وصفت العولمة على الدوام بأنها توحد العالم أسواقاً وأذواقاً، ولكنها تؤدي مع ذلك إلى بعث الهويات والفروق، وذلك تحت طائلة الشعور بالخوف من فقدان الهوية في عالم مفتوح متداخل، يطغى فيه الأغنى والأكثر ابتكاراً وجاذبية. هذا المثال ينطبق على ترجمة عربية للعولمة، تتمثل في الفضائيات التلفزيونية، التي وحدت العالم العربي وامتد تأثيرها لمخاطبة كل من يتحدث بالعربية ومن هم من أصول عربية في سائر قارات الأرض. مقابل ذلك فإن العديد من المحطات الفضائية ما زال محطات وطنية، يعكس صورة النظام السياسي وخطابه والحياة المحلية و"الثقافة الذاتية". وهذه المحطات هي الأقل نجاحاً من غيرها إذ تفوقت محطات أخرى في التعبير عن اهتمامات وشواغل عربية عامة، لا تنتسب إلى بلد بعينه ولا تنطلق منه أو تتوقف عنده. وهذا هو السر الأول لنجاحها. وهذا هو أيضاً السر في نجاح برنامج "سوبر ستار" على محطة "المستقبل". اذ احتشد عشرات الشبان والشابات من أصحاب المواهب الغنائية الادائية من مختلف الأقطار العربية، واختيرت مذيعة أردنية إلى جانب مذيع مصري لتقديم هذا البرنامج اللبناني، الذي قدّم على مدى بضعة شهور في أكثر من عاصمة عربية، قبل أن يستقر تصوير حلقاته الأخيرة في العاصمة اللبنانية. ومع بدء التصفيات شبه النهائية بدأ تحولٌ ما يطرأ على مزاج المشاهدين، فها هو المرشح المصري يخرج من الحلبة، يليه السوري فالفلسطيني فالإماراتي والجزائري، وبهذا لم تعد دول ومجتمعات ما ممثلة في السباق، وبذلك بدأ فرز "قطري" يطغى على ميول المشاهدين، لم يخفف من حدته سوى أن الخسارة لم تلحق ب "ممثل" لبلد ما فقط، بل امتدت الخسارة وكما الأمر المنطقي والمتوقع لتشمل موهوبين وموهوبات من أقطار شتى. ومع اقتراب التصفية من المراحل النهائية، ومع خسارة المرشح اللبناني الموهوب ملحم زين وما أعقبها من صدمة أصابت جمهوره العريض في موطنه، بدا مذذاك أن الاستقطاب أخذ منحاه في الانتصار "لمن يمثلنا ومن هو أحدنا". وترافق مع ذلك ظهور اشاعات وأقاويل عن ظروف التصويت وأقنيته، لم تثبت صحة أي منها. يحدث وقد حدث مثل ذلك في مسابقات رياضية كبيرة خصوصاً في لعبة كرة القدم الأكثر شعبية. غير أن المسابقة "الفنية" استقطبت جمهوراً أكبر هنا وهناك، بما يتعدى فئة الشبان إلى البيوت والأسر. وصادف أن الجمهور في كل مكان تقريباً، وقد أضنته وانهكته متابعة الأحداث الصعبة في فلسطين والعراق على مدى خمسة وثلاثين شهراً، وجد في هذا البرنامج ضالته لالتقاط الأنفاس والتسرية عن النفس وتهدئة الذهن المكدود. وما أن انحصرت المنافسة بين ديانا كرزون من الأردن ورويدا عطية من سورية، حتى بدا أن بلدين من بلاد الشام قد دخلا أو أدخلا في تنافس "محموم"، فلا أحد هنا وهناك في البلدين "يعيب" على فنانة "البلد الآخر" ضعفاً في أداء أو نقصاً في موهبة أو اهتزازاً في السوية الفنية. ولكن المشاعر والأهواء والميول "الفطرية" تدفع الى الانتصار لفنانة البلد والسعي الى تمكينها من الفوز على منافستها. ويسارع المرء الى القول إن هذا الانحياز طبيعي، ويعكس ميولاً عادية ومفهومة، خصوصاً أن كلتا المتنافستين كانتا على درجة متميزة من الموهبة الصوتية، فلو كانت هناك فروق تذكر لإحداهما على الأخرى، لقيل إن الروح