في كتابه "بحوث في الرواية الجديدة"، يقول ميشال بوتور: "نكتب دائماً من أجل أن نُقرأ". والحقيقة أن القراءة ليست هي الهدف الوحيد والنهائي للكاتب. إن الأديب الملتزم، مثلاً، يرمي إلى شيء آخر، وربما أهم بالنسبة إليه من مجرد القراءة، وهو تغيير المجتمع أو انتصار القضية التي يدافع عنها. وإذا كان الإنسان من أتباع التحليل النفسي، يستطيع أن يقول، مثل فرويد، إن الأديب يكتب حتى يتسامى برغباته المكبوتة ويحل صراعاته الداخلية ويتكيف مع المجتمع، أي مع الواقع الخارجي. بالإضافة إلى ذلك قد توجد أهداف أخرى يسعى وراءها الكاتب مثل الشهرة والمجد، وربما الرفاهية بالمعنى المادي أيضاً. يمكن أن نعطي أمثلة تبين أن القراءة، على رغم دورها الأساسي في تحقيق غايات الكاتب الواعية منها وغير الواعية، المعلنة منها والمستورة، هي هدف وسيط فقط، لكن لا بد منه. ذلك أن وجود القارئ شرط لا مفر منه لوجود الكاتب، ربما تماماً مثل الزبون في مجال المبادلات ذات الطابع المادي. فأنت لن تجد قط ناشراً يقبل نشر عمل، ولو كان رائعة من الروائع، إذا عرف سلفاً أنه لن يجد قارئاً. من هنا جاءت، بدرجة معتبرة، سلطة القارئ المرتبطة في الواقع باقتصاد السوق، أي بنظام يسود فيه مبدأ القيمة التجارية في كل شيء. ومما زاد من هذه السلطة أن الكتاب، كما يقول ج. ب. سارتر في مؤلفه "ما الأدب؟" لا يوجد إلا إذا قرئ. وقد وجد دائماً أدباء ثاروا ضد هذه السلطة "غير المستحقة" ل"الجمهور"، وقد بلغ ذلك أوج الوضوح والانتشار عند الرومنسيين في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. يقول كيتس: "ليس لدي أدنى شعور بالتواضع تجاه الجمهور". ويقول شلي: "لا تقبل أي نصيحة من الساذج. إن الزمن كفيل بقلب حكم الجمهور السخيف. إن النقد المعاصر ليس أكثر من مجمل السخف الذي على العبقرية أن تصارعه". وقد كتب سير أجرتون بريدجيز في عشرينات القرن التاسع عشر: "إنه لشر لعين أن الأدب قد أصبح تجارة في أوروبا كلها. لم يبلغ أي شيء هذا المدى من تغذية الذوق الفاسد وإعطاء الجاهل سلطة على المثقف. إن الجدارة تقدر الآن عموماً بعدد القراء الذين يستطيع الكاتب أن يجتذبهم. هل يعجب العقل الجاهل بما يمتع المثقف؟". صحيح في آن واحد أن هذا الموقف من الجمهور مرتبط أيضاً بالنزعة الفردانية، في نظرة الرومنسيين للفن والتي كانت وراء تصورهم الأديب بأنه ذلك "الفنان المبدع المستقل ذاتياً"، لا يتأثر، بالتالي، بالمجتمع ولا ينخرط فيه. كلام كيتس وشلي وسير أجرتون بريدجيز حول الجمهور لا يمكن تصور صدور مثله اليوم من مبدعين، على الأقل في البلدان الديموقراطية والمصنعة حيث ارتفع المستوى الثقافي العام للمجتمع. ومع ذلك فإن بعض النقاد يتحدثون اليوم أيضاً عن القطيعة المتزايدة بين الكاتب والجمهور، والتي سبق الرومنسيون أن عبروا عنها بطريقة فيها الكثير من الفجاجة. وتعد "الرواية الجديدة" نموذجاً لهذه القطيعة بسبب عدم التلاقي بين ما يعرضه الكاتب وما ينتظره الجمهور. غير أن ألان روب غريي يرى في هذا الطلاق "صورة لطلاق أعمق يوجد بالضبط بين الإنسان والعالم". نقاد آخرون لا يتحدثون عن الطلاق بين الكاتب والجمهور، ولكن عن "موت القارئ"، بالنظر إلى تأثير وسائل الإعلام المكتوبة والسمعية البصرية في تحديد المقروئية. وفي هذا المعنى يقول جورج دورمسون، الروائي وعضو الأكاديمية الفرنسية، بأن الرواية التي لا يتحدث عنها التلفزيون في الأيام الأولى من صدورها هي رواية قد حكم عليها بالموت. وهذا يسمح لنا على الأقل