الظرف الذي يواجه الزعماء العرب الآن هو ظرف أزمات خطيرة لكنه أيضاً ظرف فرصة كبرى. فالخيار المطروح أمامهم واضح تماماً: فإما أن يبادروا إلى القبض على زمام مصيرهم أو أن يقبلوا بالهزيمة مع كل ما يعنيه ذلك من فقدان الكرامة والأمن والتراب القومي بل حتى الاستقلال. فالأزمات التي يواجهونها داخلية وخارجية في آن. الداخلية بنيوية وطويلة الأمد، والخارجية فورية تنذر بالخطر. على الجبهة الداخلية هناك مؤشرات متزايدة الى أن الأنظمة العربية بدأت تدرك ضرورة إجراء إصلاحات جذرية. وهي تتحدث كثيراً عن هذا الإصلاحات لكنها لم تفعل الكثير. وهذا أمر يسهل فهمه. فالإصلاحات أمر صعب لأنها تعني في الواقع اتخاذ تدابير تحرم النخب الحاكمة من بعض سلطاتها لتوزيعها على نطاق أوسع، وهي تعني أيضاً توسيع القاعدة الاجتماعية لصنع القرارات وفرض حكم القانون، والتصدي للفساد وبخاصة على المستويات المالية، واستخدام الوفر المالي لمصلحة النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية بدلاً من تحويل هذا الوفر إلى حسابات آمنة في الخارج. ويتفق معظم المراقبين على أن مثل هذه الإصلاحات الصعبة والطويلة الأمد، إضافة إلى تلك المتعلقة بخلق فرص العمل وتحسين مستوى التربية والتعليم ووضع المرأة في المجتمع هي مسألة جوهرية وأساسية بالنسبة إلى بقاء الأنظمة العربية على المدى البعيد. على أنه في هذه الإثناء فإن هذه الأنظمة تواجه أخطاراً خارجية كبرى تهدد أمنها كما تهدد آمال وتطلعات العرب الراسخة. وهناك، بين هذه الأخطار ثلاثة مطروحة حالياً: الكارثة الآخذة في التطور في العراق، والطموحات التوسعية الإسرائيلية المدعومة من جانب أميركا، والتحدي الذي تطرحه الحركة الإسلامية الأصولية. فماذا عسى الزعماء العرب أن يقترحوا لمواجهة هذه التهديدات الفورية وكيف لهم أن يمسكوا بزمام المبادرة؟ الكشف عن تعذيب السجناء العراقيين من جانب القوات الأميركية والبريطانية - والذي أدى إلى وفاة بين عشرين وثلاثين سجيناً - جاء كمسمار في نعش مشروع الحرب العراقية. فقد ثبت الآن بأن التعذيب استخدم بصورة روتينية من قبل القوات الأميركية لإضعاف مقاومة السجناء قبل استجوابهم. وقد نقلت أخبار معاملة السجناء هذه إلى المسؤولين العسكريين الأميركيين منذ أشهر عدة لكنهم ظلّوا يتجاهلونها حتى وصلت إلى الصحافة. إلى ذلك، فإن الإخفاق الذي تعانيه أميركا في العراق لا ينحصر بالصعيد العسكري وحده بل يتعداه إلى الصعيد المعنوي. ففي العام الماضي كان السؤال يدور حول كيفية استخدام أميركا قوتها العسكرية الساحقة وأي بلد سيأتي دوره بعد ذلك؟ هل هو سورية؟ أم هو إيران؟ وأما اليوم، فالسؤال المطروح هو عن عواقب هذا الإخفاق الأميركي. مشروع عربي للعراق كان المحافظون الجدد في واشنطن يأملون بتحويل العراق وما يحتويه من احتياط نفطي كبير إلى دولة عميلة لأميركا ربما أمكن استخدامها لمواجهة نفوذ المملكة العربية السعودية التي تحولت في نظرهم من حليف موثوق به إلى عدو خطر. وكانوا أيضاً يأملون بأن قلب نظام صدام حسين وإعادة تشكيل الشرق الأوسط يؤدي إلى جعل المنطقة أكثر أمنا بالنسبة لأميركا وإسرائيل. تبين الآن أن هذا الرؤية ليست سوى ضرب من الخيال الجيوسياسي يفتقر إلى أي أساس على أرض الواقع. وبدلاً من نشر السلام في البلاد، أثار الغزو عش الدبابير - المقاومة - وعبّأ المشاعر القومية العربية من الخليج إلى المحيط. وهكذا ضاعت الأهداف الاستراتيجية الأميركية التي قامت الحرب من أجلها. والآن نرى أميركا تشرف على تدمير الدولة العراقية وتخسر بذلك صدقيتها وأمنها، فهي اليوم أكثر هشاشة وتعرضاً للخطر مما كانت عليه قبل الحرب. ويجدر بالزعماء العرب والحالة هذه أن يطرحوا مشروعاً لانسحاب القوات الأجنبية من العراق وإنقاذ البلاد كدولة موحدة. وعليهم أن يسعوا للحصول على دعم تركيا وإيران لمثل هذا المشروع، وهما البلدان المجاوران اللذان لهما مصلحة كبرى في استقرار العراق. ولعل النقطة المركزية في هذا المشروع تكمن في نظري بإعادة تشكيل الجيش العراقي تحت قيادة عراقية بوصفه المؤسسة الوحيدة القادرة على إعادة استتباب النظام وإعادة توحيد البلاد