أجنبيًا لخلافة المفرج في الهلال    نيوم ينتصر على الفيصلي برباعية نظيفة بتبوك    زخة شهب إيتا الدلويات تزين سماء العالم العربي الليلة    باكستان: نواجه نقصا في المياه بنسبة 21% خلال بداية الخريف    فريق طبي في مستشفى عفيف العام ينجح في إجراء تدخل جراحي دقيق    حرس الحدود بقطاع الوجه ينقذ مواطنًا من الغرق    البرنامج الوطني لمكافحة التستر التجاري يُنفّذ (2,077) زيارة تفتيشية    حوار المدن العربية الأوروبية في الرياص    رياح نشطة في معظم مناطق المملكة وزخات من البرد في الجنوب    ارتفاع اليوان الصيني أمام الدولار    الاتحاد الأوروبي يدعو لرفع الحصار عن غزة    دعت إسرائيل لاحترام سيادة لبنان.. 3 دول أوربية تطالب باتفاق جديد مع إيران    "المالية" معلنة نتائج الميزانية للربع الأول: 263.6 مليار ريال إيرادات و322 ملياراً مصروفات    أزمة السكن وحلولها المقترحة    تسلم أوراق اعتماد سفير سلطنة عمان لدى المملكة.. نائب وزير الخارجية وسفير الكويت يبحثان الموضوعات الإقليمية    في إياب دور الأربعة لدوري أبطال أوروبا.. بطاقة النهائي بين إنتر وبرشلونة    هاري كين يفوز بأول لقب في مسيرته    رشيد حميد راعي هلا وألفين تحية    بنسبة نضج عالية بلغت (96 %) في التقييم.. للعام الثالث.. السعودية الأولى بالخدمات الرقمية في المنطقة    "مايكروسوفت" تعلن رسمياً نهاية عهد "سكايب"    جمعية الوقاية من الجريمة «أمان»    محافظ جدة يطلع على الخدمات التعليمية لذوي الإعاقة    المملكة تختتم مشاركتها في معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2025    في أمسية فنية بجامعة الملك سعود.. كورال طويق للموسيقى العربية يستلهم الموروث الغنائي    توقيع مذكرة تفاهم لتعزيز إبداعات الفنون التقليدية    دعوة لدمج سلامة المرضى في" التعليم الصحي" بالسعودية    السديس: زيارة وزير الداخلية للمسجد النبوي تعكس عناية القيادة بالحرمين وراحة الزوار    الإدارة الذاتية: رمز وطني جامع.. سوريا.. انتهاء العمليات القتالية في محيط سد تشرين    الصحة النفسية في العمل    حكاية أطفال الأنابيب «3»    وزير الدفاع يلتقي رئيس مجلس الوزراء اليمني    انخفاض مؤشرات الأسهم الأمريكية عند الإغلاق    جامعة الملك سعود تستضيف مؤتمر "مسير" لتعزيز البحث العلمي والشراكات الأكاديمية    مليون و250 ألف زائر ل"جسور" في جاكرتا    القبض على (31) لتهريبهم (792) كيلوجرامًا من "القات"    الفتح يستأنف تدريباته استعداداً لمواجهة الوحدة    الفحوصات الطبية تكشف عن إصابة صهيب الزيد بقطع في الرباط الصليبي    أخضر الناشئات يختتم معسكر الدمام    محاضرات لتعزيز ثقافة الرعاية في مستشفى الملك سلمان    ممنوع اصطحاب الأطفال    النزاعات والرسوم الجمركية وأسعار النفط تؤثر على توقعات اقتصاد دول الخليج    12024 امرأة يعملن بالمدن الصناعية السعودية    وزارة التعليم وموهبه تعلنان انطلاق أولمبياد الفيزياء الآسيوي    تركي بن هذلول: خدمة الحجاج شرف خصه الله بالمملكة حكومةً وشعبًا    وزير الشؤون الإسلامية يلتقي نائب رئيس الإدارة الدينية لمسلمي روسيا    وزير الداخلية يدشن مشروعات متطورة في المدينة المنورة    حرس الحدود يختتم معرض "وطن بلا مخالف" في جازان    السيطرة والبقاء في غزة: أحدث خطط الاحتلال لفرض الهيمنة وترحيل الفلسطينيين    الهند وباكستان تصعيد جديد بعد هجوم كشمير    أمير منطقة تبوك يرعى حفل تخريج طلاب وطالبات جامعة فهد بن سلطان    إنهاء معاناة طفل من جلطات دماغية متكررة بسبب مرض نادر    أمير منطقة الجوف يلتقي أهالي محافظة دومة الجندل    زوجان بنجلاديشيان .. رحلة من أمريكا إلى مكة المكرمة    من جيزان إلى الهند.. كيف صاغ البحر هوية أبناء جيزان وفرسان؟    سعد البريك    الرفيحي يحتفي بزواج عبدالعزيز    "الشؤون الإسلامية" تنفذ برامج التوعية لضيوف الرحمن    أمير جازان يستقبل مدير عام فرع وزارة العدل بالمنطقة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحل عن 67 عاماً بعد أيام على صدور روايته الأخيرة . الكاتب محمد مستجاب جعل من نفسه بطلاً لرواياته
نشر في الحياة يوم 29 - 06 - 2005

غيّب الموت الكاتب المصري محمد مستجاب، هذا الذي استطاع بعصامية مفرطة أن يصنع لنفسه ولكتاباته مساحة مهمة في الأدب المصري، ويحصل على شهادات من نقاد كبار ومرموقين، على رغم أنه لم يحصل على أي شهادة دراسية على وجه الإطلاق. فهو ولد عام 1938، وعمل في الستينات في مشروع بناء"السد العالي"في أسوان، وثقف نفسه بنفسه، على رغم قسوة العمل في ذلك المشروع، اذ كان عاملاً بسيطاً في إحدى الشركات الكبرى، ثم ذهب إلى العراق ككل العمالة المصرية التي كانت تنزح إلى هناك، هرباً من الفقر والبطالة اللذين كانا يخيمان على العمال المصريين. وبعد عودته من العراق عمل في مجمع اللغة العربية حتى أحيل إلى التقاعد عام 1998.
