حق الدول في استخدام الفضاء الخارجي    كلنا مستهدفون    لماذا يجب تجريم خطاب كراهية النساء ؟    أثقل الناس    تحولات التعليم.. ما الذي يتطلب الأمر فعله ؟    ايش هذه «اللكاعه» ؟!    خطر الوجود الغربي    العام والخاص.. ذَنْبَك على جنبك    «الترفيه»: ترخيص 1673 نشاطاً ترفيهياً بالمملكة في الربع الأول من 2024    المسابقات تعدل توقيت انطلاق عدد من مباريات دوري روشن    الاتحاد يتعثر من جديد بتعادل أمام الخليج    الجبير يلتقي وزير خارجية جمهورية كوستاريكا    الهلال ينتصر ودربه «سالم» أمام النصر    وزير داخلية سلوفاكيا: الاشتباه في محاولة "ذئب منفرد" باغتيال فيكو    إطلاق برنامج تدريب وطني شامل لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب    انضمام المملكة كعضو في الوكالة الدولية لأبحاث السرطان    رئيسا روسيا والصين يوقعان بياناً لتعميق الشراكة الشاملة    الاتحاد يكشف تفاصيل إصابة ثنائي الفريق    وظائف مدنية بالأمن العام في عدة تخصصات    البدر يضيء قاعة المركز الحضاري ببريدة    "سلامة النقل": لا شيء يؤثر على سلامة أجواء طيران المملكة    البنيان يشارك طلاب ثانوية الفيصل يومًا دراسيًا    بيان القادة العرب في قمة البحرين حول العدوان على غزة    48 مشروعا في الهندسة الطبية الحيوية والطاقة والنقل والمرور    ارتفاع أسعار النفط وخام برنت يسجل 83.63 دولاراً للبرميل    رئاسة السعودية للقمة العربية 32.. قرارات حاسمة لحل قضايا الأمة ودعم السلام    سمو محافظ الخرج يكرم الجهات المشاركة والرعاة لمهرجان الألبان والأغذية 2024    السعودية للكهرباء تعمل على تصنيع قطع الغيار بالهندسة العكسية وتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد    أمير القصيم يرفع «عقاله» للخريجين ويسلم «بشت» التخرج لذوي طالب متوفى    الشيخ بن حميد في منتدى "كاسيد": الإسلام يدعو للتسامح    " تطبيقية الرياض " تنظم المعرض السعودي للاختراع والابتكار التقني    "كواي" ابتكارات عالية التقنية تعيد تعريف التفاعل عبر مقاطع الفيديو القصيرة    وقاية.. تقصّي الأمراض الخطرة وإعداد خطط الطوارئ    جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل تحتفي بالفائزين بجائزة "تاج"    أمير تبوك يرعى حفل جامعة فهد بن سلطان    اختتام الاجتماع الوزاري الثاني لمنتدى الحياد الصفري للمنتجين بمشاركة الدول الست الأعضاء بالرياض    الكشافة تُدرب منسوبيها من الجوالة على "مهارات المراسم في العلاقات العامة"    نائب أمير الشرقية يستقبل وزير الاقتصاد والتخطيط    بتوجيه الملك.. ولي العهد يغادر لترؤس وفد السعودية في القمة العربية بالبحرين    أمطار على أجزاء من 6 مناطق    مدرب الأهلي يخضع فيغا لاختبارات فنية تأهباً ل"أبها"    "الخطيب": السياحة عموداً رئيسيّاً في رؤية 2030    صفُّ الواهمين    «عكاظ» تنشر الترتيبات التنظيمية للهيئة السعودية للمياه    أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    «الصحة» تدعو حجاج الداخل لاستكمال جرعات التطعيمات    «هاتريك» غريزمان تقود أتلتيكو مدريد للفوز على خيتافي في الدوري الإسباني    السفير الإيراني يزور «الرياض»    معرض"سيريدو العقاري"أحدث المشاريع السكنية للمواطنين    أمين العسيري يحتفل بزفاف نجله عبد المجيد    رحالة فرنسي يقطع ثمانية آلاف كلم مشياً على الأقدام لأداء مناسك الحج    رعاية ضيوف الرحمن    سقيا الحاج    تعزيز التعاون العدلي مع فرنسا وأستراليا    عبدالملك الزهراني ينال البكالوريوس    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    « سعود الطبية»: زراعة PEEK لمريض عانى من كسور الجبهة    لقاح جديد ضد حمى الضنك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التذرع بمعيار واحد الى تأويل الانتخابات الرئاسية يخلص الى توقع أهوال حربية وأصولية واقتصادية ثابتة ووشيكة . قيود على الولاية الاميركية الثانية من الانقسام الداخلي وتناقض النازع "الامبريالي" والقومي
