Norberto Bobbio. Le sage et la polique ƒcrits Moraux sur la Vieillesse et la Douceur. الحكيم والسياسة: كتابات أخلاقية حول الشيخوخة والوداعة. Albin Michel, Paris. 2004. 156 Pages. بعد أن كان نوربرتو بوبيو أصدر في 1995 كتابه "اليمين واليسار" - وقد عرضناه في حينه على صفحة "تيارات" - ها هو الأب الروحي لليسار الايطالي يصدر بعد الوفاة - التي كانت في مطلع 2004 - كتابه هذا عن "الحكيم والسياسة". ورغم ان هذا الكتاب يتضمن فصلاً فلسفياً عن "الأخلاق والسياسة"، إلا أنه في الواقع ليس كتاباً عن السياسة، بل هو أشبه ما يكون بكتاب - وصية في فلسفة الحياة، وبالتالي في فلسفة الموت، أو بتعبير أدق في فلسفة التخوم الفاصلة بين الحياة والموت كما تتمثل بالشيخوخة. الشيخوخة كانت حتى الآن من موضوعات الكتابة المستبعدة، أو حتى المستحقرة. فما أكثر الكتاب الذين يتحدثون عن طفولتهم، ولكن ما أقلهم الذين يتحدثون عن شيخوختهم التي تترادف في أنظارهم وأنظار قارئيهم مع غروب الحياة ومواتها، هذا ان لم تُدفع بأنها سن الخرف. بوبيو يبدأ دفاعه عن الشيخوخة بملاحظته ان عتبتها قد انزاحت في الآونة الأخيرة بمقدار عشرين سنة. فمن كتب عن الشيخوخة، ومنهم - على قلتهم - الفيلسوف الروماني شيشرون، ما كانوا يجاوزون الستين من العمر. اما اليوم فإن الانسان الستيني لا يعتد شيخاً إلا بمعنى بيروقراطي، لأنه يكون قد بلغ في العادة السن القانونية للتقاعد. وفي المقابل، فإن الشيخوخة البيولوجية لا تبدأ اليوم إلا مع مقاربة الثمانين. وهذا الانقلاب البيولوجي يترتب عليه انقلاب معرفي. ففي المجتمعات التقليدية كان الشيخ يُعتبر خازن المعرفة ومستودع الحكمة. فهو، بالتعريف، الذي يعلم ما لا يعلمه الشبان. لكن في المجتمعات الحديثة انقلبت هذه العلاقة بين الذين يعرفون والذين لا يعرفون. فمع التقدم التقني المطّرد باستمرار، يغدو الشيخ هو الذي لا يعرف بالمقارنة مع الشاب الذي يعرف والذي يزداد قدرة على المعرفة لأنه يحوز المرونة اللازمة للتكيف مع وسائل المعرفة الحديثة. اذاً، بالاضافة الى الشيخوخة البيروقراطية والشيخوخة البيولوجية، هناك اليوم الشيخوخة الثقافية. فالشيخ يميل الى التمسك بمرجعياته الثقافية، على حين ان الشاب يميل الى تجاوزها باستمرار. ومن هنا ظاهرة أفول الايديولوجيات في العصر الراهن. فليس أدل على شيخوخة الشيخ اليوم من تمسك الماركسي بماركسيته العتيقة. فحتى الأمس القريب كان الماركسي فيه يتوهم أنه قد تجاوز كل المذاهب الايديولوجية التي تقادم عليها الزمن بدون ان يكون قابلا هو نفسه لأن يُتجاوز من قبل غيره. لكن ها هو اليوم يكتشف، مع تطاول أمد الشيخوخة البيولوجية، انه وهو المتجاوز بالكسر قد صار متجاوزاً بالفتح. ومن هنا شعوره بالغرابة في العالم الذي ما زال يعيش فيه، ومن هنا تشبثه، في مسعى منه الى التغلب على هذا الشعور بالغرابة، بمرجعيات عالمه الثقافي الخاص، مما يزيده انحباساً في دائرة الشيخوخة الثقافية. ان عالم الشيوخ هو في المقام الأول عالم الذاكرة. فإذا كان الانسان يتحدد بأنه ما فعله وما أحبه وكرهه وما فكر به، فإن عالم الشيخ يتحدد بما يتذكره. فذكرياته هي كل ثروته، لكن هذه الثروة تميل لا محالة الى الافتقار لأن الذكريات تميل بدورها الى التبخر. وما لم تخذله ذكرياته، فإن الشيخ يبقى على قيد الحياة. على أن هذه الذكريات لا تحييه بقدر ما تمنعه - مثلها مثل الأدوية - من الموت. فالبعد الذي يعيش فيه الشيخ هو الماضي. ولأن المستقبل لا معنى له بالنسبة اليه، فإن كل حاضره يتلخص في أن يعطي معنى لحياته الماضية التي تتكشف له طرداً مع تقدمه في السن على أنها كانت بلا معنى. ولولا فعل التذكّر لفقد الشيخ كل هوية متبقية له. لكن حتى وهو يطوف بأماكن الذاكرة، فإنه يجدها مسكونة بالأموات. وهؤلاء يتكاثرون عدداً كلما تأخر به هو نفسه الموت. فقبل ان ينطفئ الشيخ يكون جيله نفسه قد انطفأ. ومع ذلك فإن ذاكرته تمنع هؤلاء الأموات من أن يموتوا نهائيا، وتمنحهم بقية من حياة، أو تقدم لهم ملاذاً أخيراً من العدم. الا ان السؤال الذي يقضّ مضجع الشيخ - هذا اذا كان لهذا التعبير من معنى بالنسبة اليه اصلاً - هو: هل سيكون هناك من بعده من يتذكره حتى يقدم له بدوره ملاذاً من العدم النهائي؟ الشيخوخة هي، بالحتمية البيولوجية، نزول نحو العدم. نزول متواصل، وغير قابل للانعكاس. وفي سلم النزول هذا قد لا يعرف الشيخ أين هي الدرجة الأخيرة. لكن ما يعلمه علم اليقين ان الدرجات الباقية تتضاءل عدداً باستمرار. وأحياناً تنتابه الدهشة هو نفسه عندما يكتشف أن الدرجة التي كان يحسب أنها الأخيرة لم تكن هي الأخيرة فعلاً. لكن ماذا بعد الموت؟ إن الشيخ لا يستطيع أن يتفادى طرح هذا السؤال على نفسه. والجواب الذي يجده له نوربرتو بوبيو لا يخلو من شجاعة: فعنده أن الموت هو العدم المطلق. وهو لا يجهل أن هذه نقطة خلاف كبيرة بين البشر. لكنه يتساءل لماذا لا تُتخذ بدورها معياراً لقياس تغاير البشر في ما بينهم؟ فصحيح أن البشر يختلفون بالعرق والقومية واللغة والدين والزي والصحة والجمال والثروة. لكن كل هذه المعايير قد تفقد أهميتها في نظر الشيخ ليحصرها بمعيار واحد: اعتقادهم أو عدمه بوجود بعد الموت. وسواء اعتقد الناس ببعث في عالم أخروي سماوي، أم ببعث في هذه الدنيا بالذات عن طريق التناسخ، أم ارتأوا على العكس أن الموت عدم مطلق واضمحلال في سديم الهيولى الكونية، فإن اعتقادهم هذا هو محض ظن وتخمين وليس له مستند من أية حقيقة موضوعية. ووحده موتهم هو الواقعة الأكيدة الوحيدة. لكن حتى هذه الواقعة لا تقع تحت ممسكهم. فالأموات لا يموتون إلا في وعي الباقين على قيد الحياة، هذا إن وعى الآخرون موتهم. ذلك أن امتداد أجل الشيخوخة البيولوجية قد يجعل الشيخ يموت وحيداً، بعد أن يكون من عرفهم أو أحبهم أو أحبوه قد سبقوه إلى الموت. عندئذ يكون موته مطلقاً، أي من دون أن يبقى على قيد الحياة في الذاكرة الموقتة لأي حيّ آخر. هل معنى ذلك أنه ليس أمام الشيخ ما يفعله سوى أن ينتظر الموت كما لو أن ساعة الزمن قد توقفت بالنسبة إليه سلفاً؟ الواقع ان معركة الشيخ الأخيرة هي المعركة، لا مع الموت نفسه، بل مع الزمن. فهو يجد نفسه محاصراً بين ايقاعين: ايقاع حياته المتزايد بطئاً وايقاع الزمن المتزايد سرعة بحكم تناقص رصيده يوماً بعد يوم. لهذا يستعجل الشيخ في البقية المتبقية له من الزمن أن ينجز ما لم ينجزه بعد. وهذا الصراع هو بالضبط ما قد يبقيه على قيد الحياة لفترة أطول. لكن النهاية الوشيكة تبقى محتومة. والشيخ الحكيم هو من يتقبلها بوداعة. والوداعة هي كلمته الأخيرة إلى البشرية الباقية من بعده. فبشرية القرن العشرين - وهو القرن الذي عاشه نوربرتو بوبيو من أقصاه إلى أقصاه - كانت بشرية عنيفة ودامية إلى أقصى حدود العنف والدم: حربان عالميتان، وتجارب نازية وفاشية وستالينية، وسلسلة لامتناهية من الحروب الاقليمية والأهلية. وها هو القرن الحادي والعشرون ينذر، منذ مطلعه، بأن يكون قرن الإرهاب العالمي. أفما آن إذاً للبشرية أن تكتشف فضيلة الوداعة التي هي في نظر الشيخ أم الفضائل؟ فالوداعة هي رفض ممارسة العنف ضد كائن من كان، ولسبب ما كان. وفي عالم مزّقته السياسات الجبروتية والانتقامية للقوى الكبرى والصغرى، فإن الموادعة فضيلة غير سياسية. بل أكثر من ذلك: هي ترياق ضد السياسة. وهذا من حيث أن السياسة كانت، ولا تزال، تفعيلاً لمبدأ القوة.