أواخر شهر ايلول سبتمبر 2004 اكملت"الانتفاضة"عامها الرابع. وتبقى ذكرى انطلاقتها مناسبة لمراجعة المواقف واستخلاص العبر والدروس المستفادة. وتفحص مسيرة انتفاضة الاقصى، كما سماها البعض او انتفاضة القدس والاستقلال كما سماها آخرون، يبين انها حملت في ثناياها خصائص ميزتها عن الاحداث الكبرى الاخرى التي شهدها كل من عاش سنين النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي الطويلة، بما في ذلك انتفاضة 1987 التي دامت بضع سنين. وابرز ميزات هذه الانتفاضة، اولاً، اقتران الفعاليات والتحركات الشعبية بأعمال عسكرية كثيفة، وارتفاع وتيرة الخسائر البشرية والاقتصادية بين الطرفين وطغيان العمليات الانتحارية او الاستشهادية، على ما عداها من فعاليات واشتراك المرأة فيها. وثانياً، مشاركة النظام السياسي الرسمي في الانتفاضة بقوة عبر حزبه الرئيسي حركة"فتح"وكادرها العسكري، ومشاركة اجهزة السلطة الامنية والمدنية فيها. لا مجال هنا للبحث في اسباب طغيان تمجيد الذات الحزبية في الفكر السياسي الفلسطيني، ولا ضرورة ايضاً في هذه الفترة بالذات لتركيز البحث في انجازات الانتفاضة الكبيرة والصغيرة. واعتقد ان اكبر خدمة تقدم للانتفاضة على عتبات العام الخامس هي تسليط الاضواء على سبل تعزيز صمود الناس وتقليص خسائرهم. وثانياً، استعادة زخم التحركات الشعبية في الانتفاضة ومعالجة مشاكلها وثغراتها وتخليصها من الظواهر المرضية التي اثرت في مسيرتها وتؤثر في مستقبلها. وثالثاً، تفهم ابعاد احداث 11 ايلول سبتمبر 2001 على النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، وانعكاس الحرب العالمية المعلنة ضد"الارهاب"على اشكال النضال في الانتفاضة. في بداية الانتفاضة أكدت القوى الوطنية والاسلامية اهمية الحفاظ على طابع الانتفاضة السلمي، وبقاء الحجر والتحركات الشعبية المتنوعة بمثابة السلاح الاساسي في مواجهة قوات الاحتلال. وتركيز الجهود ضد الحواجز والمواقع العسكرية على مداخل المدن والقرى والمخيمات وضد المستوطنين وتحركاتهم في الضفة والقطاع... الخ، لكن هذه العقيدة السليمة لم تعمر طويلاً، ونجحت المؤسسة الامنية الاسرائيلية في استدراج القوى الوطنية والاسلامية الى ملعب العمل العسكري حيث تتفوق، وتتقن فنون العمل فيه، ومنه تستطيع رفع كلفة الانتفاضة وزيادة الخسائر البشرية، من دون ردات فعل في الرأي العام والدولي ومن قوى السلام في اسرائيل. وبدخول الفلسطينيين هذا الميدان"تعسكرت الانتفاضة"ولعبت السلطة وحزبها السياسي"حركة فتح"وذراعها العسكرية"كتائب شهداء الاقصى"دوراً رئيسياً في ادخال"اللباس العسكري"في صورة الانتفاضة، ولم تقصر"حماس"و"الجهاد الاسلامي"و"الجبهة الشعبية"في تكريس صورة دموية. وارتبطت ميزة العسكرة بتراجع المشاركة الشعبية في فعاليات الانتفاضة وفقدت صفة الحركة السلمية سلاحها حجر نظيف. وحلت العمليات الانتحارية مكان التظاهرات والاعتصامات الجماهيرية والمقاطعة الاقتصادية... الخ وتحول الناس في الضفة والقطاع من جمهور يحرك الانتفاضة ويتفاعل مع نداءات قيادتها، الى قطاع من المراقبين المتفرجين اليقظين، ينتظرون سماع الخبر المثير وظهور البطل في عملية عسكرية ضد الجيش الاسرائيلي او تنفيذ عملية انتحارية في مطعم او باص او ملهى في شوارع المدن الاسرائيلية وصارت الانتفاضة وفعالياتها