وصلني أخيراً كتاب "مقالات ودراسات مهداة الى الدكتور صلاح الدين المنجّد" وكان صدر عن مؤسسة "الفرقان للتراث الإسلامي" في لندن باللغتين العربية والانكليزية، بصفحات تجاوزت الخمسمئة. وتضمن الكتاب دراسات مهمة وضعها كتّاب وباحثون واستهلها الشيخ أحمد زكي يماني بمقدمة اعتبر فيها صلاح الدين المنجّد "علماً من أعلام العربية والإسلام في القرن العشرين وواحداً من أصحاب الجهود البارزة في تنشئة أجيال من الأساتذة والباحثين ولا يزال المنجد يحمل عبء المعلم للمتخصصين والمسؤولين والمرشد في مجال خدمة التراث الإسلامي". وحملت دراسات الباحثين عناوين عدة منها: صلاح الدين المنجد الباحث والمحقق، اسهامات صلاح الدين المنجد في تأصيل علوم المخطوط العربي، فن كتابة المقال التاريخي، ألفاظ من القرآن الكريم، التواصل والصلة، أخلاقيات وآليات في التأليف والنصوص وفي التاريخ الدولي لدار الإسلام. وتحت عنوان صلاح الدين الباحث والمحقق تناول عبدالكريم اليافي سيرة المنجد النشأة والبيت والتحصيل، معرّجاً في الحديث على تنقله في المناصب والنشاط العلمي متوقفاً عند مخايل النبوغ وبدء التأليف والنشر، مشيراً الى حبّه للتراث العربي وظهور مخايل النبوغ عليه في ميعة صباه وريعان شبابه حين طالع كتب ذلك التراث الغني وتمحن في سرد الأخبار فيها واستطاع أن يتجاوز مجرد السرد وجملة الأخبار الى استخلاص ألواح مسرحية بديعة فألف ونشر وهو في العشرينات من عمره كتيباً لطيفاً سماه "إبليس يغنّي" العام 1943، كما نشر أيضاً في هذا المجال كتباً مسلية وجذابة مثل "جمال المرأة عند العرب"، "الحياة الجنسية عند العرب"، "ومؤلفات الحب عند العرب". ويشير كاتب المقال الى أن صلاح الدين انتبه في أول عهده كباحث في علم الاجتماع لأحوال الطبقات الاجتماعية ولا سيّما الطبقتين العليا المترفة والسفلى الفقيرة البائسة وعمد الى عرض صفاتهما وخصائصهما وطراز حياتهما في حاضرتين مشهورتين: إحداهما قديمة وهي بغداد، وثانيتهما حديثة وهي باريس وذلك في كتابه "الظرفاء والشحاذون في بغدادوباريس". وكان عرضه لحياة الترف وحياة البؤس يجعلنا نعمّم تلك الصفات تقريباً مع اختلاف الزمان وتباين الملابسات والظروف على جميع الحواضر الكبرى في العالم. وخلص الى القول بأن بحوث المنجّد وأعماله في تحقيق ذخائر التراث ونشرها ومضات نورٍ في ليل مظلم. وعن إسهامات المنجّد في تأصيل علوم المخطوط العربي كتب عبدالستار الحلوجي قائلاً: "الكتابة عن صلاح الدين المنجّد كالخوض في أعالي البحار لا يجرؤ عليه إلا من يجيد السباحة حتى لا يجرفه التيار ويبتلعه الماء، فهو رجل موسوعيّ في عصرٍ انعدمت فيه الصفة الموسوعية أو كادت نتيجة تضخم حجم المعرفة وتنوّعها وتشابكها، فكتب في الأدب والتاريخ والآثار والسياسة وألّف في التراجم والسيرة الموضوعات الإسلامية، وأصدر دراسات عن الاستشراق والمستشرقين، ونشر أعمالاً بيبلوغرافية ضخمة وفهارس للمخطوطات. وأورد الباحث عدداً من تصانيفه منها: "أمثال المرأة ضد العرب"، "الحوادث الكبرى في عصر بني أمية"، "أعلام التاريخ والجغرافيا عند العرب" و"معجم الخطّاطين والنسّاخين والمصوّرين والمزوّقين في الإسلام" كما ألّف في السياسة كتابي "أعمدة النكبة" و"أسباب هزيمة حزيران/ يونيو 1967" وغيرهما من الكتب القيّمة. وتوقف كاتب المقال عند الكثير من كتبه مستعرضاً أهم ما جاء فيها. وفي فنّ كتابة المقال التاريخي كتب قيصر موسى الزيّن عن ميزة المنجد في تأريخ المقال التاريخي وهو ما يتصل بكتابته للتاريخ الإسلامي الاجتماعي وذلك في اثنين من أهم أبوابه: التراجم وتاريخ المدن. وأشار الباحث الى أن المنجّد يميل في كتاباته الى الإيجاز فقد جاءت كتبه في شكل مقالات تتميّز بوحدة الموضوع في إطار كل مجلد مستقل. وخلص الى القول أن المنجّد درس المجتمعات الإسلامية وانتاجها