يبدو مؤتمر القمة الذي يفترض أن يضم الملوك والرؤساء العرب في تونس وكأنه قد حكم عليه بالفشل قبل انعقاده... هذا ما يراه معظم الديبلوماسيين العرب والغربيين. ولعل التشاؤم بالنسبة الى اجتماعات على هذا المستوى العالي يراد منه الإشارة إلى ضعف النظام الإقليمي العربي بل الى انهياره. ذلك أن الضربات التي تأتي العرب من القوى الخارجية، مضافة إلى الخلافات في ما بينهم أفقدتهم القدرة على التحكم بمصيرهم، هذا على فرض امتلاكهم هذه القدرة في الأزمنة الحديثة. حتى الرجل المشهود له بكفاءة خارقة كالسيد عمرو موسى، الأمين العام الجامعة العربية لم يعد قادراً على اخماد الخلافات والتناقضات داخل المنظمة التي يديرها. أجل إن الخلافات والانقسامات العربية بلغت أقصى حدها. فبعض الدول أيد حرب أميركا ضد العراق والبعض الآخر عارضها، بعضها يتوق إلى استقلال حقيقي والبعض الآخر يرضى بحكم ذاتي محلي تحت مظلة دولة كبرى، بعضها عقد معاهدة سلام مع إسرائيل والبعض الآخر لا يزال في حال حرب، بعضها يدافع عن القضية الفلسطينية وبعضها يتمنى لو يتنصل منها نهائياً، بعضها يتجه بخجل نحو شكل من أشكال الديمقراطية في حين يتمسك البعض الآخر بنظام استبدادي أو بنظام الحزب الواحد، بعضها يريد تولي القيادة والبعض يرفض السير وراءه. كانت الوحدة العربية ذات يوم هدف العرب الأسمى، ثم هبط الطموح إلى تحقيق التضامن العربي. وأما اليوم فقد أصبح التطلع أكثر تواضعاً إذ انحصر بالسعي إلى تجنب الخلافات الداخلية العربية في حين تهتم كل دولة بوسائل الدفاع عن نفسها والبحث عن مصالحها وحدها. أمام اتجاه الوضع في المنطقة إلى هذه الفوضى، من حق المرء أن يتساءل ألم يحن الوقت كي يأخذ العرب زمام المبادرة ويطرحوا من لدنهم بعض الأفكار الإيجابية ؟ إن آخر مبادرة مهمة اتخذها الزعماء العرب كانت في قمة بيروت عام 2002 حين أيدوا بالإجماع خطة السلام التي طرحها الأمير عبد الله بن عبد العزيز، ولي العهد السعودي، حين عرض على إسرائيل سلاماً شاملاً وعلاقات طبيعية مقابل انسحابها إلى حدود 4 حزيران 1967. ولئن رفضت إسرائيل العرض، فإن العرب أخفقوا في تعبئة الرأي العام الدولي لدعم خطتهم، وتركوها تغيب نهائياً عن الأنظار والأذهان. بعض الدول الأوروبية تحث حالياً الدول العربية على العودة إلى هذا المشروع مع إضافة تفاصيل عن مقترحاتهم بشأن مسألة اللاجئين، وموضوع الحدود، ومسألة القدس، والأمن، والمشاكل العويصة الأخرى، بل تشير إلى إمكان اقتباس بعض الحلول التي توصل إليها الفلسطينيون والإسرائيليون في ما سمي ب "مبادرة جنيف". وإذا ما تم طرح مشروع الأمير عبد الله من جديد، واتخذ شكلاً محسوساً وعملياً، فيمكن عندئذ للعرب جميعاً أن يقدموه رسميا إلى مجلس الأمن ويتحدوا الولاياتالمتحدة وسواها بأن يرفضوه أو يضعوا ثقلهم لدعمه. ترى هل أن مثل هذا الاقتراح عملي أم أن الوقت قد فات؟ أحد الديبلوماسيين الأوروبيين عكس جو التشاؤم السائد إذ قال لي "إن الوضع في الشرق الأوسط قد خرج عن السيطرة، فالسياسة الأميركية قد أخفقت، والأوروبيون لم يطرحوا بديلا، والمنطقة تنزلق نحو وضع فوضوي كارثي". كارثة في العراق لقد مضى حتى الآن ما يقرب من السنة على اجتياح العراق من قبل أميركا وبريطانيا. ولكن مستقبل البلاد لا يزال محفوفا بالأخطار والشكوك. أجل إن أسباب الحرب فقدت صدقيتها عالمياً، لكن ذلك لا يبرر الوضع الدامي الذي يسود البلاد. فلقد صار العنف حالة طبيعية في حين يتهدد البلاد خطر الحرب الأهلية. وإذ تصاب أميركا كل يوم بخسائر بالأرواح وتداهمها المقاومة العراقية بهجمات أكثر شراسة وإحكاماً، فإنها تسعى إلى الخروج من العراق من دون أن تبدو هاربة عبر انسحاب كيفي. ويصعب معرفة أي فريق من العراقيين تأمل أميركا تسليمه السلطة والسيادة في آخر حزيران يونيو المقبل. هل سيكون التسليم لمجلس الحكم الحالي الذي يفتقر إلى السلطة وإلى الشرعية، أو إلى هيئة أوسع وأكثر تمثيلاً، أو إلى نوع من الحكومة الموقتة؟ لقد أيد الأخضر الإبراهيمي، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى العراق، فكرة الحاجة إلى انتخابات تشريعية، كما طالب بذلك آية الله السيستاني - لكنه أكد على ضرورة التحضير لهذه الانتخابات بحيث تتوفر لها الشروط الأمنية والسياسية الملائمة. بمعنى آخر، فإن الإبراهيمي يشكك في إمكان إجراء هذه الانتخابات قبل نهاية حزيران. ويترتب على هذه الملاحظات _ إذا ما أيدها كوفي عنان _ أن يؤجل موعد تسليم السلطة والسيادة بضعة أشهر، وهذا أمر لا تحبذه الإدارة الأميركية. ذلك لأن جورج بوش الذي يواجه حملة واتهامات بالذهاب إلى حرب دونما أسباب معقولة، بل استناداً إلى أسباب مزيفة، حريص على أن يظهر بعض التقدم في الوضع العراقي قبل حلول موعد الانتخابات في مطلع نوفمبر تشرين الثاني. والواقع أن السياسة الأميركية لا تزال غامضة وهي تعكس النقاش الدائر الآن في واشنطن. فأميركا تتمنى الخروج من العراق شرط أن لا يبدو ذلك اعترافاً بالفشل أو تخلياً عن أهدافها الاستراتيجية في منطقة الخليج. ولقد صرح الجنرال المتقاعد جاي غارنر الذي عيين أول حاكم أميركي للعراق، قائلاً: "إن القوات الأميركية لا بد أن تبقى في العراق خلال العشريات القادمة كي تمنح أميركا حضوراً كبيراً ومكثفاً في الشرق الأوسط". مثل هذه الملاحظات تؤكد رأي العديد من المراقبين بأن السبب الأول لعدم الاستقرار في العراق هو الوجود العسكري الأمريكي. أما إعادة الإعمار، فلا تزال تعاني الكثير من البطء... وقد ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" هذا الأسبوع أن الوضع في ال 185 مستشفى عراقي يكاد يصبح كارثياً. ففي مستشفى بغداد للتعليم المركزي للأطفال، كانت صفائح عديدة تفرغ محتوياتها من المجاري القذرة عبر طوابق المستشفى. كما أن مياه الشرب ملوثة إلى حد أن ثمانين في المئة من المرضى يغادرون المستشفى مصابين بالتهابات لم تكن لديهم لدى وصولهم. أما تزويد المستشفيات بالدم فيعاني أزمة حادة تدفع الأطباء في كثير من الأحيان إلى التبرع بدمهم لمرضى جاثمين أمامهم. وقد صرح أحد المسؤولين في وزارة الصحة يدعى إيمان عاصم قائلاً: "الوضع بلا شكل أسوء بكثير مما كان عليه قبل الحرب، على الأقل كان هناك مسؤول يقبض على زمام الموقف ويتحمل المسؤولية". وفي الأسبوع الماضي صرح وزير النفط العراقي السابق عصام الشلبي خلال مؤتمر عن الطاقة في هوستون - تكساس قائلاً بأن حقول النفط العراقية تخضع لإدارة سيئة من قبل سلطات الاحتلال ومن قبل شركة هاليبرتون التي أوكل إليها مهمة إصلاح البنية التحتية الخاصة بالنفط. فالإنتاج لا يزال أقل بكثير مما كان عليه قبل الحرب 8.2 مليون برميل في اليوم، وذلك بسبب انتشار السرقة على نطاق واسع دونما رقيب أو حسيب، وبسبب تقصير شركة هاليبرتون في القيام بأي عمل إصلاحي تحت سطح الأرض في حقول النفط. مأساة في الأراضي الفلسطينية يوشك الانسحاب الإسرائيلي من منطقة غزة المزدحمة البائسة والتي تعاني حالاً من الفوضى المتزايدة، يوشك هذا الانسحاب الذي أشار إليه شارون أن يؤدي إلى صدام بين الفلسطينيين تنتهي فيه حركة حماس بالانتصار على حركة فتح الموالية لعرفات وبالصعود إلى القمة. وهذا بلا شك ما يأمل شارون حدوثه: حرب أهلية فلسطينية تنتهي بانتصار الفئات المتطرفة. فإذا ما قام في غزة نظام إسلامي متشدد، استخدمه شارون لدعم حجته بضرورة احتفاظ إسرائيل بالضفة الغربية كي لا تجد نفسها محاصرة من قبل أعداء "ملتزمين إزالتها". وما زال شارون يطالب السلطة الفلسطينية بأن تتصدى للإرهابيين ولكنه بذل قصارى جهده ليمنع السلطة من فعل ذلك. وقد اغتنم كل مناسبة كي يضعف السلطة الفلسطينية ويهدم قواتها الأمنية في حين يفرض على رئيسها الإقامة الجبرية بين جدران مقره المدمر في رام الله. ولقد سعى شارون دائماً وبكثير من المكر إلى إفشال أو قتل كل شخصية فلسطينية معتدلة لأنه يعتبر المعتدلين أخطر بكثير من المتطرفين فهم يسعون للتفاوض على السلام، الأمر الذي يحاول شارون تفاديه بأي ثمن لأن أي اتفاق لا بد أن ينطوي على إعادة أراض للفلسطينيين. ولذا فهو يفضل المتطرفين إذ يمكنه أن يقول "كيف يمكنني التفاوض مع من يريد قتلي؟". هذا في الوقت الذي يستمر فيه بناء الجدار في الضفة الغربية كما يستمر توسيع المستعمرات. وقد أصدرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في جنيف هذا الأسبوع، وهي قلما تنتقد الحكومات، أصدرت بياناً يتضمن نقداً جارحاً لعملية بناء الجدار التي تعتبر على حد قولها خرقاً للقانون الدولي. وهي بذلك تنضم للرئيس جاك شيراك وكوفي عنان أمين عام الأممالمتحدة في إدانة الجدار واعتباره غير قانوني. أما بريطانيا التي تتحمل مسؤولية تاريخية في مصير الفلسطينيين، فإن رئيس الحكومة توني بلير لا يزال يلزم الصمت حيال هذا الموضوع. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.