"مخلص لإسرائيل". هل نتهم الإسرائيليين بمعاداة الصهيونية؟ الصحافي الإسرائيلي توم سيغيف قال ان الدراسة"متغطرسة"، إلا انه اعترف بعد ذلك بأن كاتبيها"اصابا، فلو أنقذت الولاياتالمتحدة اسرائيل من نفسها، لكانت الحياة اليوم أفضل... ان اللوبي الإسرائيلي في الولاياتالمتحدة يضر بمصالح اسرائيل الحقيقية". جوت يخلص بعد هذا الى القول ان الرقابة الذاتية تؤذي الولاياتالمتحدة نفسها لأنها تحرمها من المشاركة في جدل دولي مثير، ويستشهد بقول دانيال ليفي، الذي كان من مفاوضي السلام الإسرائيليين ان دراسة ميرزهايمر - والت كانت جرس منبه لإيقاظ الناس من سباتهم. أنصار اسرائيل لا ينامون، وهم هاجموا ميرزهايمر ووالت بحدة، ورددوا كما هو متوقع تهمة اللاسامية، غير ان أحقر ما قرأت كان استغلال موقف ديفيد ديوك، وهو عنصري من عصابة كوكلاكس كلان، أيد الدراسة الأكاديمية، فاعتبر تأييده دليلاً على عنصريتها، وهذا مثل ان يدعي قاتل مغتصب الإيمان بالتوراة فترفض لأنه يقرأها. "واشنطن بوست"وپ"بوسطن غلوب"الراقيتان أشارتا الى تأييد ديوك الدراسة، ولكن أحقر استغلال ممكن مارسه جو سكاربوره في محطة ام إس ان بي سي، فقد قدم العنصري ديوك قائلاً:"شكراً لك على وجودك معنا اليوم يا مستر ديوك. لقد هوجمت لأنك عضو سابق في كوكلاكس كلاين ولاسامي، إلا انك الآن في صف جامعة هارفارد. هل تشعر بأنك نلت حقك؟". وقد اشارت"نيويورك صن"الى تأييد ديوك متشفية. ولم يستطع البروفسور دانيال دريزنر، الأستاذ المساعد في جامعة شيكاغو، انتقاد الدراسة بالكامل لأن مؤلفيها اهم منه بكثير، فلجأ الى ديفيد ديوك وتأييده الدراسة كمدخل لانتقادها، وهو لم يقنع غير نفسه بعدم وجود ذلك النفوذ الهائل للوبي اليهودي، ومع ذلك خلص الى القول ان المؤلفين لا يمكن ان يتهما باللاسامية، ولكن بإصدار دراسة تافهة. لو كانت الدراسة تافهة لما كانت اثارت عاصفة لم تهدأ بعد، والواقع ان الحملة المسعورة على المؤلفين اثبتت بذاتها ومن دون أي حاجة الى رد ان الدراسة صحيحة في فكرتها الأساسية، فهناك لوبي اسرائيلي يمسك بخناق السياسة الخارجية الأميركية، مع ان مصالح اسرائيل ليست مصالح اميركا، بل احياناً تتناقض معها، وتأييد اسرائيل هو سبب مشاكل اميركا بين العرب والمسلمين، كما ان احتلال العراق كان لخدمة أمن اسرائيل كما يتوهمه ممثلوها في الإدارة الذين يقدمون مصالحها على مصالح"بلادهم". أين الخطأ في هذا الكلام؟ رابطة مكافحة التشهير المتهمة ردت بالقول ان الدراسة"تحليل كلاسيكي تآمري لاسامي، والبروفسور ايليوت كوهن، من جامعة جونز هوبكنز، كتب مقالاً انتقادياً عنوانه"نعم انها لاسامية"وكذلك فعلت سوزانا فيلدز وعنوانها"اعادة تدوير اللاسامية". اما ماكس بوت فسخر منها على اساس انها"مجنونة"، وزعم جوزف جوف انها أسوأ من"بروتوكولات حكماء صهيون". ثم هناك الآن ديرشوفيتز، وهو محامي اوجي سيمبسون، وإذا كان اعتبر موكله بريئاً فلا عجب ان يعتبر اسرائيل واللوبي بريئين. وهو ايضاً لم يجد ما يدافع به سوى تكرار تهمة اللاسامية المبتذلة، اما ديفيد غيرغن فقال انه خلال سنوات عمله الطويل في البيت الأبيض لم ير احداً يميل بالسياسة الأميركية نحو اسرائيل، ورد الكولونيل لورنس ويلكرسون، مدير مكتب كولن باول في وزارة الخارجية بأن نفوذ اللوبي كان يهمس به همساً خوفاً من ان يُسمع المتحدث. وأُكمل غداً.