واتقاء الحرب الأهلية ولإشراف على تسليم السلطة إلى حكومة شرعية تمثل البلاد حقاً. وإعادة تشكيل الجيش توفر قبل كل شيء فرصة لأميركا وبريطانيا بانسحاب مشرف بدلاً من الانسحاب الكيفي. وأما الاقتراحات المطروحة حالياً لتشكيل قوة دولية بقيادة الأممالمتحدة فهي غير عملية، فما دامت القوات الأميركية باقية في مكانها وتتعرض لهجمات يومية فلن تتطوع كثير من الدول لتورط قواتها في هذا الخضم. وأما إذا لم يعالج الوضع الراهن فقد تنتقل عدوى الفوضى إلى البلدان المجاورة. فبلقنة العراق - كما يبدو أن بعض الأميركيين والإسرائيليين يتمنون - ستكون لها عواقب خطيرة على الأمن العربي. فاستقلال الأكراد لا بد أن يثير رغبات الانفصال لدى الجاليات الكردية في البلاد المجاورة كما عانت سورية ذلك أخيراً. وأما الصدام بين السنة والشيعة - فيما لو وقع - فسوف يؤثر على استقرار المنطقة بأسرها. إذن لا بد والحالة هذه من طرح مشروع عربي للعراق. ضياع فلسطين جاء دعم الرئيس جورج بوش لخطة شارون للانسحاب من غزة لينسف كل أمل بحل للنزاع العربي - الإسرائيلي في المستقبل المنظور. إذ تلاشت تقريباً أي إمكانية لحل القضية على أساس قيام دولتين. فهذا التراجع المجرم في المسؤولية الأميركية، من شأنه أن يولد دفعاً إضافياً لحلقة الإرهاب والإرهاب المضاد، ويشعل فتيل حرب إقليمية أوسع. ترى هل يمكن التراجع عن هذه السياسة الأميركية الضالة ؟ في رأيي أن على الزعماء العرب أن يقوموا بحملة واسعة في أميركا لشرح الأذى الذي تسبب به بوش ويحصلوا على تأييد المرشح الديموقراطي جون كيري. ويجدر بالوزراء العرب أن يستعدوا لشرح قضيتهم مباشرة للرأي العام الأميركي. كذلك لا بد لإعادة طرح مشروع السلام العربي الذي أقره مؤتمر القمة في بيروت عام 2002، والذي عرض على إسرائيل سلاما تاما مقابل انسحاب تام، ولا بد من حملة دعائية دولية لمصلحة هذا المشروع، فالرأي العام الإسرائيلي بحاجة إلى إدراك مزاياه وكذلك مؤيدو إسرائيل الأميركيون. وأما إذا لم يفعل العرب شيئا فماذا ستكون نتيجة الموقف ؟ في رأي الصحيفة اللندنية"فاينانشال تايمز"أن الثمن سيكون باهظا لأن ذلك سيؤدي إلى تأييد إسرائيل في السيطرة على نصف الضفة الغربية، أي تسعين في المئة من فلسطين الأصلية مقابل التنازل عن غزة التي لم يفكر يوما أي زعيم إسرائيلي في الاحتفاظ بها. فهل يقبل الزعماء العرب بضياع فلسطين من دون أي مقاومة؟ إنه سؤال يواجههم في كل عام يمر منذ وعد بلفور، ولم يجدوا له جواباً بعد. وأما التحدي الثالث الذي يواجه الدول العربية المعتدلة، ذات العلاقة الطيبة بأميركا، أو تلك التي ساعدت بطريقة أو بأخرى الحرب على العراق، فهو يتمثل بالتهديد الذي يشكله التيار الإسلامي الأصولي. فالسعودية في معركة طاحنة مع الإرهابيين، والأردن نجا بأعجوبة اخيراً من عملية إرهابية كبرى. وأما المغرب وتركيا فقد تلقيا ضربات قاسية. وخارج الشرق الأوسط تعرضت أسبانيا في عهد أثنار إلى ضربة مروعة في حين تعيش بريطانيا على الخوف من هجمات يمكن أن تأتيها في أي وقت. ونظراً لعجز الدول العربية عن الوقوف في وجه أميركا وإسرائيل، أخذ يملأ الفراغ أناس من كل حدب وصوب ينتمون إلى التيار الإسلامي المناضل. وبالرغم من المبالغ الطائلة التي صرفتها الدول العربية على شراء الأسلحة فإن ممثلي المقاومة الإسلامية، لا الدول المعنية نفسها، هم الذين يحاولون الحصول على قدرة ردع فاعلة. ورسالة هؤلاء لأميركا وإسرائيل هي"إذا قلتمونا فسوف نقتلكم". غير أن هؤلاء لا يقل خطرهم على الأنظمة العربية منه على أميركا وحلفائها. فكيف للزعماء العرب والحالة هذه أن يواجهوا هذا التهديد؟ ربما كان سلاحهم الأفضل هو القومية العربية، هذا الشعور السائد في الوطن العربي كله والذي ساهمت التغطية التلفزيونية في تأجيجه وتعبئته. إن في هذا قوة تنتظر من يسخرها ويستفيد منها. فكلما اشتدت عزيمة الزعماء العرب في الدفاع عن الأهداف القومية تضاءلت المساحة المتاحة للجماعات الإسلامية المقاتلة التي تعتقد بأنها وحدها التي تملك الشجاعة الكافية لمواجهة صلافة الأعداء ووحشيتهم. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.