أن نقول بغياب الاستقلالية عن القارئ والجمهور اليوم، تماماً مثلما يمكن قول ذلك عن الفنان، على رغم ما يزعم به الرومنسيون. غير أن وسائل الإعلام وتأثيرها ليست هي وحدها التي تحول دون الحديث عن القارئ كسلطة مستقلة. هناك أيضاً الاعتبارات السياسية والإيديولوجية التي يعود الحديث عنها بانتظام تقريباً على صفحات الجرائد عقب إعلان نتائج الجوائز الدولية الكبرى، كجائزة نوبل، التي هي أكبر جائزة مدرة للمقروئية. وإذا نفينا السلطة عن القارئ والاستقلالية عن المبدع، هل يبقى هناك مجال للحديث عن سلطة النص؟ ألا يمكن الحديث عن موت النص، في هذه الحالة أيضاً، باعتبار أن أدبية النص التي تمثل جوهر الأدب، ليست المرجع التي يستمد منها النص سلطته، بل عوامل خارجية، تنتمي إلى ميادين أخرى غير ميدان الأدب؟ مجال آخر، لا يحيل إلى مسألة الصلة بين الكاتب والجمهور، يتبدى فيه الطابع الإشكالي للعلاقة بين الفنان والمجتمع، يتعلق بمسألة الحرية التي يميل الفنانون والمبدعون اليوم، وفي كل زمن تقريباً، لا سيما في زمن الرومنسيين، إلى النظر إليها كنوع من الحق الطبيعي المرتبط بطبيعة الفن. فإذا كان الأدب فناً، فإن مادته الأولى هي التعبير بواسطة اللغة. من هنا جاءت حاجة المبدع إلى توسيع نطاق المنطوق والمكتوب، أي إلى الحرية. إن الطابع الاجتماعي للنص يجعل الأديب لا يكتب لنفسه، إذ لا يوجد ما يمكن تسميته بالاكتفاء الذاتي في ما يتعلق باستهلاك المبدع لفنه، فالمتعة والإشباع لديه يتوقفان في هذا المجال على مبدأ مشاركة الآخرين له. وهذا يعني أن غياب هذه المشاركة لا يمكن إلا أن يكون بالنسبة الى الفنان مصدر حزن وشقاء وربما حتى مصدر تمرد كما عند الرومنسيين. إن خطاب الفنان ليس خطاباً داخلاً في نطاق الحياة الخاصة والشخصية للفرد، بل هو خطاب اجتماعي، عمومي، يمكن بالتالي أن يؤثر في المجتمع عبر الجمهور أو القراء، على أساس أنهم يشكلون جزءاً من هذا المجتمع. لهذا كثيراً ما يحدث أن يرى المجتمع، من خلال سلطاته المختلفة وحتى رجال الفكر، أن ما يسري على أفراد المجتمع يسري أيضاً على الفنان بوصفه هو أيضاً عضو في الجماعة، وبأن الحرية التي يطالب بها في تعامله مع الضوابط والقيم والأخلاق والسياسة والإيديولوجيا السائدة، قد تشكل تهديداً لوجود الجماعة وتماسكها، خصوصاً أن الخطاب الفني يملك نوعاً من السحر والقابلية على الإغراء، الشيء الذي يكفل له القدرة على الانتشار، وبالتالي المزيد من التأثير في الناس. لهذا يرى الفيلسوف أفلاطون أنه "ينبغي أن نراقب الشعراء" اعتقاداً منه أن الشعر يحسن تصوير الشهوات والنزعات المنحطة في الإنسان، ويدعو المشرع ألا يسمح بمثل هذا الفن في المدينة، ويتحدث في "الجمهورية" عن العقاب "بالحرمان من التأليف". غير أن تدخل الدولة أو الجماعات الضاغطة، لا يشكل دائماً نموذج الرقابة الوحيد. فقد يمارسها الفنان على نفسه طواعية كما فعل الكلاسيكيون، إلى جانب وجود ظاهرة الرقابة الذاتية، التي قد تكون شعورية أو غير شعورية، والتي يمكن تفسيرها بحرص الكاتب على التكيف مع الواقع الخارجي أو بكونه مر بدوره، كأي فرد في المجتمع، بعملية التطبيع الاجتماعي. وتبدو علاقة الفنان بالجمهور، كعلاقة تبادلية، لا يمكن لجانب أن يستغني عن وجود الجانب الآخر، لكن من دون أن يمنع ذلك من أن يحاول كل طرف التحكم والسيطرة على الآخر أو حتى يثور عليه. كما يمكن الحديث عن موت القارئ وعن موت النص وعن موت المؤلف إذا كانت الحياة بالنسبة لهذه الأطراف تعني الاستقلالية.