نشر في الحياة يوم 09 - 11 - 2004

حمل انتصار جورج بوش الابن على منافسه الديموقراطي، جون كيري، على إغفال بعض الظلال التي اعترت هذا الانتصار، ولن تعدم أثراً في رسم سياسة الولاية الثانية وتقييدها بقيود كثيرة. فالرئيس "الجديد" كان فاز في العام 2000 على منافسه السابق، آل غور، بأصوات الناخبين الكبار، على حين سبقه منافسه الخاسر بنحو 500 ألف اقتراع. ولعل هذه السابقة، غير المجيدة، هي من دواعي تعظيم الفوز الأخير وإحرازه بفرق 3.6 ملايين صوت، وذلك في انتخابات رئاسية انتشلت نسبة المقترعين من جملة الناخبين لمدونين في السجلات من 51.3 في المئة قبل أربعة أعوام الى 56.5 في المئة. وكانت نسبة المقترعين هذه تردت منذ انتخابا ريتشارد نيكسون الجمهوري الى ولاية أولى، في 1968، فبلغت 60.8 في المئة يومها، ولم تعد الى مثلها مذ ذاك. وبلغت المشاركة أدنى نسبة في انتخاب بيل كلينتون الديموقراطي الى ولاية ثانية، في 1996، واقتصرت على 49.1 في المئة، بعد أن كانت ارتفعت الى 55.1 في المئة قبلها بأربع سنوات، وحاذت ال55.2 في المئة التي ثبتت نيكسون على ولاية ثانية لم يتمها بسبب ضلوع الرئيس في التجسس على مكتب الحزب الديموقراطي.
"الانقسام" وقيوده
والانتصار "الكبير" الذي بعث كثرة من المعلقين والمراقبين ربما على توقع اطلاق اليد الرئاسية في السياسة الأميركية، على وجهيها الداخلي والخارجي، "يقتصر" على فرق 3.1 في المئة من أصوات المقترعين 51.1 في المئة نظير 48. وهذا الفرق ليس ضئيلاً، طبعاً. ولكنه لا يدعو الى اغفال ال55.43 مليوناً الذين اقترعوا للمنافس الديموقراطي. وفيهم من يسميهم تيموثي غ. آش، مدير مركز الدراسات الأوروبية في جامعة أوكسفورد، "المنسيين"، من سود و"اسبان" من مهاجرين أميركا اللاتينية وأميركا الوسطى الهنود وعمال صناعات تقليدية آفلة وشبان ونساء عازبات وعاملات.
والتسابق على المشاركة في الاقتراع، وانتظار ساعات طوالالوصول الى أجهزته الالكتر نية، والاسهام في استفتاءات طاولت 34 وتناولت 163 سؤالاً من زواج المثليين الى استعمال خلايا الأجنة الجذعية في المعالجة الطبية - الى انتخابات اعضاء الى مجلسي الشيوخ والنواب، هذه كلها قرينة على قوة التزام سياسي وعام تترتب عليها مراقبة متشددة على أداء الحكام، واضطلاعهم بتكليفهم.
ويذهب جايمس إ. ثوربير، أحد أساتذة جامعة واشنطن ودراساتها البرلمانية والرئاسية، الى ان "انقسام" الناخبين، أي تقارب كتلتي الأصوات الناخبة، انما هو مدعاة اعتدال وموازنة، وليس سبباً في التطرف. وفوز حزب الرئيس، الجمهوريين، ب54 مقعداً في ملجس الشيوخ من 100 عوض الواحد وخمسين مقعداً في المجلس المنصرم، لا يُبلغهم بعد الستين صوتاً التي يحتاجون اليهم من أجل الحؤول بين الشيوخ الديموقراطيين وبين تقديم التعديلات على مشاريع القوانين. ويتيح تقديم التعديلات، وعرقلة الاقرار وارجاؤه - على افتراض وحدة الصف الجمهوري وتراصه - إضعاف هذه الوحدة، واستمالة الشيوخ المعتدلين الى اقتراع وسطي يقيد الرئيس، ويكبح مسايرته الجناح المتطرف، أو "الجنوبي" نسبة الى ولايات الجنوب المحافظ من هذا الحزب أو ذاك، إذا شاء المسايرة على ما يُظن في جورج بوش. ولم يذهب انجاز جون كيري، المنافس أو "المعارض" الديموقراطي، في أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية، هباءً. ولم يتبدد ناخبوه وأنصاره، ولا تبددت آراء بعض الفنانين والصحافيين والمثقفين البارزين الذين استمالتهم حملته، ومال عدد راجح منهم الى المرشح الديموقراطي المعتدل.
