لهذا الذي يجري في لبنان، بأصيله وتداعياته، وظائف وأهداف، أقلها مما بات متحققاً، تجريد النظام السوري من السيطرة السياسية والاقتصادية على لبنان. فلبنان انتهى اليوم كمصدر للنفوذ الاقليمي والدولي لسورية بسبب توكيلها"التعاطي"مع منظمة التحرير الفلسطينية بداية، ثم بسبب علاقتها بحزب الله وبحيثيات مقاومة الاحتلال الاسرائيلي. ولبنان انتهى اليوم كمصدر للثروة في سورية، ليس بسبب فقرائها من العمال الذين يرتزقون فيه، بل بفعل اعادة تنظيم بنية النهب، مع شركاء محليين بالطبع، وهو ما مورس خلال العقود الثلاثة الماضية ايضاً. السؤال الذي يفترض ان تنشغل به دمشق لا يتعلق بكيفية استعادة ذلك او بكيفية حماية فتاته، بالوسائل الناجعة للحد من الخسارة، بحيث لا يتحول لبنان من مصدر للنفوذ والثروة الى القاعدة الامامية للجهوم المضاد، كما يبدو الآن. وكل ما يرجوه المرء هو ألا يكون الجواب جاهزاً، فيركن ببلادة الى مقولات شائعة من مثل ان افضل وسائل الدفاع هو الهجوم. اما فكرة اجراء أو عرض صفقة شاملة مع الأميركان، على ما كان مألوفاً في ادارة الوجود السورية في لبنان طوال الفترة الماضية، فتستحق التفحص ضمن سياق حساب الحد من الخسائر وليس المقايضة بلبنان. فما زالت سورية تملك العديد من الأوراق: العلاقة مع ايران، واحتضان بعض المنظمات الفلسطينية، والقدرة على التأثير في الشأن العراقي، وأصعبها على التوظيف اخيراً، أي الصلة الوثيقة بحزب الله. الا انه يجب ان يضاف الى هذا كله معطى قد يكون الدفع به غريباً بعض الشيء، وهو العائد الى الآثار المحتملة لانهيار سريع في وضع النظام السوري، مما قد يتيح المجال امام حال من الصراع المفتوح على السلطة والفوضى غير المحسوبة وغير القابلة للادارة. كما قد يضاف في"مميزات"سورية استمرارها في امتلاك القدرة على العبث بأمن لبنان بالوسائل المعهودة. فقد جرى في الايام القليلة الماضية توزيع آلاف قطع السلاح الخفيف على الناس وإيقاظ مجموعات لا أداء لها سوى الترويع. وعلى الصعيد السياسي، اعتمد تكتيك السعي لتأجيل الانتخابات النيابية ولخلق حالة من الفراغ الدستوري. الا ان ذلك كله محدود الأثر تماماً، وهو ليس قتالاً تراجعياً بل"خربشة"في الوقت الضائع. وأما ما يفترض به ربما خفض الاحتقان، عبر اجراءات تمارس بالقطّارة، كتبديل قاضي التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الحريري مرة، واستقالة مدير المخابرات في الجيش اللبناني مرة اخرى، فيُرى اليها في السياق الحالي كتعبير عن الارتباك في أحسن الاحوال، او كنوع من طلائع التفكك في أسوأها، وبينهما ترد نية الخداع. لقد فوتت فرص كثيرة للتعاطي المتماسك الى حد ما مع المستجدات مما لا يمكن تعويضه او التخفيف من آثاره. وما زال ذلك مستمراً. فبعد خطيئة التلاعب بالدستور اللبناني وفرض التمديد للرئيس لحود، جرى الاستخفاف بقرار مجلس الأمن 1559، وظُن ربما ان تجاهله قد يمحوه عن سطح الأرض بالتلاشي. وبعد اغتيال الرئيس الحريري، انعدمت المبادرة السياسية وحتى الاخلاقية عند اهل السلطة في لبنان الى حد تخصيصهم بالنكات اللاذعة المتداولة بكثرة، تعبيراً عن السخرية مما يمثلون. وبجدية اكبر، ادرك اركان النظام في سورية انه لا مفر من سحب قواتهم من لبنان، وتحولت المفاوضات الشاقة التي كانت جارية قبلاً مع السيد لارسن الى التنفيذ السريع. كما جرى القبول بمبدأ لجنة التحقيق الدولية في جريمة الاغتيال بعد فوات الأوان، إذ كان تقرير السيد فيتزجيرالد على وشك الصدور، وهو المتضمن، من بين اشياء اخرى، توسيعاً لنطاق عمل تلك اللجنة. ويجري اليوم التعامل مع هذا التقرير، في الظاهر على الأقل، على طريقة التعامل السابق مع قرار مجلس الامن 1559، أي بمزيج من التسويف والتخفيف والتجزيء. ورب قائل ان ذلك هو الممكن وان الاناء ينضح بما فيه، وانه لو كان النظام السوري يملك افضل من هذا لما وصل الى ما وصل اليه اليوم. وكل ذلك صحيح الى حد بعيد. الا ان هذه التطورات تحدث في اطار خطة الهجوم الاميركي على المنطقة، وبعد سنتين بالتمام من اجتياح العراق واحتلاله، وبينما يوجد فيه أكثر من مئة وخمسين ألف جندي اميركي، وهو ما حوله اولاً الى قاعدة عسكرية اميركية كبرى، تتجه وظائفها نحو