الثقافي متقيّداً بالمنهج الذي تخصّص فيه وهو تحقيق ودراسة مخطوطات التراث الإسلامي. وقادته خبرته في هذا المجال الى تسجيل ملاحظاته في شكل مقالات موجزة، اتسمت بدقة الملاحظة عن مظاهر حضارية واجتماعية مختلفة تتعلق بسيرة حياة كبار المؤلفين والمدن الإسلامية ومظاهر الحياة الشعبية وحياة القصور. واعتبر الكاتب أن المنجّد في هذا المجال مؤرّخاً من طراز خاص له رؤيته وفكره الخاص إضافة الى منهجه المتميّز. وفي رأيه أن كتابات المنجد عظيمة القيمة ليس على صعيد الشكل والمنهج وانما كذلك على صعيد المضمون والمادة المعرفية الغنية من معلومات وأفكار مثّلت وجوداً مستقلاً وموازياً لعمله في التحقيق والمقاربة والترجيح، كما أن مادة المنجد المتوافرة الآن تصلح للاستخدام في مزيد من الدراسات المتقدمة. وحول موضوع التواصل والصلة: أخلاقيات وآليات في التأليف والنصوص العربية الإسلامية كتب كمال عرفات نبهان يقول: "ان موضوع هذا البحث الذي يدور حول ظاهرة من ظواهر التأليف العربي الأصيلة يصبّ في مجال التواصل والصلة بين العلماء والمؤلفين العرب والمسلمين كما يجود في موقف التواصل مع عطاء الدكتور المنجّد وهو العالم الذي يعدّ انتاجه العلمي شموساً مشرقة في الفكر العربي والإنساني". وتضمن المبحث الأول الذيول والصلات وتواصل النصوص، في حين دار المبحث الثاني حول تسميات كتب الذيول والصلات، ودار المبحث الثالث على أنواع التذييل ووظائفه، وتضمّن الرابع أبعاد التذييل في حين عالجت المباحث الأخرى جهود المؤلفين في صناعة الذيول والصلات ومخطط علاقات الذيول والوجه الأخلاقي والعلمي لظاهرة الذيول والصلات. وفي موضوع التاريخ الدولي لدار الإسلام كتب عبدالهادي التازي يقول: "لقد رأيت أن أتناول في هذا الحديث موضوعاً يتصل بالتاريخ الدولي لتاريخ الإسلام وحتى ألّم بجوانب موضوعنا نرى من المفيد أن أعرّج بصفة مقتضبة على الدول المتعاقبة على الحكم في دار الإسلام لنقف عند بعض المحطات الأساسية". ويتطرّق رشدي راشد في بحثه عن اللغة العربية الى موضوع "العلوم العربية بين نظرية المعرفة والتاريخ" في حين عالجت ليلى سويّف في دراستها المهداة الى صلاح الدين المنجّد عند موضوع "الإسهام العربي في تأسيس علم الجبر. أما ابراهيم شبوح فقد تطرق في دراسته الى أهمية المائدة في التراث العربي، مشيراً الى ما تناثر في كتب التراجم من نصوص عن أطعمة بعض العلماء من الطبقة الوسطى والزهّاد الذين يتحكمون في شهوة البطن بأساليبهم المتغايرة وبصبرهم على ذلك كما نقرأ في السياقات العرضية وغير العرضية للنصوص وما تحفل به أسواق العواصم والمدن من مطاعم تستجيب لحاجات الطبقة الوسطى من الغذاء. وقد توقف الباحث عند نصٍ لبديع الزمان الهمذاني وهو سرد في المقامة البغدادية واصفاً متطلبات غذاءٍ دسم يقدمه مطعم شواء في أحد مسالك بغداد... أما موضوع معارك الأدب في الصحافة الليبية فلقد عالجه أحمد عمران مستهلاً بحثه بالإشادة الى فائدة الأدب العربي من الخصومات والمعارك الأدبية التي دارت بين أدبائه، مستشهداً بقول أحد أعلام العرب: "كانت الخصومة بين الأدباء دائماً نعمة على الأدب وان كانت نقمةً أحياناً على الأدباء أنفسهم". وعالج أيمن فؤاد السيد موضوع "تحقيق المخطوطات التاريخية" التي اعتبر أنها تحتل المكان الأكبر على رفوف خزائن الكتب العالمية. وأخيراً، لا بدّ من القول بأن هذه الدراسات المهداة الى الدكتور صلاح الدين المنجّد تشكل مادة فكرية دسمة تلقي الضوء على النتاج المعرفي الثرّ له والذي أغنى المكتبة العربية ووضع بين يدي قرائها مجموعة من الكتب والأبحاث التي تناولت اللغة العربية، التاريخ العربي الإسلامي، تاريخ المدن، تحقيق المخطوطات، تراجم الأعيان، وكتب الدواوين، وقد شكلت بمجموعها تصانيف معرفة أغنت الفكر العربي وأثرت ثقافته الأدبية والتاريخية.