وقد يكون القيد الأقوى على سياسة الرئيس "الجديد" من ناخبيه أنفسهم. ففوزه ب51 في المئة من أصوات المقترعين لم يحل بين 52 في المئة من المقترعين وبين إعلانهم إما "غضبهم" على محصلة سياسة الرئيس في الأعوام الأربعة المنصرمة، أو "تذمرهم" من هذه السياسة وشكواهم، على ما صرحوا حين فراغهم من الاقتراع بحسب استطلاع بالعينة أجري على أبواب مراكز الاقتراع. وذهب 57 في المئة من المقترعين الى ان الرئيس يولي الشركات والمنشآت الكبيرة اهتماماً فوق ما يولي المواطنين العاديين، نظير 38 في المئة يخالفونهم الرأي. ويفوق الرقمان المتحفظان 52 و57 في المئة رقم المقترعين الذين فاز بوش بأصواتهم. فاقتراعهم له، على هذا، ليس تفويضاً. وليس بالأحرى، مبايعة على السراء والضراء. فبعض المقترعين، وهم الكثرة أو زهاء الكثرة، انما اقترعوا لصاحبهم دفعاً لمنافسه، وتقديماً له على المنافس المتاح. فوصف "ديلي ميرور"، الصحيفة البريطانية الليبرالية، ناخبي بوش التسعة وخسمين مليوناً ب"المغفلين" قد ينم ببعض المبالغة والغلو في الحكم في الناخبين بالغفلة، وفي حكم محرري الصحيفة في أنفسهم بالنباهة والذكاء.
والى قيود الناخبين، وانقسامهم وتعبئتهم، وقيود الهيئات والتقاليد السياسية والتمثيلية الأميركية، لا يسع الرئيس مهما كان الإجماع عليه قوياً، وهذه ليست حال جورج بوش، التفلت من الضوابط الاقتصادية الداخلية والدولية. ففي غضون السنة الآتية يتوقع أن يطاول التنقيل أو التعهيد الى خارج الولايات المتحدة، في الصناعة والخدمات، 830 ألف عمل، نظير 406 آلاف في 2003 و204 آلاف في 2001.
وتبعث الاستثمارات الداخلية الكبيرة التي لا تؤتي مرافق عمل، ولا تقلل من البطالة، أكان مصدرها النفقات العامة أم الأفراد والشركات، تبعث القلق في صفوف المواطنين والخبراء. وأدرجت في باب أفرد لها، وتعرف به، هو باب "الاستثمار العقيم". ويتفق تعاظم البطالة الى نيف و5 في المئة مع بلوغ العجز المالي، في 30 أيلول سبتمبر المنصرم، 413 بليون دولار. ونسبة قيمة العجز هذا من الناتج الاجمالي 3.7 في المئة. وكان فائض الموازنة في 2001 لا يقل عن 1.3 في المئة من الناتج. ولما تضمن برنامج المرشح - الرئيس الاقتصادي دوام التخفيضات الضريبية التي أجراها في 2001 - 2003 وتثبيتها سياسة مالية دائمة - وهي كانت قمينة بتمويل عجز الضمان الصحي الى العام 2022، على ما ذهب اليه كيري في احدى ندواته - تقلص هامش مناورة المالية الفيديرالية في حقول الدفاع والأمن الداخلي المدني والبرامج الاجتماعية العمالة والصحة والتعليم. وبدت العودة الى التوازن المالي، وهو يتصدر المعتقد الليبرالي الاقتصادي الجمهوري، أي الى 0.5 في المئة عجزاً مالياً في 2012، محالاً.
ويفاقم ضعف الادخار الداخلي لجؤ الخزينة الأميركية لتمويل نفقاتها الى الرساميل والودائع الأجنبية في سندات الخزينة. وفي طليعتها الودائع اليابانية والصينية. و"تستهلك" الخزينة الأميركية 75 في المئة من الادخار العالمي كله. وتفضي هذه الحال الى عجز كبير في ميزاني التجارة والمدفوعات. وبلغ عجز الميران التجاري في الأشهر الثمانية من السنة الجارية 5.7 في المئة من الناتج الاجمالي الأميركي. وأدى تراجع الرساميل الأجنبية، في آب أغسطس، بقيمة 4 بلايين دولار عن لشهر السابق الى ضعف الدولار، والى توقع تفاقم الضعف في الأشهر القادمة.