منذ أول قصة قصيرة نشرها محمد مستجاب وهي"الوصية الحادية عشرة"في مجلة الهلال في آب أغسطس 1969، جذب إليه الأنظار بقوة، وأخذ بعد ذلك ينشر قصصه المتميزة في مجلات عدة، وعندما ذهب إلى الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور عام 1975، وكان يترأس تحرير مجلة"الكاتب"المصرية، وأعطاه قصة"من التاريخ السري لنعمان عبدالحافظ"اندهش عبد الصبور ونشرها على أنها فصل أول من"رواية". وراح مستجاب يكتبها فصلاً فصلاً، حتى اكتملت وصدرت في طبعة متواضعة عن مكتبة مدبولي عام 1983. وبعدها صدرت المجموعة القصصية الأولى"ديروط الشريف"عام 1984، وتوالت الروايات والكتب تباعاً، وكان مستجاب صنع لاسمه مكانة كبيرة، ولافتة فأصدر مجموعات قصصية هي"القصص الأخرى"عام 1995 ثم"قصص قصيرة"عام 1999، ثم"قيام وانهيار آل مستجاب"1999 وأعيد طبعها ثلاث مرات بعد ذلك. ثم"الحزن يميل للممازحة"عام 1998 وأعيد طبعها أيضاً مرات عدة. وصدرت له بعد"نعمان عبدالحافظ"روايتان، الأولى هي"إنه الرابع من آل مستجاب"عام 2002 وروايته الأخيرة التي صدرت قبل شهرين فقط عن دار ميريت بعنوان"اللهو الخفي". فتميز مستجاب بكتابة المقال، فكان يكتب مقالاً ثابتاً في مجلة"العربي"الكويتية، تحت عنوان"نبش الغراب"وصدر له كتاب في سلسلة"العربي"عام 1999، وظل يكتب باباً ثابتاً في جريدة"أخبار الأدب"المصرية لسنوات طويلة تحت عنوان"جبر الخواطر"، وصدرت هذه المقالات في جزءين عام 1999 تحت عنوان"بوابة جبر الخواطر"، وفيهما بانوراما مهمة للإبداع المصري المتنوع في الشعر والقصة والرواية. وكان له باب ثابت تحت عنوان"رقبة - لا مؤاخذة - الحمامة"يكتبه في جريدة"الأسبوع"المصرية... هذا عدا المجلات والصحف الكثيرة التي كان يكتب فيها مثل"الشرق الأوسط"و"سيدتي"و"المصور"وقد جمع هذه المقالات في كتب عدة أبرزها"حرق الدم"، و"زهر الغول"، و"أبو رجل مسلوخة"، و"أمير الانتقام الحديث"، و"بعض الونس"، و"الحزينة تفرح".
يقول عنه الكاتب صبري موسى صاحب رواية"فساد الأمكنة"ومقرر لجنة القصة في المجلس الأعلى للثقافة المصري، في مقال له عنه بعنوان"مستجاب الأول":"أحياناً يذكرني صديقي محمد مستجاب بالسحرة - الحواة لا مؤاخذة - حين يخرج حمامة من أذنه، ثم يضعها على كفه، ويمر عليها بكفه الأخرى لتصبح بيضة، يلقي بها أمام عينيك فإذا بها فيل بزلومة يبرطع في الساحة ساحباً خلفه ذيله القصير...".
هذا باختصار محمد مستجاب الإنسان والكاتب والمبدع، فعالمه السحري من المؤكد أنه يلمسك لو اقتربت منه، من أي زاوية، فإن قابلته لا بد من أن يحكي لك كثيراً، فهو كان متلبساً بحال من الحكي الدائم، لا يكف عن الكلات ولو قاطعه الآخرون. وتلمسك شظايا عالمه الإبداعي، ولا تفارقك خصوصاً عندما تقرأ له مقالاً أو قصة أو رواية. كان محمد مستجاب متيماً بذاته ومفتوناً بها، هذه الذات التي بناها بنفسه، وراح يتأملها برعاية كاملة، ويمدها بكل سبل الوعي والتثقيف والمعرفة، وصنع من اسمه ما يشبه الأسطورة الإبداعية، فكانت كل قصصه ورواياته منذ"التاريخ السري لنعمان عبدالحافظ"تدور حول أشخاص مستجاب المتعددين: مستجاب الأول والرابع والخامس والثاني، وكان آخرهم"مستجاب السادس"بطل روايته الأخيرة"اللهو الخفي".
