أجرى الجنرال السير ريتشارد دانات، الذي تسلّم منصب رئيس الأركان على رأس الجيش البريطاني، مقابلة لافتة واستثنائية مع صحيفة"ديلي ميل"، في عددها الصادر في 13 تشرين الأول أكتوبر الماضي. وفي وقت تكثر فيه الاختلافات في الرأي بين السياسيين ورؤساء الأجهزة في الأنظمة الديموقراطية، والتي بلغت حدتها درجة عالية في بريطانيا بصورة خاصة خلال الحرب العالمية الأولى، لا أذكر أي هجوم صريح على غرار الهجوم الذي شنّه هذا الجنرال ضد السياسة الخارجية البريطانية. لقد بقي رئيس الوزراء توني بلير، الذي كان يشارك في محادثات في سانت اندروز في اسكتلندا، ساهراً حتى وقت متأخر من الليل برفقة مستشاريه للبحث في كيفية معالجة هذا الهجوم الكلامي على سياسته في العراق بأفضل السبل. وقد بذلت رئاسة الوزراء جهوداً حثيثة لاطلاع إدارة الرئيس بوش على ما يجري مع ابقاء أعضاء هذه الإدارة خارج نطاق الجدل الدائر والذي يعتبر بريطانياً بامتياز. أما أشدّ ما يؤذي توني بلير وأعضاء حكومته فهو علمهم بأن الجنرال لا يدّعي التحدّث باسم القاعدة التي يمثّلها، أي الجيش فحسب، بل انه يعكس بحق التفكير السائد في الأوساط العسكرية، كما ان الرأي العام الذي يناهض السياسة التي ينتهجها توني بلير في العراق منذ سنتين سوف ينحاز الى الجنرال. كما تعاني الحكومة البريطانية من ضعف شديد لأسباب تتعلق بنطاق أوسع من هذه المسألة. لقد تحدّث السير ريتشارد الى صحافية في"ديلي ميل"تدعى سارة ساندز، في مكتبه في وزارة الدفاع، فيما وُضعت آلة تسجيل على طاولته. وقال لها:"سأدافع عما يناسب الجيش. إن الأمر يتعلّق بالاستقامة. علينا أن نقول الحقيقة. إن تسريب المعلومات والمماطلة لا يفيدان في نهاية المطاف". لقد اكتسبت حكومة توني بلير خلال السنوات التسع الماضية سمعة تفضيل المماطلة على التطرّق الى جوهر الأمور وهي بالتالي لن تعتبر أن هذه البداية مفيدة. لقد شغل العراق مركز الصدارة في تفكير الجنرال دانات فاعتبر انه يتعيّن علينا:"أن ننسحب في وقت قريب إذ ان وجودنا يؤدّي إلى تفاقم المشاكل الأمنية. نحن موجودون في بلد مسلم وآراء المسلمين حول وجود الأجانب في بلادهم واضحة جداً. يمكن ان تكون موضع ترحيب كأجنبي في حال وُجّهت إليك الدعوة للمجيء الى بلدٍ ما، ولكن لم تُوجّه إلينا أي دعوة... في الواقع، لقد أدّت الحملة العسكرية التي خضناها سنة 2003 الى اقتحام الباب للدخول". وعلى غرار الجميع تقريباً في هذه الأيام، فهو يشعر بالاشمئزاز الشديد إزاء الوضع الذي تلا الاجتياح:"أظن ان التاريخ سيبيّن ان التخطيط لما حدث بعد النجاح الأولي في مرحلة القتال من الحرب جاء هزيلاً، ربما لأن التخطيط كان مبنيّاً على التفاؤل اكثر منه على التخطيط السليم. كما سيبيّن التاريخ بروز فراغ سمح لعناصر مؤذية بالتحرّك في إطاره. واليوم، تسيطر عناصر معادية على الساحة، ما يزيد من صعوبة تواجدنا في بغداد والبصرة". وما من شك أن آراء الجنرال عن نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط لن تعجب المحافظين الجدد في واشنطن:"لقد كان الهدف الأساس يقضي بإقامة نظام ديموقراطي ليبرالي يشكّل مثالاً في المنطقة ويكون مؤيّداً للغرب وقد يكون له تأثير مفيد على التوازن في الشرق الأوسط. كان هذا أملنا. وسيصدر التاريخ حكمه فيما اذا كان ذلك الأمل معقولاً أو ساذجاً. لا أظن أننا سنبلغ هذا الهدف. اعتقد انه يتوجب علينا ان نسعى الى تحقيق طموحات أكثر تواضعاً". وهنا انتقل الجنرال بشكل واضح من الميدان العسكري الى الميدان السياسي. يشغل الجنرال منصب نائب رئيس اتحاد الضباط المسيحيين ويمثّل الدين أمراً مهماً بالنسبة إليه، لكنني اعتقد أنه لم يكن حكيماً في تطرّقه الى التطرّف الديني خلال المقابلة. فقد قال الجنرال:"علينا مواجهة التهديد الإسلامي، أي أولئك الذين يعملون باسم الإسلام ويحاولون فرضه بالقوة وبطريقة منحرفة على المجتمعات التي لا ترغب بذلك". وتابع بحماس واهتمام ظاهر بهذا الموضوع:"... ثمة فراغ على المستويين الأخلاقي والروحي في هذا البلد. لطالما كان مجتمعنا مفعماً بالقيم المسيحية. ما أن ترفع المرتكز الذي يقوم عليه يتعرّض مجتمعنا الى خطر الانجراف باتجاه الموجة السائدة. يُقال بأننا نعيش في مجتمع ما بعد المسيحية... لقد شكّلت تعاليم اليهودية والمسيحية جزءاً من أساس المجتمع البريطاني وهي تشكّل أيضاً جزءاً من الأُسُس التي يقوم عليها الجيش البريطاني". لدى السير ريتشارد ابن يشغل منصب قائد فصيلة في العراق:"كان الأمر صعباً إذ قتل ثلاثة من أبناء جيله، ضباط من الشباب... لقد كنت أباً بالنسبة إليه، الى جانب كوني القائد الأعلى للقوات المسلحة". بعد هذا الهجوم العنيف على سياسة توني بلير الخارجية طلب وزراء في الحكومة من الجنرال دانات التحدّث أمام وسائل الإعلام ومحاولة وضع ملاحظاته في إطار افضل. لكن المقابلة التي أجرتها معه"ديلي ميل"ملأت ثلاث صفحات، ومن ضمنها الصفحة الأولى، ليتسنى للجميع الاطلاع عليها. وأكّد انه لا يخطط للانسحاب الفوري من العراق. وفي حين أتفق مع تفكيره بشأن العراق بصورة عامة، فإنني أعي تماماً أن مقابلته غير ملائمة من الناحية الدستورية. وبالتالي يتوجّب على رئيس الحكومة استدعاؤه من دون أي تأخير ويمكن البحث في استقالة الجنرال من منصبه. * سياسي بريطاني من حزب المحافظين