ولكن وصف الحال على هذا النحو، وهو وصف صادق ويكاد يجمع عليه خبراء ومراقبون من مشارب مختلفة، لا يترتب عليه ما يرجوه ويرغب فيه الناشطون والمناضلون. فيذهب أحد "استراتيجيي" "دويتش بنك" بلندن، تيم لاف، الى ان نمو الناتج الاجمالي الأميركي 4 في المئة العام الآتي، وهذا أقل بقليل من متوسط النمو الأميركي، يترتب عليه انخفاض العجز المالي من 3.7 في المئة الى 3.2، واستقرار النمو العالمي على ما هو عليه مؤداه انتفاع الصادرات الأميركية جراء ضعف العملة الأميركية، وقوة منافستها التجارية تالياً. فيقل عجز الميزان التجري مقدار زيادة الصادرات. وتتصدر السوق الأميركية، انتاجاً وتسويقاً، عوامل النمو العالمي. فشطر من العجز التجاري مصدره تعاظم الصادرات الصينية الى السوق الأميركية. ويكتتب المصرف المركزي الصيني في سندات الخزينة الأميركية، ويسهم في تمويل العجز المالي، لقاء الأسواق التجارية المفتوحة هذه. فإذا تفاقم عجز ميزان المدفوعات الأميركي تردى سعر صرف الدولار الى مستوى يدعو البلدان الأخرى، وفي طليعتها الصين، الى سياسة حمائية تتقي بها المنافسة الأميركية الكاسحة. فترد هذه بسياسة انغلاق مثلها تؤدي، بدورها، الى انهيار الصادرات الصينية والأوروبية. وهذه هاوية سحيقة يُستبعد الاقتراب من حافتها. وهي قيد متبادل تقيد به السياسات الاقتصادية بعضها بعضاً.
ويتمتع الاقتصاد الأميركي بما يؤهله للخروج من دوامة تتهدده، وتتهدد الاقتصادات الكبيرة المتشابكة بعضها ببعض على حد سواء. فاليد العامة المرنة والكفؤة تعود عليه بانتاجية متعاظمة. وهذه تقلص فرص العمل في الداخل، وتزيد الأجور مقدار زيادة التفاوت، وتوسيع الهوة بين أعلى الشطور وأدناها. ولا تزال الفوائد على التسليف سالبة، شأنها منذ نحو السنتين، والتضخم لا يتخطى 2.2 في المئة. وهذه عوامل استثمار، وتحفيز استهلاك منزلي، واعدة. وقَدِر الاقتصاد الأميركي، في غضون الأعوام الأربعة المنصرمة، أي منذ انفجار فقاعة البورصة وانهيار أسهم الصناعات الالكترونية والتكنولوجية الجديدة، على استعادة نموه، على ما كان عليه في 1999. وبلغ الدين المنزلي أو الأسري، وهو ما تستدينه "الأسر" وتوفيه تقسيطاً، ثلاثة أضعاف الدين العام، قرينة على حيوية السوق الداخلية بمعزل من الانفاق العام. والاستمرار على سياسة اقتصادية، "منزلية" أو داخلية وخارجية، متماسكة، أو الخروج عنها، ليس بيد الرئيس الأميركي، ولا بيد هيئة أو جماعة أو "طبقة". فالعولمة الاقتصادية تمتحن الجماعات كلها، ولا يسع جماعة استثناء نفسها.
اجتماعيات الاقتراع
ولا ينسب سلم مداخيل الذين اختاروا بوش رئيساً لولاية ثانية الى جماعة واحدة أو حتى غالبة. فإذا اقترع له 63 في المئة من الذين يبلغ دخلهم السنوي فوق 200 ألف دولار، والى هذه الجماعة نسبَه منافسُه ونعى عليه مراعاتها على حساب فئات الدخل الأقل، فهذه الجماعة ضيقة عدداً، وليس في مستطاعها الاضطلاع بانتخاب رئيس و"حراسته"، سياسياً واجتماعياً، هو وحزبه طوال ولاية ثانية. فالحزب الجمهوري يطمع في تولي الرئاسة طوال ربع قرن، على شاكلة صنيعه بين 1968 وبين 1992 إذا استثنيت ولاية كارتر في أعقاب أزمة "وترغيت". ولا يستقيم الأمر لأحد الحزبين إلا ببلورة جبهة أو كتلة اجتماعية و"ثقافية" عريضة ومتماسكة. واقترع لبوش 56 في المئة من الذين يبلغ دخلهم أقل من خمسين ألف دولار في السنة. وهؤلاء هم الشطر الأعظم من الطبقة المتوسطة الأميركية، انتاجاً واستهلاكاً أو توزيعاً.
