شأني شأن الكثيرين من خلق الله كنت اجهل الروائي والكاتب اورهان باموك، ولم اكن اعرف عنه أكثر مما ورد في نبأ إخباري نشر منذ فترة مفاده"باموك سيمثل أمام القضاء بتهمة الإساءة للدولة التركية"، وهذا يعني تلقائياً ان الروائي باموك لم يعد ذئباً رمادياً ولا تركياً قحاً كأقرانه من أحفاد كمال اتاتورك، وقد أقحم نفسه في أمور"لا تعنيه"وتجرأ على فتح ملفات حساسة جداً تتعلق"بالمجازر المليونية للأرمن والاضطهاد القومي للكرد"والتي تعتبر من المحظورات في سجلات الثقافة الطورانية، وتشكل خطراً على الأمن القومي التركي، ومساساً بهيبة الدولة التركية وثوابتها، وإهانة وتجريحاً لمشاعر الملايين من الأتراك"وآل عثمان"، ولولا تدخل بعض الدول الغربية وتملق الدولة التركية وسعيها لتأمين تأشيرة الدخول الى ربوع جنة الاتحاد الأوروبي، لكان باموك الكاتب والروائي المبدع ابن 54 عاماً يقضي حياته اليوم خلف القضبان، ونال الكثير من الذل والمعاناة في سجون بلاده تركيا بدلاً من جائزة نوبل للآداب للعام الحالي، وتمت معاملته كخارج عن القانون وناكر للعقيدة الكمالية. اورهان باموك كاتب تركي ليس كغيره من مثقفي تركيا الحديثة ومريدي الايديولوجية القومية التركية الضيقة، يعرف عنه دفاعه عن الحريات في بلد يتميز بتبجيل وتعظيم الذات وإنكار الآخر، ويقوم على منطق"تركي زائد كردي يساوي تركيين". خبر حصول باموك على جائزة نوبل، كان له وقعه على ذاكرتي المبعثرة ليعيد الى أسوارها الكاتب والباحث التركي إسماعيل بشكجي الفتى التركي الذي أراد له القدر ان يقضي خدمته العسكرية الإلزامية خلال 1962 1964 في كردستان والتي تسمى بالتركية جنوب شرقي الأناضول، وبين سكانها الكرد والذين يسمون بالتركية أتراك الجبال، ليرى بأم عينه ويكتشف عن قرب، ان الكرد ليسوا تركاً بل أمة قائمة بذاتها، ويصل الى حقيقة وقناعة راسخة كون الكرد شعباً مظلوماً ومضطهداً ويعاني على يد مستعمريه الترك الكثير من المآسي والويلات، ولأن الحق دائماً أقوى وأبقى من الباطل ومن ثقافة القوميين الأتراك وشوفينيتهم، وجد بشكجي نفسه يكتب ويدافع عن الكرد وحقوقهم، متحدياً الدولة التركية وقوانينها وجبروتها، البروفسور في العلوم الاجتماعية والسياسية إسماعيل بشكجي التركي الأصل، كرس حياته وكل جهوده في الدفاع عن القضية الكردية، وتعرض نتيجة لمواقفه النبيلة لملاحقة وعداء الدولة التركية، وصدرت بحقه أحكام بالسجن تصل الى اكثر من مئتي عام قضى منها اكثر من عشرين عاماً في غياهب السجون والمعتقلات التركية. كما تذكرت الأرمن الشعب الطيب والجار والصديق الذي كان ضحية الجهل والتعصب الديني والقومي، حيث تعرض لأكبر جرائم الإبادة الجماعية في العشرينات من القرن الماضي، إذ قتل وفي شكل وحشي اكثر من مليون ونصف مليون ارمني من المدنيين العزل، وتعرضت الأمة الأرمنية لتصفيات جماعية بشعة على مرأى ومسمع العالم والمجتمع الدولي، ومن الصعب اليوم قبول الصمت والسكوت الدوليين إزاء تلك المذابح الوحشية، التي تعتبر بكل المقاييس ظاهرة لا أخلاقية فجة وصارخة في تاريخ البشرية. جرائم الإبادة الجماعية لا تتقادم بمرور الزمن، واعتراف الدولة التركية بارتكابها ومسؤوليتها المباشرة عن تلك الجرائم هو أضعف الإيمان، والاعتذار الصريح والواضح وحتى التعويض من بديهيات الحقوق المشروعة والعادلة للأرمن. الحكومة اللبنانية وللأسف لم تتجاوب مع رغبة مواطنيها من الأرمن ولم ترفض المشاركة التركية في صفوف"اليونيفل"داخل الأراضي اللبنانية، ولو فعلت الحكومة اللبنانية واقدمت على ذلك وصرحت عن أسباب رفضها للوجود التركي بسبب تعنت تركيا وعدم اعترافها بجرائمها بحق الأرمن، لكان الشهر الجاري شهراً للفضيلة والحق وشهراً ارمنياً وبامتياز، ولشكلت خطوة مكملة للقرار الشجاع للبرلمانيين الفرنسيين الذين أصدروا قانوناً يعاقب ويجرم كل من ينكر جرائم الإبادة الجماعية بحق الأرمن. اختيار باموك من قبل الاكاديمية السويدية لجائزة نوبل، لا يخفي وراءه اسباباً سياسية صرفة، لكن له تبعات ونتائج سياسية وإنسانية، باعتبار باموك أديب وروائي يملك رؤية سياسية مناقضة لسياسة الدولة التركية التقليدية، وبعيداً عن المبالغة يعتبر حصول اورهان باموك على جائزة نوبل، انتصاراً للديموقراطية والعقلانية والتسامح وهزيمة للعنصرية والحقد الشوفيني والتعصب الديني، انه انتصار للضحايا الأرمن، ولخمسة عشر مليون كردي يعانون من وطأة العسكر التركي المحتل لكردستان. اورهان باموك وهو يدعو للكشف عن جريمة وقعت قبل اكثر من 90 عاماً، يثبت انه ينتمي الى تلك الأقلية والفئة النادرة من الناس، التي لو من الله علينا برحمته وبركته، وجعل من تلك الأقلية غالبية، لكان عالمنا بحال افضل وواحة للخير والوئام والسلام. درويش محمى - بريد الكتروني پپ[email protected]