لم يستسلم اصحاب قضية"تعريب لبنان"حسب فهمهم للتعريب والعروبة للاقدار التي زجت بهم في شبهة اغتيال يطاول تنوع البلد. فهم يقاومون على نحو كاريكاتوري يستدعي الشفقة بقدر ما يستدعي التأمل. وقد ظهرت مقاومتهم هذه على صعيدين، الاول انبعاث حميّة قانونية غير مسبوقة من قبلهم حوّلتهم، بين ليلة وضحاها، مُدققين في سيرة القاضي الالماني ديتليف ميليس، وملمحين الى ان صلابة انتمائهم الى ثقافة العدالة لن يقف عندها قاض صاحب سجل"مريب"، وابن خبرات متواضعة لا تمت الى مجتمع العدالة بصلة. وكيف لا وهم بخبراتهم العضومية نسبة الى القاضي اللبناني عدنان عضوم، وبنسبهم الذي لا يضاهيه نسب لجهة تغذّيه على ثقافة العدالة، لن يتعثروا ب"استعراضات"القاضي الالماني، ولن توهمهم ابتساماته التي تنم عن"جهل وتورط"لا يليقان بقاضٍ يعمل في بيئة العروبة النقية هذه. اما الصعيد الثاني الموازي والمكمل، فتلك الدعوات الى قصر المسؤولية على اشخاص منفذين من دون توسيع دائرة الشبهة. اي اننا مجدداً نعلن براءة ال"أنا الجماعية"من فعلة افراد خرجوا منها وكانوا حراساً لها على مدى عقود. والدعوة هذه تستبطن ادانة ضمنية لل"أنا الجماعية"المذكورة، اذ ان مجرد الخوف عليها بمثابة صرخة ينطبق عليها الشطر الشعري الشهير"يكاد المريب يقول خذوني". لكن لا بأس ببعض النقاش حول نقاط اثارها هؤلاء في سياق تعرضهم لبعض ما رشح من نتائج التحقيق الذي تجريه لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. اذ يبدو ان مأزق الباحثين عن ثغرات في سيرة الرجل وفي سجله المهني، مستفيدين من خبراتهم في مجالات اللغو الشعبوي والخطابي، يبدأ اولاً بكونه ألمانياً، بلاده ليست جزءاً من التحالف الغربي البريطاني - الاميركي، كما انه ليس فرنسياً حتى يسهل القول إنه مدفوع لاختراع حقيقة تناسب"جنوح"بلاده المستجد. لكن اللغو هذا لن توقفه هذه العثرة الصغيرة. فالغرب كله غرب في هذه اللحظة العضومية. والغرب الذي غرق الخطاب نفسه في محاولة تجزئته وتمييز ثقافاته ونيّاته ابان الحرب في العراق، من الممكن لهذا الخطاب إياه ان يعود فيدمجه ويوحّده في كلمة واحدة. يمكن لنا ان نستعين بنزاهة الالمان اثناء توسطهم في عملية تبادل الاسرى بين حزب الله واسرائيل، ويمكن لنا ان نرتاب بهم حين تقترب الحقيقة من ضفاف القضية. وهنا يجب ان يقودنا النقاش الى نقطة استباقية تتعلق بافتراض ممكن جداً في ضوء نتائج تحقيقات ميليس، تتمثل بسؤال صار من المفترض ان نطرحه على انفسنا: ماذا لو اسفرت التحقيقات الى بلورة حقيقة سياسية مفادها ان الظروف التي هيأت للجريمة الكبرى كانت جزءاً من حركة اعتراض يائسة على متغيرات تنتظر المنطقة؟ الادانة السياسية والثقافية الثقافية هنا لا القضائية تطاول دائرة اوسع من دائرة المشتبه بهم. المدان في هذه الحالة خطاب بكامله. الاغتيال حصل في غمرة مصارعة هذا الخطاب لاستحقاقات داهمة. وفي سياق هذه المصارعة تم التغاضي عن عدد لا يحصى من الهفوات والاخفاقات. فخطاب المقاومة في مجمله لم يكترث بالكثير من الممارسات التي ارتُكبت باسمه، لا بل وجد هذا الخطاب نفسه في موقع الدفاع عنها. وعلى هذا النحو مثلاً، لم يكن كان الوجود السوري في لبنان بالنسبة اليه احتلالاً، وإبعاد العماد ميشال عون الى باريس لم يكن خطوة تستأهل، لعدم قانونيتها، وقفة تناقش التحالف مع سورية. أما ممارسات الضباط السوريين في لبنان فليست اكثر من تفاصيل صغيرة. لكن هذه"التفاصيل"ربما قادت، كواحد من الاحتمالات، الى عملية الاغتيال: فالبيئة التي طالما هيأت لاحتضان"حالة الاعتراض"و"التحالف الاستراتيجي"و"دعم المقاومة"، هي البيئة التي اكتنفت الجريمة. الاغتيال محطة لا يبدو معها ان اللغة المعهودة ستستطيع اعتباره تفصيلاً قابلا للاهمال او الاختزال في سياق قضية اكبر. اذاً، لا بد من اللجوء الى سلاح آخر. فالادانة كبرى، والمراجعة تتطلب شجاعة غير متوافرة، والجواب هو في النكوص الى لغة سوفياتية: فالعالم متآمر علينا، ونحن أنقى من التهم الموثقة، وفي جعبتنا الكثير من الاجوبة الجاهزة المستمدة من خبراتنا في مجالات بناء المجتمعات الحديثة والناجحة. ربما كان من علامات صحة يأسنا القديم والمتجدد دائماً من هذه اللغة اننا لم نلمس ادنى استعداد الى الآن للوقوف عند الذي جرى ومراجعة التجربة في ضوئه. القضية الكبرى ما زالت ماثلة تعيق اي استعداد من هذا النوع. القضية الكبرى تبيح اللغو وتطرد الخجل، فيما أحد لم يفكر الى الآن كم أساء هذا الى ما نسميه"قضية كبرى". وفي ظل نضوب الخيال أو تخشّبه، ربما كان التبرع باقتراح يساهم في تجديد محدود في الخطاب المعهود من دون ان يخرجه من جادة المواجهة: الغرب هو من دفعنا الى اغتيال الحريري. في هذا اعتراف بحقيقة يبدو ان من الصعب تفادي الاعتراف بها. وفيه ايضاً استمرار للصراع، لا بل اذكاء له. وفيه ايضاً الحقيقة التي طالما تعاملنا مع انفسنا بوحي منها، وهي اننا قُصّرٌ ثمة دائماً من يُحضر لنا مآزقنا.