بعد العام الاول شيئاً آخر مختلفاً تماماً عن الانتفاضة الاولى، وابتعد عن توجهاتها ومنطلقاتها الاساسية، وتحولت الى مواجهات حربية كلاسيكية بين قوتين، ميزان القوى بينهما مختل بشكل فاحش لمصلحة الطرف الاسرائيلي. ومنذ ذلك التاريخ، وبعد طغيان صوت الرصاص والمتفجرات على صوت الحناجر والطناجر... لم يعد بمقدور قيادة الانتفاضة اقناع الناس في الضفة والقطاع، ناهيك عن الاشقاء العرب والاصدقاء في العالم بأن الانتفاضة حركة شعبية سلمية ومستقلة عن السلطة وظهر انصار العمليات وكأنهم يستهدفون جهود العالم من اجل السلام، واضعاف مصداقية القيادة الفلسطينية واظهار عجزها، اكثر من استهداف مصالح اسرائيل. ويسعون الى استدراج ضربات عسكرية اسرائيلية مدمرة لمؤسسات السلطة وقيادتها ومراكز اجهزتها والبنية التحتية التي بنيت بشق الأنفس. وأياً تكن النيات فالعمليات"الانتحارية"التي سقط فيها مدنيون اسرائيليون وأجانب ألحقت اضراراً فادحة بالمصالح الفلسطينية العليا في كل الحقول والميادين. وسهلت على ادارة بوش وبعض الدول الأوروبية، تحميل الفلسطينيين مسؤولية تخريب عملية السلام وتعريض استقرار الشرق الأوسط للخطر، ومكنتها من مساواة المجرم بالضحية. ومع اتساع نطاق"العسكرة"تصاعد استخدام السلاح من جانب اسرائيل وبلغ ذروته باستخدام الطائرات والدبابات في قصف المواقع الفلسطينية المدنية والقيادية، وصار اجتياح القوات الاسرائيلية المدن والقرى والمخيمات وقتل خمسة الى سبعة مواطنين عادة يومية يتقبلها العالم ببساطة. وارتفعت خسائر الفلسطينيين البشرية والاقتصادية بصورة مذهلة. قابله تطور في"العسكرة"وانتقلت الى مرحلة استخدام مدافع الهاون وصواريخ"القسام". وقصفت بلدة سيدروت بصواريخ فاق عددها كل ما قصفت به كل المستوطنات. وزادت نسبة الاسرائيليين المطالبين بحل النزاع المتعلق بالأرض والحدود والمستوطنات على قاعدة التعجيل بالفصل من جانب واحد بين الشعبين. وأجاد شارون استغلال هذا التطور في موقف الشارع الاسرائيلي، وانشغال الادارة الاميركية في العراق وفي الحرب ضد الارهاب، واسرع في مصادرة مزيد من الأراضي وبناء الجدار. صحيح ان نهب الأرض ومحاولة فرض الأمر الواقع في ما يتعلق بالحدود والاستيطان توجهات ليكودية قديمة، لكن لا أحد يستطيع اعفاء أنصار عسكرة الانتفاضة والعمليات الانتحارية من مسؤولية تسهيل طريق شارون لانجاز هذه المهمات الاستراتيجية. لا جدال في ان العمل العسكري الفلسطيني وضمنه العمليات الانتحارية رفع نسبة الخسائر الاسرائيلية وأثبت فشل شارون والمؤسسة الأمنية في توفير الأمن للاسرائيليين، لكن الصحيح ايضاً انها وضعت الشعب الفلسطيني أمام خطر خسارة انجازات مهمة حققها في السنوات القليلة الماضية، وخطر وصم نضاله العادل والمشروع ضد الاحتلال بالارهاب. وعندما تصبح حركتا"حماس"و"الجهاد الاسلامي"وقوى فلسطينية أخرى في دائرة القوى الارهابية المستهدفة اميركياً وأوروبياً وغدا من أطراف في النظام الرسمي العربي... فإن ذلك يشكل في الظروف الراهنة المعقدة مأزقاً ليس فقط لهذه القوى، بل وايضاً للقيادة الشرعية الفلسطينية والشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه. وفي هذا السياق لعل يفيد تنبيه قيادة"حماس"، وجميع أنصار العمل العسكري، مبكراً الى ان أحد أهداف اغتيال اجهزة الأمن الاسرائيلية