الرياضية وإنكار الذات تقتضيان مغالبة النفس، والانحياز إلى الأفضل و"الأعلى كعباً". ومعنى ذلك ان الصبوات القومية لطرح الخصائص الوطنية جانباً قد أثبتت عقمها، ومثالها هنا أن برنامجاً تلفزيونياً يقوم على التعريب أو العوربة قياساً إلى العولمة لم يؤد في نهاية الأمر سوى إلى إعادة اكتشاف الخصائص الوطنية، وإعادة تعيين الحاجات الذاتية ومن بينها تعريف الذات بالهوية. فمن الصحيح حقاً أن كلنا عرب، وأن هناك الكثير و"العميق" مما يجمعنا ويوحدنا، ومثال ذلك المشاعر والأفكار التي تنبعث بصورة تلقائية لدى مصادفة عربي لعربي آخر، وبصورة غير متوقعة في ديار غريبة وبعيدة عن العالم العربي لكن الصحيح أيضاً ان هذه الرابطة القومية تضم تحت جناحيها مشاعر وتمثلات تتعلق بهوية "أصغر". ويغدو الأمر طبيعياً حين يتم الامتناع عن النفخ في إحدى الهويتين، وحين يقع الإدراك الصحيح للربط الواقعي لا الغيبي بين الهوية الصغيرة المتحققة، وبين الهوية الكبيرة التي نطمح بأن نرى تحققاً ملموساً لها، بما يتعدى الوجدان والعصبية والارتسامات الذهنية. وبعيداً عن هذه الملاحظة التي طال شرحها بعض الشيء، فإن برنامج "سوبر ستار" الجماهيري، مع الإقرار بنجاحه الهائل بل المدوي بما فاق حتى الآن أي برنامج مشابه، أو أي من تلك البرامج التي تنتمي إلى عالم المنوعات، فإنه يسجل عليه شأنه شأن أي برنامج مما بثته وتبثه أية محطة تلفزيونية أخرى، أنه تبنى استراتيجية تقوم على اكتشاف وتسييد نجم واحد. وربما قيل إن اسم البرنامج وعنوانه يدلان ابتداء الى هذا المنحى الواضح الذي لا لبس فيه، إلا أن هذه المسألة تظل تستحق التأمل، وبما يتعدى اكتشاف المواهب الفنية والغنائية. فنحن نعاني في العالم العربي من ظاهرة الأحادية أو الواحدية، ومن صيغ المبالغة والتفضيل التي تأخذ في طريقها أصحاب الكفاءات والملكات في سائر الحقول والميادين. وهو ما ينعكس على الجمهور العريض، أي على سواد الناس، غير المقدر ان يخرج منهم وينال قصب السباق ، سوى واحد بعينه ومفرده، من دون الآخرين حتى لو كان بين هؤلاء من يتمتع بقدر عال من التميز والتفوق في مجاله. ويؤدي ذلك إلى الركون إلى منطق ضربة الحظ والقسمة والنصيب، خصوصاً حينما تضعف المعايير لفرز الأجدر والأكفأ بين من هم في حكم المتساوين أو المتشابهين على الأقل. وتفتر بذلك الهمة ويضعف الطموح، ما دام أن الكثرة الكاثرة لن يخرج من بينها سوى فائز واحد فقط بالجدارة. حتى أن برامج اليانصيب تبدو أكثر موضوعية، فثمة أكثر من فائزة واحدة وهناك متسع لعدد غير قليل ممن توسموا الفوز، فمع وجود جائزة كبرى، فإن جوائز أخرى كبيرة ومتوسطة ومتواضعة تظل متاحة. أما برنامج محطة "المستقبل" قد اختار نهج أن لا يكون لل "سوبر ستار" شريك أو رديف. ولم يفهم كاتب هذه السطور على سبيل المثال لماذا لم يتم التصويت لنجم ولنجمة، أليس هناك من فروق تذكر بين أداء كل من النجم والنجمة، وهي الفروق ذاتها في تلوينات وطبقات صوت كل من الرجل والمرأة، أم أننا اعتنقنا فجأة مبدأ المساواة التامة بين الجنسين ونفي أي فروق يعتد بها بينهما، فيما يشي واقع حياتنا وعلاقاتنا ومفاهيمنا بما هو غير ذلك. كان أمراً مفرحاً ما ظهر من مودة بالغة واعتراف متبادل بين المتسابقين بمواهب