اوروبا وآسيا ولا تنحصر في الشرق الاوسط فحسب. وهو ما يجعله ثانياً نقطة ارتكاز مهمة لسياسة الادارة الاميركية في العالم، ونموذجاً ليس فحسب لما تبغيه من اعادة صياغة الشرق الاوسط الجديد، وغنما لنمط العلاقات الدولية كما تفهمها وتريدها واشنطن. إن الفصل بين ما يجرى في لبنان وسورية وما جرى ويجري في العراق، وبين كل واحدة منها، وكلها معاً، ووجود تصور اميركي شامل، هذا الفصل سذاجة لم يعد احد يجرؤ عليها، نظرياً على الاقل. وبالمناسبة، ربما لزم القول ان هذه التأكيدات ليست تبريراً ضميناً لشيء بل إقراراً بالواقع الموضوعي، وسعي لتحديد الخيارات ببيّنة من معانيها ومؤدياتها، وهو ما يصلح لكل المتعاطين مع التطورات الى اي جهة انتموا. إلا أنه، حيال ذلك كما في ادارة الشأن المحلي، فإن كلاً من الوجهتين الاساسيتين ترتدي لبوساً يطبع مجمل خطابها وسلوكياتها. تسم العدمية خطاب وسلوك الذين يتصدون للخطة الاميركية، او يفترض انهم في هذا الموقع. فكل ما يحصل كان حاصلاً بغض النظر عن اية افعال ومبادرات وأقوال: لم يؤد التمديد للرئيس لحود الى القرار 1559، بل كان هذا جاهزاً ينتظر المناسبة الملائمة لطرحه وإقراره. لم يؤد اغتيال الرئيس الحريري الى اطلاق كرة الثلج التي لم تصل بعد الى مستقرها، بل كان الانسحاب السوري وتدويل الوضع الدولي سيحصلان بحجة او بأخرى... وهكذا! وعلى مستوى آخر، فما كان سيتغير الكثير لو تم التعامل مع هذه التطورات بطريقة مختلفة عما جرى، ولا اهمية تذكر لانعدام المبادرة السياسية وللاكتفاء بالمناورات التافهة التي يتم التراجع عنها بالمفرق، فكل ذلك تفاصيل! لعل تلك العدمية الراهنة تكشف أمرين كلاهما شديد الصحة، اولهما ان تلك المواقف، كبيرها وصغيرها، تعبر عن بنية كاملة، وليس عن غباء اصحابها على رغم توفره، وانها لذلك ليست خاضعة للارادة ولا للنباهة. وثانيهما انه لا يمكن انقاذ الشيء الكثير في الدقائق الاخيرة لسياق كامل وحين تكون السكين قد وصلت الى الرقاب. إن التماثل مع الاحداث العراقية يفرض نفسه هنا كما في سائر النقاط. لقد نخر الاستبداد - كي نختصر في الوصف - جسم هذه المجتمعات وحولها لقمة سهلة امام الاستعمار، بل جعل هذا الاخير يحوز على جاذبية في عيون العديدين، أو انه نزع عنه الاستهوال الذي كان يحيط به. بدد الاستبداد البديهيات وضرب في العمق القيم والمفاهيم المرجعية التي باتت جميعها بحاجة الى اعادة تحديد، والى اعادة تعريف وصياغة، اذ لم تعد الاشارة لها تكفي، ولم تعد معانيها قائمة بذاتها. يمنح المثال اللبناني كل يوم دلائل على ذلك، بعد المثال العراقي، ومع ما ستكون عليه على الارجح اوضاع مجتمعات اخرى قريبة منهما. وفي مقابل تلك العدمية، تنتصب"ملائكية"ترفض هي الاخرى المقارنة مع سياقات المثال العراقي، وترفض اعتبار ما يجري في لبنان عائداً الى خطة أشمل، وتفسر الصلة على انها ظرفية فحسب. بل تمعن احياناً في براءتها الكاذبة، فتعتبر القرار الدولي 1559 نوعاً من الرأفة المفاجئة على لبنان، وصحوة ضمير دولية قررت ان"كفى"، وتعتبر انها يمكن ان تعد سورية بأفضل العلاقات إن انسحبت من لبنان، فيما هي تعرف ان ذلك بات مستحيلاً، وتحاول استمالة حزب الله او اغراءه بالتحييد، مخاطبة تخومه. فهو الأصيل المضحي المحترم ويجب ان يتصرف بمقتضى ذلك وإلا فقد هذه الصورة كما يوحى له ضمناً. وأما البحث في سلاحه وهو أحد أبرز الاهداف الاميركية لهذا الذي يجري فتفصيل قابل للتسوية، وأما الخطة الاميركية، فيؤخذ منها ما يلائم التطورات السليمة للبنان. وربما قيل ايضاً انه تلاقي مصالح ليس إلا، فتتخيل بعض القوى المحلية نفسها نداً لواشنطن، ولعل الشطارة اللبنانية المعروفة تزيّن لتلك القوى قدرتها على استخدام حاجات واشنطن ثم الانفكاك عنها عند اللزوم، هذا اذا كان ثمة داعٍ للانفكاك، اذ لعل واشنطن تريد حقاً الديموقراطية للمنطقة. تشجع الواقعية السياسية هذه الثنائية وحصر الخيارات بين قطبين لا بدائل عنهما، تماماً كما كان الوضع في العراق... حتى لو اغضبت هذه المقارنة أهل السياسة في لبنان وسورية؟ بكل تلاوينهم. إلا أن الأمثلة تساعد على ايضاح الأفكار الاشد تعقيداً، هذا اذا لم نشر الى دورها في الاتعاظ. كاتبة وناشطة لبنانية