المناضل المبعد عزالدين الشيخ خليل أحد كوادر"حماس"في دمشق، هو استدراج قيادة"حماس"الى ملعب العمليات العسكرية الخارجية، الى جانب الأهداف الأخرى المتعلقة بالصراع السوري - الاسرائيلي، حيث تتفوق امكانات وطاقات اسرائيل الاستخبارية والعملية على"حماس"وسورية ومعهما نصف الدول العربية ان لم يكن كلها مجتمعة. لقد جربت المقاومة الفلسطينية العمل العسكري في"المجال الخارجي"، وكانت الحرب الباردة في أوجها، ونجحت الجبهة الشعبية بامتياز في سبعينات القرن الماضي في تنفيذ عمليات نوعية ضد أهداف اسرائيلية واميركية وأوروبية واستعانت بمناضلين أمميين... الخ. لكن قيادة"الجبهة الشعبية"راجعت موقفها واعترفت بأن العمليات العسكرية الخارجية ألحقت اضراراً بالقضية والمصالح الوطنية العليا للشعب وب"الجبهة الشعبية"ذاتها وبعلاقاتها الاقليمية والدولية. وتراجعت عن هذا النمط من العمليات، وقررت اعتبار أرض الوطن ميدان العمل الوحيد. وأظن انه لا داعي لتكرار تجربة الجميع يعرف سلفاً ان نتيجتها خسارة وطنية فلسطينية وخسارة"حماسوية"صافية. لا شك في ان تباين مواقف القوى الوطنية والاسلامية ورؤاها الفكرية والسياسية والتنظيمية، مسألة طبيعية وظاهرة صحية تماماً. وبديهي القول ان الحوار والنقاش الداخلي مهما تعمق وطال لن يحقق اجماعاً وطنياً حول الموقف من عسكرة الانتفاضة والعمليات الانتحارية. لكن، اذ كان الاجماع حول هذه القضايا مستحيلاً، ناهيك عن كونه ليس مطلوباً، فالمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني تفرض في هذه المرحلة الخطيرة، توصل هذه القوى بالحد الادنى"الى تفاهم استراتيجي"او"مرحلي مشترك". وبديهي القول ان الالتزام بما يتم الاتفاق عليه لا يقل اهمية عن التفاهم ذاته. واجزم ان لا خلاف بين القوى الوطنية والقوى الاسلامية او بين السلطة والمعارضة حول عدالة الموقف الفلسطيني او شرعية مقاومة الاحتلال، وظلت الانتفاضة بايجابياتها وسلبياتها في نظر الشعوب العربية وشعوب اخرى عانت من الاستعمار حركة مقاومة مشروعة لناس لم يعودوا قادرين بعد اكثر من ثلث قرن على تحمّل ممارسات الاستعمار الاسرائيلي فترة اطول. لكن الخلاف الجوهري مع انصار"الانتفاضة المسلحة"وانصار"العمليات الانتحارية"يكمن في تقدير الممكن تحقيقه من الاهداف الوطنية في كل مرحلة، خصوصاً في مرحلة التراجع التي تمر بها الامة والادق في فترة تدهور وانحطاط النظام الرسمي العربي. وايضاً حول الوسائل والاساليب الانجع لتحقيق الاهداف الوطنية في مرحلة الحرب على الارهاب. وبصرف النظر عن ممارسات شارون العنصرية، ليس من حق احد تحويل النضال الفلسطيني المشروع في نظر العالم الى ارهاب، وهناك دائماً امام الفلسطينيين وسائل نضال فعّالة ومجدية، واخرى فعالة لكنها ضارة قد تتسبب في الحاق الهزيمة بالاهداف وبالمناضلين من اجلها، وهذه يجب تفاديها حتى لو كانت عادلة ومشروعة. وهناك نوع ثالث يحرص القانون والمبادئ الاخلاقية، وهذا ايضاً يجب تفاديه كلياً. وليس من حق احد ان يفرض موقفه ويورط الغالبية في ما يجب تفاديه، حتى اذا كان الاحتلال لا يتورع وهو كذلك عن ارتكاب ابشع انواع الارهاب. وآمل بأن تكون ذكرى انطلاقة الانتفاضة الى مناسبة لتكريس تقليد تقويم ومراجعتها التجربة وتسليط الاضواء بصورة صريحة على الاخطاء والنواقص. * كاتب فلسطيني، رام الله.