وتُخرج هذه النسبةُ كتلةَ بوش والجمهوريين من الاقتصار على أهل "الشركات الكبيرة". والأرجح ان الخروج هذا، والتوسع نحو الطبقة المتوسطة وضمها الى الكتلة الانتخابية العريضة، جرت من طريق "القيم"، على ما تردد القول كثيراً، والمحافظة الأخلاقية، وليس من طريق سلم المداخيل والأحوال الاقتصادية والاجتماعية، على معناها الضيق، وعلى نحو غلبة انصار الرئيس الجمهوري في فئة المداخيل العالية، يضمر ناخبوه في فئة المقترعين من ذوي المداخيل الضعيفة، أي تلك التي يقل دخل أفرادها عن 15 ألف دولار في السنة، الى 36 في المئة.
فإذا جُمع الى المعيار الاجتماعي المعيار الاثني، وهو بدوره ينطوي على مفاعيل اجتماعية قوية، تضافر المعياران على توجيه اقتراع البيض وهم 77 في المئة من الجسم الانتخابي، الذكور والإناث، الى الرئيس المرشح أولاً 58 في المئة. واقتصرت حصة المرشح جون كيري على 41 في المئة منهم. واقترع 55 في المئة من المقترعين الذكور، من الجماعات واأعراق كلها، لبوش. وهذا قرينة، الى القرائن الأخرى، على ترتيب الناخبين على مراتب "القوة". فمن يجمعون موارد "القوة" وعواملها، على اختلافها، اقترعت كثرتهم للمرشح لجمهوري. وعليه اقترع له 11 في المئة من الافريقيين الأميركيين وهؤلاء كلهم 11 في المئة من الجسم الانتخابي، و4 في المئة من اللاتينيين الأميركيين 8 في المئة من جملة الناخبين، و44 في المئة من الآسيويين 2 في المئة من الناخبين.
ف"الانقسام" الأميركي، في ضوء صورة الاقتراع هذه، حقيقي في مواضع يجتمع عليها عوامل الاثنية والدخل والإقامة والتعليم والجنس والسن و"الثقافة". وهي حال السود الأميركيين. فهم أكثر الجماعات الأميركية تعرضاً لمنافسة المهاجرين الجدد، من "اسبان" يجتازون الحدود المكسيكية الأميركية خلسة، أو آسيويين. والمنافسة بين "الضعفاء" انما هي على المراتب الدنيا التي تتصور في صورة امتياز أو مكانة. ولما كان السود أقلية كثيفة، حال هذا بين معظمهم وبين الخروج من دائرة الجاذبية الإثنية، وأضعف مساراتهم الفردية واندماجهم تالياً في المجتمع الأوسع الى اعتبار اللون وثقل الأرث التاريخي. وقد يكون هذا هو السبب في تخطي الفرق بين نسبة المقترعين السود لكيري وبين نسبة المقترعين منهم لبوش متوسط العشرة في المئة 45 - 55 في المئة الذي يكاد يكون المتوسط المشترك في بعض أبواب الاقتراع والمقترعين الأخرى، على ما تقدم.
فاقتراع نحو 89 في المئة من الناخبين الأفريقيين الأميركيين لكيري الديموقراطي، وقرابة 75 في المئة من اليهود الأميركيين، يخالف اقتراب أبواب الاقتراع الأخرى الذكورة/ الأنوثة، اللون الأبيض، فئات السن من 18 - 29 الى ما فوق الستين، المذهب: البرتستانت/ البرتستانت والكاثوليك/ الكاثوليك بعضها من بعض. ففي هذه الأبواب كلها يترجح المقترعون للمرشحين المتنافسين بين حدي 40 و60 في المئة، ولا يشذ عن هذين الحدين ويتخطاهما الى نسبتين متطرفتين إلا اقتراع الجماعات الأفريقية - الأميركية، والجماعات اليهودية، وجماعة الذين لا يرضون تعريف أنفسهم باتباع دين ومعتقد. فهؤلاء اقترع 30 في المئة منهم لبوش، و70 في المئة لكيري.
