لا يمكن أن تُعزى نجاحات تلفزيون الواقع التي تتبارى على تقديمها الفضائيات العربية إلى الفراغ أو اللاسبب. فالعدم لا ينتج إلا صفاته، ولا بد من أسباب حقيقية تسند انتشار هذه البرامج دون سواها من البرامج التي تملأ مساحة الأثير العربي. والذين تابعوا العام الماضي برنامج "سوبر ستار" الذي بثته فضائية "المستقبل" اللبنانية، رأوا كيف تقاطر آلاف المشاركين في البرنامج الذي انطلق، في بيروت قبل أيام، جزؤه الثاني. وفي موازاة "سوبر ستار"، تتسارع وتيرة التنافس في برنامج آخر تبثه فضائية "إل بي سي" هو "ستار أكاديمي" الذي حصد شهرة، وأثار، وما يزال، ضجة وضجيجا في أنحاء عدة من العالم العربي، وناهزت مشاركات المصوتين على المرشحين للخروج أوالبقاء فيه 100 مليون متصل من الوطن العربي من طريق الرسائل القصيرة س إم س. وإلى هذين البرنامجين ثمة برنامج "عالهوا سوا"، وبرنامج "بيغ براذر" الذي انطلق في البحرين ثم توقف لأسباب خارج تناولنا هنا. وهي برامج ترمي إلى الإحتفاء بثقافة شبابية جديدة ذات نماذج مستقاة من الغرب. والأهم أنها تسعى إلى سد فراغ كبير في الخطاب الموجه للشباب العربي. بيد أن الإقبال المنقطع النظير على برامج كهذه يؤشر الى إفلاس المحتوى التربوي والثقافي العربي الموجه لفئة الشباب الذين يشكلون في بعض البلدان أكثر من نصف السكان. فليس ثمة لهؤلاء خطاب خاص أو خطة تربوية أو ترفيهية أو تثقيفية، خصوصا وأن الجامعات في غالبيتها تخلت عن دورها التقليدي في إعداد الطلبة ليكونوا قادة، بل مارست عليهم ضغوطات هي في أكثرها ذات بعد أمني قمعت طموحات الشباب، ودجّنت أحلامهم، فلم تعد الجامعة أكثر من مدرسة واسعة، وكأنهم خرجوا من الغرفة الضيقة إلى الحديقة التي ظنّوها غنّاء، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أنها مسيجة بالأشواك. تلفزيون الواقع جاء ليسد، دون وعي مخطط ربما، هذه الفجوة التربوية فراح يدفع بمجموعة من الشباب والشابات في خضم مواجهة هدفها اكتشاف الطاقات والحواس والوعي الكامن بضرورة الصيرورة الفردية لكل مشترك. كما أن هذه البرامج حققت، في وجه من وجوهها، استقلالية الفرد وسلطت ضوءا ساطعاً، بدا ممنهجا، على هذا الأمر الحيوي، فرأى كل شاب عربي صورته وصوت أعماقه يتجسدان على الشاشة، فانخرط في اللعبة التي جعلت الفارق واهياً جدا بين الحقيقة والمجاز. هذه البرامج، لا سيما "ستار أكاديمي"، قدمت رؤية مغايرة للنمط العربي المعلن للعلاقات بين الجنسين، وأمعنت في الإصغاء إلى نداء الجسد والحواس، ولبّته بلا مغالاة، وأماطت اللثام عن العالم السري لهذه العلاقات، وقدمته بصفته شأنا عاديا. لذلك جلبت على نفسها الانتقادات والاتهامات بتسفيه القيم وتدمير الأخلاق وتعريض المجتمع للانحلال والرذيلة. ولعل ذلك ما زاد من شهرة البرنامج واتساع مشاهديه والمصوّتين للمشاركين والمشاركات فيه. لكنّ صوتا من الأصوات الناقدة والمهاجمة لم يسأل نفسه عن سر هذا الإقبال الذي لم يقتصر على الشباب، شاملاً كل أفراد الأسرة العربية. لم يسأل أحد من هؤلاء المنددين لماذا تقدم "ستار أكاديمي" وأخفقت كل البرامج التقليدية التي زعمت أنها تتوجه إلى الشباب. ففي إخفاقها إخفاق أشد فداحة للعقل التربوي العربي الذي ما انفكّ يراوح في مكانه لا يقوى على مقاربة ما يجري في العالم، ولا يتجرأ على تحطيم المحرّم الكريه الذي يحيط بواضعي المناهج والبرامج الموجهة الى السواد الأعظم من المجتمع العربي. ومهما زعم الزاعمون بأن هذه البرامج تشيع الانحلال والعلاقات المفتوحة بين الجنسين، فهي تبقى أجدى من مواد كثيرة في جامعاتنا لا تدعو الى التفكير ولا تحفز على الخلق والإبداع.