هل يحق لإدارة الرئيس بوش أن تعتبر، على ما تفعل، أن ما يجري في لبنان هو من ثمار سياستها لنشر الديموقراطية في"الشرق الأوسط الكبير"، كما حددتها وصاغتها دوائر المحافظين الجدد؟ هذا سؤال يجب أن يطرح بالرغم من أن الإجابة عنه، بالإيجاب طبعا، تبدو لدى الكثيرين، حتى ممن كانوا من منتقدي سياسة الرئيس الأميركي، تحصيل حاصل وفي مصاف البديهيات. بل إن السؤال ذاك يجب أن يُطرح وأن يُواجَه، تحديدا لهذا السبب، أقله من قبل أولئك الذين اعترضوا ولجّوا في الاعتراض على تلك السياسة، دولا وتيارات سياسية وأصحاب رأي، وممن لا يسعهم إلا الترحيب بما يجري في"وطن الأرز"ومساندته، فيبدون بمظهر الفاقد لكل انسجام في التفكير، أو بمظهر الانتهازية حيال مجريات الأحداث، يرفضون مسلك الإدارة الأميركية في العراق ويقبلون ثماره اللبنانية، أو يصفحون ضمناً، ودون عناء مراجعة النفس، عن ذلك المسلك مقابل هذه الثمار. إذ أن الأمر لا يشذ عن احتمالات ثلاثة: إما أن تكون الحرب الأميركية في العراق قراراً صائباً، على ضوء التطورات اللبنانية، تخلفنا عن الإقرار بصوابه مكابرةً أو عمىً إيديولوجياً، وإما أن تطال ما يجري في لبنان الشبهات ذاتها التي حامت حول المحطة العراقية من تدخل البوشية في الشرق الأوسط، أو أنه ليس بين الشأنين، ذلك العراقي وذلك اللبناني، من وشيجة إلا واهية وعارضة، لا تبلغ مبلغ العلاقة السببية على أية حال. نحن من أنصار هذا الاحتمال الأخير، بل ربما ذهبنا إلى القول أن"انتفاضة الاستقلال"اللبنانية، ربما مثلت الدحض الأمثل للبوشية، ناهيك عن أن تكون بإيعاز من هذه الأخيرة، كما يحلو للبعض القول، ومظهراً من مظاهر الامتثال لاستراتيجية الإدارة الأميركية بشأن"الشرق الأوسط الكبير". بطبيعة الحال، لا سبيل إلى نكران أن لوجود القوات الأميركية في العراق، أي على الحدود السورية، مفعولا رادعا على دمشق، يقيّد حركتها في لبنان ويحول دونها والبطش بمعارضي سيطرتها والراغبين في جلاء قواتها وأجهزة استخباراتها، وهؤلاء باتوا الكثرة الغالبة من اللبنانيين. وهو ما يتجلى على نحو لا تفصح عنه مراتب التمثيل الرسمي، لا سيما في ما يتعلق بالطائفة الشيعية، إلا على نحو جزئي وغير دقيق. وهذا علماً بأن جريمة اغتيال رفيق الحريري، إذ وجهت أصابع الاتهام نحو سورية، واستدرّت ما استدرّته من ضغوط، زادت في تضييق هامش المعالجة القمعية، إن في شكلها المباشر وإن بواسطة الأدوات المحلية. غير أن الأمر يتوقف عند الحد، على أهمية ذلك الحد. أما في ما عدا ذلك، فالواقعة اللبنانية تكاد تكون، أميركياً، النقيض الناجز للنموذج العراقي. بل ربما أمكن القول إن البوشية خانت نفسها، وأقانيمها المؤسسة، وارتدّت نحو ضرب من الكلينتونية في معالجتها للملف السوري أقله في بُعده اللبناني. فهي لم تخض حربا ً"استباقية"بدعوى تحرير لبنان، مع أن في الأمر احتلالا أجنبيا وإن كان"شقيقاً"، لكن رابطة الأخوة تلك لا تساوي شيئا بمعايير القانون الدولي، لو رأت واشنطن التذرع بها، أو من أجل ضرب"قواعد الإرهاب"التي توصف سورية برعايتها في"محميتها