وجلي أن دواعي الفروق الكبيرة في هذه الأبواب ليست من صنف واحد، ولا ترجع الى عامل واحد. فليس اللون الأسود هو العامل القوي في الانحياز الى الديموقراطيين والصدوف عن الجمهوريين، ولا الاعتقاد اليهودي هو هذا العامل، أو "اللا-اعتقاد". ففي الأبواب الأخرى التي تدخل تحت تعريف واحد، مثل اللون أو المعتقد، ينضوي التفاوت تحت فرق ضعيف أو قليل، على ما مر في حالي "الاسبان" الهنود والأسيويين. فالأنوثة تكاد لا تميز المرشحين واحدهما من الخر. ويَدخل الفرقُ اقتراعَ النساء من باب العزوبة والزواج، وبابي السن والعمل. ويميز السن الاقتراعين الجمهوري والديموقراطي تمييزاً ينضبط على فرق أقل من 10 في المئة في فئتين 18 - 29 عاماً وفوق الستين عاماً، ليتبدد الفرق في فئة 45 - 59 عاماً، ويقتصر على 5 في المئة، على جهتي الخمسين في المئة، في فئة 30 - 44 عاماً.
ولم تؤدِّ كثلكة جون كيري، وهو ثاني مرشح كاثوليكي ديموقراطي منذ جون كينيدي 1961 - 1963، الى انحياز مذهبي. ففاز بوش، البروتستانتي "المتطرف"، بنحو 49 في المئة من أصوات المقترعين الكاثوليك. ولم يحز المنافس الكاثوليكي على أكثر من اثنين في المئة "ريعاً" زائداً. وتقدم الاعتقاد الكاثوليكي رأي جون كيري في مسألة مثل زواج المثليين. فهو ذهب الى ان الإقرار بحق هؤلاء في عقد زواج يصح أن يقارن بحصول السود على المساواة بالبيض. فخالف في هذه المسألة، شأنه في مسألتي الطلاق والاجهاض، "عقيدة" الكنيسة الكاثوليكية، والحاح حبر روما الأعظم يوحنا بولس الثاني، فيها. واستعاد جورج بوش عبارة البابا في "ثقافة الحياة"، رداً على الاجهاض. وتقدم الخلاف في الرأي واستطلاعات المعروفة كلها. فتقدمت نسبة الذين حكَّموا "القيم الأخلاقية" في اقتراعهم، وهم 22 في المئة من الذين اقترعوا، الجماعات الأخرى: 20 في المئة حكّموا الاقتصاد والمسائل الاقتصادية، و19 في المئة الارهاب والحرب عليه، و15 في المئة حرب العراق.
فوسع الرئيس - المرشح استمالة الشطر الأعظم من اقتراع الجماعات التي يبلي البلاء "الحسن" في معيارها أو معاييرها الأثيرة والمفضلة. وعلى هذا انتخبه هو دون منافسه 86 في المئة من الذين يرون رأيه في الضرائب والحرب على الارهاب والقيم الأخلاقية الاجهاض والطلاق والمثلية الجنسية. وكثرتهم من المؤمنين الانجيليين والبيض والمسنين والنساء المتزوجات وذوي الدخول المتوسطة العالية والمقيمين في ولايات الجنوب والسهول الداخلية بين الشمال الغربي والجنوب الغربي وفي المدن الصغيرة ومن غير الملونين. وهؤلاء "يأخذون" الشطر الغالب من ال22 في المئة "الأخلاقيين"، ومن ال19 في المئة من الذين يقدمون الارهاب، ويقتسمون ال20 في المئة وال15 في المئة من الذين يقدمون المسائل الاقتصادية وحرب العراق. فلا يخسرون أو يتركون دائرة من دوائر المقترعين، ويتقدمون في أقواها استقطاباً.
تناقض "الامبرياليين"
وأما الذين فضلوا المرشح الديموقراطي فهم أقل حماسة وعصبية لآرائهم. فهم 74 في المئة على تقديم حرب العراق وآثارها في العلاقات الدولية والقيم الديموقراطية الأميركية والاقتصاد الأميركي والاقتصاد والصحة والتعليم على المشاغل الأخرى. فليس غريباً، والحال هذه، أن يستميل الرئيس السابق والجديد الشطر الأعظم ممن يجمعون بين المعتقد الديني وبين القيم الأخلاقية، ويحملون التشريعات القانونية والمدنية على إيمانهم ومعتقدهم. وهذا "تطرف" أميركي وغربي لا شك فيه، قياساً على التقاليد السياسية المدنية والديموقراطية الأميركية والغربية، وليس قياساً على مجتمعات تخالف تقاليدها السياسية هذه التقاليد، أو تمت اليها بصلة المحاكاة الخارجية والسطحية. وينم 95 في المئة من المحافظين الدينيين البيض، وهي نسبة من اقترع من جماعتهم للرئيس المتدين، بهذا "التطرف"، شأن 77 في المئة من الانجيليين البيض.
