حدث في الزمان الغابر ان كلف أبو عمار الشاعر كمال ناصر مهمة في أوروبا. ورفض كمال بإباء وشمم، وأصر أبو عمار، وأخيراً أخرج الشاعر بطاقة هويته وقال للختيار: شوف شو مكتوب. كمال حنا ناصر، مش عنتر بن شداد. هذا شعوري تماماً، فأنا أعارض كل حرب أو عملية عسكرية، وحجتي أنني من دعاة السلام، مع انني أرجح أن الجبن عنصر أساس في موقفي"الانساني"، وقد قررت من البداية أن أكتفي من البطولة، بالحديث عنها أو الكتابة، فهي مهنة قصيرة الأجل جداً، ونحن نقول"ألف جبان، ولا مرة الله يرحمه". يتبع ما سبق انني لم اشترك في تظاهرة في حياتي، مع ان بعضها اعترض طريقي من الجامعة الى البيت، ولم أنضم الى حزب سياسي، أو حتى جمعية، ولم أندم، فالكوارث التي توالت على العالم العربي كسهام المشركين أقنعتني بصواب موقفي القديم الباقي، لأنني لم أشارك في أي نشاط وطني تحول الى كارثة. اليوم أبَسْمِل وأحَوْقل وأهَيْلل وأحَسْبل وأُسَبحِل قبل أن أقرأ جريدة الصباح أو أفتح التلفزيون، فالأخبار مخيفة، أو تخيفني أنا من فلسطين الى العراق، الى كل بلد عربي. ما سبق مقدمة انتقل منها الى مجلة"تايم"الأميركية، ومجلة"الايكونومست"الاقتصادية البريطانية، وجريدتي"الاندبندنت"وپ"الغارديان"اللندنيتين، وغير ذلك كثير. اخترت هذه المطبوعات الراقية مثلاً بعد أن وجدت أنه لا يكفيني أن أخاف من القضايا العربية، فهناك أسباب اضافية للخوف، وكانت مجلة"تايم"وقفت غلافها الأسبوع الماضي على موضوع نهاية الكرة الأرضية بسبب التدمير المتسارع الذي يلحقه بها تغيير الطقس، واختارت عنواناً"كن قلقاً. كن قلقاً جداً". ووجدت أن"الاندبندنت"جعلت من الموضوع"مانشيت"الصفحة الأولى مرتين في أسبوع، في حين ان"الايكونومست"تنشر أخباراً مقلقة عن الطقس أسبوعاً بعد أسبوع، وپ"الغارديان"لا تقصر في تخويف قرائها، وأنا منهم منذ بدأت قراءة الصحف. باختصار، العالم مريض، وربما وصل الى نقطة اللاعودة، كما يبدو من الأعاصير الهائلة التي عصفت ببلاد من استراليا، الى الولاياتالمتحدة، وزيادة الحرارة تضاعف سرعة ذوبان الجليد، حتى ان كتلاً بكاملها بدأت تنسلخ عن غرينلاند، ما يعني ان مناطق ساحلية، وربما بلداناً، ستغرق تحت الماء. وفي حين ان الانسان مهدد في النهاية، فإن الكارثة البيئية أثرت فعلاً في النبات في كل قارة، وفي الحيوان من الفيل في أفريقيا الى فأر جنوبالولاياتالمتحدة، وضفادع أميركا الوسطى، وفراشات أوروبا. وكنت أعتقد أن الأمير تشارلز، ولي عهد بريطانيا، من أنصار البيئة البارزين، وهو كذلك فعلاً، الا ان صحف لندن قالت ان رحلته الى الهند ومصر والمملكة العربية السعودية التي قطع فيها مع الفريق المرافق 9272 ميلاً في طائرة كبيرة انتجت 42 طناً من ثاني أوكسيد الكربون، وهذا المجرم الأول في موضوع رفع حرارة الطقس وتدمير البيئة تدريجاً. وتهون جنحة الأمير تشارلز مع جناية رئيس الوزراء توني بلير، فهو زار الشرق الأقصى مع فريق كبير، وكانت البيئة من ضمن مواضيع البحث مع رئيس وزراء استراليا جون هوارد وغيره، الا انه استهلك في محاولته انقاذ البيئة 714 طناً من ثاني أوكسيد الكربون. وأنا أنتظر الآن كم هي أطنان التلوث البيئي، بعد التلوث السياسي، التي تبعت زيارة الوزيرين كوندوليزا رايس وجاك سترو العراق لانقاذ ما يمكن انقاذه. كل ما سبق يثبت أمرين، اذا لم نسافر أو نفعل شيئاً نساعد البيئة، واذا لم ننشط في القضايا الوطنية ننقذ بلادنا على أساس أن كل جهد بذلناه زاد الأوضاع سوءاً، وهذا من يوم ضياع فلسطين وقول كمال ناصر:"سبع يا شرق من الدول/ تمشي للخلف على عجل". والآن صرنا 22 دولة وزادت وتيرة الركض الى خلف التي تعرف أيضاً باسم ديناميكية التخلف. أنا فقط رب إبلي، فأسجل أن ليس لي دور بيئي أو وطني سوى الفرجة من على جدار عالٍ، ما يعطني الوقت للتفكير في أن الفارق بين الشجاعة والجبن هو أن الشجاع يجهل الموضوع، أما الجبان فيعرف المحاذير، لذلك أقول للقارئ انه اذا حافظ على رباطة جأشه والناس حوله قد فقدوا أعصابهم فالسبب هو أنه يجهل فداحة الخطر. وكنت صغيراً سمعت قولاً مأثوراً لبطل التحرر في أميركا اللاتينية سيمون بوليفار هو:"من الأفضل أن تموت واقفاً على قدميك من أن تعيش راكعاً". ثم وجدت أن هذا الكلام ينسب الى أبطال آخرين في بلدان أخرى، غير ان القاسم المشترك بين هؤلاء الأبطال انهم جميعاً ماتوا. ولا جديد تحت الشمس، فالجبان الانكليزي، أو باللغة الانكليزية، ترك عبارة مشهورة هي: ان الذي يقاتل ويفر يعيش ليقاتل يوماً آخر. وكان جبان عربي سبقه الى المعنى نفسه قبل 1400 سنة فقال:"الله يعلم ما تركت قتالهم/ حتى رموا فرسي بأشقر مزبد"، أي الدم، فتركهم والأحبّة، فيهم"أملاً بلقاء يوم مرصد". وهذا مثل المشرك الذي فر من سيوف المشركين في يوم الخندمة، وعندما عاتبته زوجته قال:"انك لو ترين يوم الخندمة/ اذ فر صفوان وفر عكرمة/ وتبعتنا بالسيوف المسلمة/ لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة". وكلمة أخيرة، فما يجمع بين قضية البيئة، وقضية الشرق الأوسط هو ان الكل متفق على وجود مشكلة ومختلف على الحل.