فلنفكر قليلاً بكولن باول وزير الخارجية الاميركي السابق، والذي استبدل بكوندوليزا رايس من مجلس الامن القومي. في الخارج هو نجم، في الداخل هو ذلك المتطفل الذي أصبح خارج اللعبة. سمعته للمرة الاولى يتحدث في لندن في العام 1990، بصفته رئيس أركان القوات الاميركية، غداة الاجتياح العراقي للكويت، وقد ترك أثراً لا ينسى. فهو طويل، وأسود، قوي البنية، ذكاؤه حاد، ارب في فيتنام وقلّد أوسمة عديدة. أجاب على عدد من الاسئلة المحرجة بلباقة وحذاقة كبيرتين. نال كولن باول الذي هاجر والداه الى الولاياتالمتحدة من المستعمرة البريطانية الصغيرة جامايكا، اعجاب الجمهور البريطاني بقوله كيف استفاد والده من التعليم الاستعماري الذي حصل عليه، وكم سيكون والداه فخورين لرؤيته يستقبل استقبال الفاتحين في بريطانيا. لا شك في أنني أحد الذين يعتبرونه أكثر كفاءة من جورج بوش لتبوء سدة الرئاسة. وصنّفت استطلاعات حديثة للرأي وزير الخارجية البالغ من العمر في مراتب تفوق فيها على بقية الوزراء وعلى الرئيس نفسه. وكان ليحذو حذو الرئيس دوايت آيزنهاور الذي جاهد في سبيل توحيد بلاده. وكان ليشغل منصب اول رئيس أسود بامتياز. لكنه بدا واضحاً أنه يفتقر الى الطموح المطلوب، كما انه من المعروف أن زوجته"إلما"لعبت دوراً في هذا القرار. فهي كانت تخشى أن يتم اغتياله اذا ما أصبح سيد البيت الابيض. وكتب الصحافي روبرت كورنويل في الاندبندت الايرلندية مقالاً بكثير من الحساسية والاطّلاع، جاء فيه"قد يكون الجنرال باول جمهورياً، ولكنه من أولئك الجمهوريين الذين ينقرضون، وأحد المعتدلين الذين تفوق على خطوط الاحزاب التقليدية. في الخارج كان ينظر اليه على انه الوجه الانساني لادارة تفتقر الى الانسانية. وبالنسبة الى دور قيادي، لم تعرف أميركا سوى قلّة من أمثاله". وأدّت أحداث 11 أيلول سبتمبر الى فقدان كولن باول الدعم في البيت الابيض وبين المحافظين الجدد كنائب الرئيس ديك تشيني ودونالد رامسفيلد ونائب وزير الدفاع بول ولفوويتز. وحتى ذلك الحين كان يمكنه ان يكون من الغالبية في ما يتعلق بالمشاجرات السياسية الداخلية. لكنه أطلق على زملاءه هؤلاء لقب"المجانين"اذ كانت لديهم روزنامة عمل خاصة بهم. فتجربته العسكرية الواسعة، وخبرته السياسية التي اكتسبها بالممارسة الطويلة في وزارة الدفاع، ومقاربته الحذرة للامور، وضعته على خط الاعتدال. واعتبر ان مهمته تكمن في العمل مع حلفاء أميركا الاساسيين، لا سيما في الشرق الاوسط، ومحاولة بناء حلف حقيقي لمكافحة الارهاب الدولي الذي تفشّى بشكل خطير. ولكن يبدو ان الرئيس استعجل خوض حرب العراق، ظنا منه ان هذا البلد يمنح فرصاً غير مسبوقة للحزب الجمهوري. ولن ينسى أحد الكلمة المقنعة التي القاها كولن باول أمام مجلس الامن التابع للامم المتحدة قبل أسابيع من الحرب غير الشرعية على العراق، ومن ضمنها العاصفة التي أثارها. فقبل هذه المناسبة أمضى أسبوعاً يتدرب ويتلقى توجيهات وكالة الاستخبارات المركزية سي أي إيه. وبالعودة الى الوراء قليلاً، كان هذا أسوء أوقات عهده كوزير للخارجية لانه قدّم بزهو أدلة على وجود أسلحة دمار شامل في العراق يستند في بعضها الى معلوات من الاستخبارات البريطانية، تبين لاحقاً أنها غير صحيحة. ويشعر أصدقاء الوزير وبعض منتقديه أنه كان يجب عليه ان يقتنص المناسبة لتقديم استقالته عندما أصبح واضحاً أنه فقد ثقة الرئيس ودعمه. لكان استقال عندما حمّلت وزارة الدفاع البنتاغون وليس الخارجية مسؤولية الحكومة العراقية بعد سقوط العاصمة، وما تبعها من وقائع عنيفة نشهدها يومياً على شاشات التلفزيون. الا ان كولن باول جندي منذ زمن طويل، وكان يقوم بواجباته محافظاً على موقعه في السياق العام. وفي الممارسة، كان الهروب خلال المعركة سيتركه عرضة للكثير من الانتقادات. وكما يعرف السياسيون عبر التاريخ، فإن سلطة المرء تزول بزوال منصبه. ويقال أن باول لما كان استقال بعد اعادة انتخاب بوش لولاية ثانية لو ان الاخير سمح له باعتماد سياسة أكثر صرامة حيال اسرائيل، وأكثر اعتدالا حيال إيران. من يدري؟ فهو لم يكن في ورطة فعلية ازاء العرب والاسرائيليين. وأنا واثق من أنه كان يعي جيّداً اهمية هذا الوضع لكنه ادرك ايضاً انه لن ينال دعم الرئيس بوش أبداً. الفترة التي قضاها كولن باول وزيراً للخارجية تشبه قصة كئيبة عن زوال الاعتدال. * سياسي بريطاني من حزب المحافظين.