ويجمع المراقبون على ان "عبقرية" كارل روف، مستشار بوش الابن للشؤون الانتخابية والسياسية ومهندس خطة حملتيه وخصوصاً الثانية، قوامها التوجه الملح والدؤوب الى "خزان" اقتراع المحافظين المتدينين، وتأليب بقيته المستنكفة، أو الممتنعة من الاقتراع، عوض التوجه الى ناخبي الوسط المحافظ. وهذا على خلاف الخطط الانتخابية السابقة. ويجمع معظم المراقبين على ان الملايين الثلاثة أو الأربعة الذين خرجوا من تحفظهم، وانتخبوا صاحبهم، ورفعوا نسبة الناخبين الى فوق 56 في المئة، انما جاؤوا من هذا "الخزان". ويخالف هذا التوقعات الانتخابيةَ عموماً. فهذه تذهب الى ان الناخبين الجدد هم، في معظمهم، من الشباب والبطالين وأصحاب المداخيل القليلة، وهؤلاء يميل جلهم الى المرشح الديموقراطي. وربط الديموقراطيون الاقبال العريض على الاقتراع، في الساعات الأولى من 2 تشرين الثاني نوفمبر، بأثر مرشحهم وحملته في الناخبين الجدد، فتفاءلوا خيراً قبل تشخيصهم، وغيرهم من المراقبين، مصدر الإقبال المخالف.
وهذا لا يسقط صفة الرأي أو "الثقافة" من دواعي اختيار الناخبين مرشحهم، وتقديمه على منافسه ومعارضه في الحملة الأخيرة. ولكن تحكيم بعض الجماعات الدينية الكبيرة والعريضة معتقدها الديني المحافظ، أو ثقافتها الموروثة والثابتة، في رأيها السياسي، يقيد صفة الرأي وقوته بعض الشيء. والحق أن مثل هذا النازع ليس جديداً ولا طارئاً على اجتماعيات السياسة الأميركية الداخلية. وكان دور الجماعات المحافظة والأصولية راجحاً في الاقتراع لرونالد ريغان، على رغم ان الانتخابات الى الولاية الأولى عبأت أقل من 53 في المئة من الناخبين وذروة المشاركة في نصف القرن الأخير، وهي 63.1 في المئة، خلت من أثر العامل الديني. فالتذرع بمعيار واحد، ولو غالب في وقت من الأوقات، الى تعليل حادثة سياسية مثل تجديد ولاية رئاسية أميركية، يبعث على إهمال عوامل أخرى لم تنفك تؤثر أثراً عميقاً في الحياة السياسية واجتماعياتها وتاريخها.
فثمة وجه آخر من وجوه الانتخابات الرئاسية الأخيرة، يتعلق بجغرافية الناخبين الاجتماعية والسياسية والتاريخية، لم ينل ربما حقه من الانتباه. فالاقتراع الديموقراطي غلب حيث غلبت في السكان الأقليات العرقية والمهن والأعمال الفكرية والذهنية ودينامية اقتصادية وسكانية ديموغرافية قوية. والولايات التي تغلب عليها هذه السمات هي ولايات الشمال الشرقي، وساحل المحيط الهادئ الغرب، وبعض ولايات الوسط الجنوبي الغربي مثل كولورادو.
وفي هذه الدائرة يغلب الاقتراع الديموقراطي كذلك في المدن الكبيرة، أو المدن - المركز ومثالها واشنطن العاصمة، على سبيل المثال، الى نيويورك وفيلادلفيا وبوسطن وسان فرنسيسكو... وعلى خلاف هذه الدوائر يغلب الاقتراع الجمهوري في الأرياف والسهول الزراعية ومدنها الصغيرة، وفي ضواحي بعض مدن الساحل الشرقي مثل نيويورك ومينا بوليس وانديانا بوليس. وكثرة الولايات والمدن هذه في الجنوب والجنوب الغربي. وبعضها يقع في بلاد النفط مثل ريو باكوس. ويضعف الاقتراع لجورج بوش، تالياً، في معظم المدن "العواصم"، وفي البقاع الفقيرة من الجنوب دوائر السكان السود، وولايات الشمال الشرقي والشمال المتحدرة من هجرة أوروبية شمالية "اسكندنافية" على ما تسمى.