وكما ينفعل الكاتب محمد مستجاب دوماً مع شخصياته، ويحيطها بعالم أسطوري، مستمداً مادته الاسطورية من مناهل عدة واقعية وخيالية ومعرفية، فمستجاب السابع بطل رواية"اللهو الخفي"له قدرات ومعجزات وإنجازات وأحلام كثيرة، ربما تكون مزعومة، أو مؤلفة، والله أعلم - كما يقول الراوي - فهو - أي مستجاب السابع - رافق بيكاسو في رسم أجمل لوحاته، وأكثرها تعبيراً تلك التي تتفاعل فيها شرائح رقاب الخيول وحدواتها خلال جولاتهما معاً في باريس أو مدريد أو كفر الشيخ أو منفلوط، وأثبت - بما لا يدعو الى الشك - أنه ناصر سامي البارودي ضد أحمد شوقي، وحافظ ابراهيم وابراهيم ناجي وصلاح عبد الصبور، وأنه كان وراء إطلاق اسم طائفة"الاسماعيلية"على مدينة أقيمت فوق قناة السويس رافضاً أن يربط اسمها بالمدعو الخديو اسماعيل.
هناك ركيزتان اساسيتان قامت عليهما تقنية الرواية، وبين هاتين الركيزتين تتعدد الخطوط على رغم صغر الرواية 48 صفحة. الركيزة الأولى الأساسية هي اطلاق الكاتب الراوي مخاطباً القارئ مباشرة وسارداً له قصصاً صغيرة، وحكايات بعضها واقعي. ويستطيع المرء أن يصدقه، وبعض هذه الحكايات خرافي، وغير واقعي، ولأن كل الأحداث تقع في دائرة الخيال أو مساحة التمنيات، فهي مقبولة، بل وممتعة ومسلية، وربما تكون مفيدة معرفياً. فالكاتب يشحن حكاياته ببعض الحقائق التي تخص بطلاً أسطورياً من الممكن أن يتحقق في الواقع، كفارس، أو كبطل ينجز بعض الانتصارات. أما الركيزة الثانية، فهي ما يطلق عليها النقاد"الحكاية الإطار"وفي متنها الفسيح تتسرب - أيضاً - الحكايات الصغيرة. وقد ذهب مستجاب السادس باحثاً عن كنز - تماماً كما في حكايات كثيرة شعبية وشهيرة - وأعد عدته، وجيش جيشاً من الفقراء، لكي يكتشف الكنز. وبعد عناء شديد، استطاع أن يكتشف هذا الكنز، ولاحت لمستجاب السادس، فكرة أن يتخلص من أقوى مرافقيه. وعندما سيرتدع الجميع غير مطالبين بنصيبهم في الكنز، بعد أن يكون أعطاهم أجورهم وأطعامهم، يأتي بعقرب ذات"سمية"حاقلة، ويحدث المتوقع ويموت صريعاً، هذا"القوي"المنافس لمستجاب في حلمه. وهكذا يدب الخوف في القافلة كلها، حتى في أوصال مستجاب ذاته، وتبدأ عمليات"اللهو الخفي"تتسع حتى تحاصره ويسقط أخيراً في ظلال الكنز، ويحاول أن يصرخ، أو يستنجد أو يتذكر رحمة الله، يحاول، لكنّ النمل يبدأ يسعى من حوله في دوائر ناعمة دقيقة وحول جسده المشلول، وينهي الكاتب روايته بجملة دالة وموحية وتلقي بظلها على الواقع الاجتماعي والسياسي عموماً:"الجو هادئ والسحب تغازل الشمس انتظاراً لصفاء القمر".
الدلالات واضحة، هناك شخصية تصنع نفسها أسطورة بل أساطير وتزعم لنفسها ما يصدق وما لم يصدق، شأن كل الزعماء السياسيين. هذه الشخصية تسحب الوجدان الجمعي وتجره نحو اكتشاف الكنز، لكنّ الزعيم يحاول أن ينفرد بالكنز الذي هو الثروة أو الثورة أو السلطة أو كل ما شابه، ويحاول بعد ذلك التخلص من الذين من حوله، فينقلب السحر على الساحر، ويظل أو يرحل معزولاً وخائفاً ومهدداً بالفتك من ثعابين وعقارب، لكنّ النمل الذي يرمز إلى الجموع هو الذي يلف حوله ويحاصره ويصنع عزلته.
رحل محمد مستجاب، لكنه سيظل محل تقدير ومحبة كبيرين في وجدان أصدقائه وقرائه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.