اللبنانية"، وهي لم تفبرك أدلة ووثائق حول قواعد لإطلاق الصورايخ، النووية أو الكيماوية على أقل تقدير، زعمت أن سورية أقامتها في لبنان، وهي لم تستجلب"معارضين"من الخارج تنصّبهم على رأس البلد بعد تحريره، وهي لم تجنح إلى الانفراد والأحادية في التعاطي مع الموضوع اللبناني، بل مالت إلى التشاور والتنسيق، اعتمادا على فرنسا بشكل خاص، ومن وراء هذه الأخيرة على سائر بلدان الاتحاد الأوروبي أو معظمها، ولم تستهر بالقوانين وبالهيئات الدولية، أقله حتى اللحظة، على ما فعلت إبان الأزمة العراقية، بل استصدرت قرار مجلس الأمن رقم 1559، وهذا يمكن لمنتقديه أن يقولوا فيه الكثير، وأن يعتبروه مؤامرة أميركية-فرنسية، وأن يتحدثوا عن"ازدواجية المعايير"وانتقائيتها، مذكّرين بقرارات دولية أخرى كثيرة، في المضمار الإسرئيلي-الفلسطيني خصوصا، لم تبد واشنطن نفس القدر من الحماس في تطبيقها إن لم تجهضها بحق النقض. لكن كل ذلك، على صحة بعضه، لا يلغي أن القرار 1559 وثيقة دولية، توفر غطاء من شرعية دولية، وأن واشنطن تحركت ضد سورية حتى الآن، سواء نظامها أو سيطرته على لبنان، في إطار الشرعية الدولية. أضف إلى ذلك نقطة أساسية، أن الضغوط والمساعي الأميركية حيال دمشق وضدها، أقله في لبنان، خصوصاً منذ 14 شباط فبراير، إنما تواكب حركة شعبية محلية، عميقة الجذور جارفة، تستند إلى مطالب تحررية أصيلة، في بلد يعادي إسرائيل، ولا يمكن القول إن رأيه العام، أو أوساطه الأغلب والأوسع، متعاطفون مع الولاياتالمتحدة ومُحبّون لأميركا. لكل ذلك، إذا ما تيسر للولايات المتحدة، كقوة عظمى ومؤثّرة أن تدّعي بعض أبوّة حيال ما يجري في لبنان، فإن الإدعاء ذاك يكون من قبيل الانتحال والتزوير إن تفوّهت به البوشية كما تبدت في أجلى وجوهها، أي أبشعها، إبان الأزمة العراقية وهذه لا تزال متمادية. بل ان المجريات اللبنانية الأخيرة تمثل في هذا الصدد النموذج المضاد للبوشية والطاعن فيها طعنا مبرماً. وهي، لهذا السبب، تدعم حجة المعترضين على المغامرة العراقية ولا تضعفها. وإذا ما كُتب ل"انتفاضة الاستقلال"اللبنانية، إن استمرت على زخمها الحالي، النجاح، فإن ذلك سيكون مرده عدم تطبيق البوشية وليس تطبيقها. فالاعتراض لم يكن يوما على نشر الديموقراطية، وعلى التدخل الخارجي لمساعدة شعب من الشعوب على الانعتاق من محتل لا يريده ومن مستبد، كما حدث في يوغسلافيا السابقة مثلاً، مع اعتبار كل المصالح المشروعة وحتى غير المشروعة للمتدخلين، بل على الطريقة والشكل. والشكل في مثل هذه الحالات مضمونٌ أيضاً، على الأحادية الصلفة، على اتخاذ الكذب البواح وتلفيق الأدلة أداة سياسة خارجية تعتمد القوة السافرة، على الاستهتار بالقانون الدولي، مهما كانت المآخذ عليه، أي على نسف الأسس المبدئية والقيمية التي يفترض فيها أن تكون روح الديموقراطية التي يُزعم نشرها، وكل هذه الاعتراضات لا تزال قائمة بشأن العراق. لكل هذه الأسباب، يمكن للمرء أن يظل مطمئناً إلى تنديده بمغامرة الولاياتالمتحدة في العراق، قدر اطمئنانه إلى ترحيبه بما يجري في لبنان. كاتب تونسي