وتشهد الولايات هذه، وخصوصاً ولايات الساحل الغربي، حيوية اقتصادية واجتماعية وثقافية لا تحمل على المحافظة والانطواء والتجانس والاتباع، على خلاف المدن الصغيرة المنقطعة والضواحي - الجزر. فناخبوها لا يميلون الى مرشحهم أو حزبهم الميل العصبي الذي يميله ناخبو رئيس "مناضل" أو "داعية". فإذا كان مصدر الحشد والتعبئة للمرشح المحافظ و"المؤمن" هو الشيع الانجيلية والخلاصية، فهذه الشيع جزء من دائرة أوسع تسمها سمات اجتماعية فارقة. وتحمل السمات الاجتماعية هذه، وما لابسها من حوادث تاريخية ومنازع سياسية، اسم الجاكسونية، نسبة الى الرئيس الأميركي اندرو جاكسون 1767 - 1845، أو "القومية الجاكسونية". وينسبها أحد المؤرخين الأميركيين المعاصرين، أناتول ليفين، الى الجنوب الأبيض التقليدي، والى "الحدود" وفكرتها القائمة على الاستيطان والتوسع والسيطرة على الجماعات المحلية والأهلية. وينؤ الجنوب الأبيض الى اليوم بثقل هزيمته التاريخية في حربه الانفصالية مع الشمال، في منتصف القرن الأسبق. ولحمة حلف هذه الجماعة مع الجماعات الأخرى القريبة، مثل الكاثوليك الايرلنديين وبعض الجماعات اليهودية الضيقة أخيراً، هي تقاليد الهزيمة والاضطهاد، وجوابها في الأغلب هو عدوانية جامحة.
ولكن منازع هذه الجماعات التي يتحدر منها شطر من ناخبي بوش قد يكون الشطر الذي رجح فوزه بولايته الثانية، يناقض بعضها بعضاً. وهذا قيد على توسعها ودوامها وغلبتها. فقوة تماسك قيمها وأفكارها وهيئاتها وشعائرها تضطلع بدور آخر ينقض التماسك والجمع والتأليب، وهو تعميق خلافاتها والفروق بينها وبين مخالفيها. وأرادت بعض الجماعات المتشددة، وهي تقوم من المتطرفين المعاصرين مقام السلف، أميركا بروتستانتية وبيضاء "متطهرة" من "رجس" السيارة وآثر مقعدها الخلفي في الانحراف الجنسي، على زعمها. وتحلم بعض الجماعات الرجعية هذه، على المعنى الحرفي، بأميركا الرئيس دوايت ايزنهاور 1953 - 1960، تلك التي سبقت "الثورة الجنسية" وارتقاء السود وعلانية المثليين والتيارات النسوية وغيرها مثلها. وهذه المنازع، منذ منتصف القرن التاسع عشر الى اليوم، قد تجمع أصحابها وأهلها على عصبية قوية، ولكنها تبعدهم من معظم المجتمع الأميركي.
ولعل "تناقض" هذه الجماعات الأول والأعمق أثراً هو تناقضها السياسي. فهي تجمع العدوانية ونازع التوسع والسيطرة الى نازع الانكفاء والعزلة. والسياسيون الذين تحدروا منها، مثل روبيرت تافت وهيرمان ويلكير، غداة الحرب الثانية، قاوموا، على رغم مناهضتهم الشيوعية، انشاء حلف شمال الأطلسي، ومشروع مارشال. وهما نواة السياسة الدولية الأميركية. وعنهما نشأت الكتلة الأوروبية - الأميركية التي انتصرت على الشيوعية بعد اضطلاعها بدور حاسم في الانتصار على النازية والفاشية الأوروبيتين، وعلى العدوانية الألمانية في الحرب الأولى. ولا يبدو، اليوم، أن حظ التيارات المحافظة والمتشددة في تخطي تناقضها هذا، بين نازع الى السيطرة ونازع الى الانكفاء، كبير. والقيد العسكري على النازع الى السيطرة يبدد المزاعم في أربعة أعوام من الحروب، على قول بعضهم. وهو قيد ليس ضعيفاً. فالجبهة العراقية تستأثر ب140 ألف جندي مقاتل. ولا طاقة مادية ومعنوية على تعبئة نظيرهم أو شطر من نظيرهم في حرب تقليدية إلا بإحياء التجنيد الإلزامي، وهو ألغي منذ نهاية الحرب الفيتنامية ولا طاقة لأحد على احيائه.
وليس معنى هذا أن في وسع القلقين النوم مطمئنين، أو أن الرئيس الأميركي الثالث والأربعين رجل لن تلبث تناقضاته وقيوده أن تحرفه عن طريق الانفراد والاستعجال والارتجال الى طريق الشورى والأناة والرفق. ولكن الجزم في السياسة الأميركية الآتية بمنأى من تفحص القوى والتيارات التي تصنعها، ومن غير اعتبار أفعال العدو الظاهر والأعداء الكامنين، والحلفاء المتحفظين والفاترين، ضرب من الرمي المغرض في عماية مغرضة.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.