كل متسابق آخر. غير أن إدارة البرنامج نجحت في "التفريق" بينهم وإذكاء حمى المنافسة، بحيث يتعين ان يفشل هذا كي يفوز ذاك. لم يكن ممكناً بطبيعة الحال فوز عشرة أو عشرين من المتسابقين، وربما أطفأ ذلك شهوة المنافسة. غير أن السؤال الذي يلح على الذهن هو: لماذا لم يختار البرنامج خطة عمل تؤدي إلى فوز اكثر من متسابق واحد، مع اختيار قطاعات أو دوائر متعددة للتنافس، وبما يمكن في النتيجة من اكتشاف أكثر من موهبة ووضعها في دائرة الضوء، فيتكرس لدينا مفهوم التعددية لا الأحادية، وهو ما تجود به الحياة والطبيعة ذاتها، وليس فقط أنماط العيش المتقدمة. فمن يسعه مثلاً اختيار فاكهة واحدة وتنصيبها على كل فاكهة أخرى؟ وكيف لنا أن ندرك في النهاية، ان التميز والأهلية والتفوق هي عناصر مبثوثة في الناس ويمتلكها بشر كثيرون، بما في ذلك من يمتلكون مظهراً عادياً وممن لا يثيرون انطباعات قوية لدى الآخرين. ألم تتألق ديانا كرزون بمثل هذا المظهر البسيط البريء والمألوف، والذي جعلها تلقى قبولاً طيباً في نفوس ملايين الناس العاديين؟ ثمة بعدئذ ملاحظتان. الأولى تتعلق بالحاجة العميقة والدفينة للناس من شرائح وفئات شتى لتذوق الفن مجدداً، بعدما طغت واستشرت حمى الاستهلاك والتسييس المبالغ به لكل شيىء والتزمّت المفرط، على أي شيء آخر. لقد بدأت الناس تعيد اكتشاف حاجتها المقموعة الى الفن، وهو هنا الغناء ، كما كانت عليه الحال قبل نصف قرن وأقل في سهرات القرى والبلدات الصغيرة وحتى في البوادي، وحين كان يجري التذرع بكل مناسبة عائلية أو دينية لإقامة السهرات وإشعال الليل. تكفي الإشارة إلى أن ليالي الأعراس قد تمتد لعشر ليال يحييها أهل البلدة جميعهم، بغير ما حاجة الى استيراد فرق ومن دون أية تقنيات مساعدة، بل الاعتماد على حيوية الأجسام ونضارتها وقوة الصوت وآلات بسيطة ذات صناعة يدوية، لقد اقتحم الفن "المطرود" البيوت مجدداً، بفضل هذا البرنامج الناجح، ولم يعد هناك أحد يخجل لقضاء سهرة في الإصغاء للأغاني. الملاحظة الثانية والأخيرة في هذا السياق، أن برنامج "سوبر ستار" اعتمد على إحياء الغناء العربي، خصوصاً قديمه، عبر مواهب صوتية متفوقة، فاستعاد الناس ما يألفونه ويخبرونه من أغاني أم كلثوم ووردة الجزائرية وصباح وملحم بركات وعبدالله رويشد وآخرين. على ان البرنامج توقف عند اكتشاف المواهب الصوتية المتفوقة، ولكنه لم يأتِ بجديد في عالم الفن. ليست هناك أغنية واحدة جديدة، وتالياً ليست هناك أية مغامرة باجتراح جديد. وسيقال أنه مجرد برنامج تلفزيوني، وليس مهرجاناً للأغنية على غرار مهرجان الأغنية الأوروبية الذائع الصيت، الذي يطرح أغاني جديدة لأصوات جديدة ولمؤلفين وملحنين جدد. ولكن البرنامج امتد وطال وجال هنا وهناك، بأكثر ما يسع مهرجان أن يفعله. وبما أن الفن أو الإبداع يخلق في كل مرة ألفة جديدة تقترن بسحر المفاجأة والاكتشاف، فقد غاب هذا العنصر البالغ الحيوية والأهمية عن البرنامج، اذ تم تبليغ رسالة ضمنية إلى الجمهور العريض بأن سحر الفن يكمن في استعادة المعروف والمعهود وإعادة إنتاج لذة سابقة وقديمة، وكفى المتذوقين شر اقتحام الجديد واكتشاف المجهول. وهو ما يدفع المرء الى التنويه بأن هذا البرنامج ونتائجه إنما هي خطوة واحدة على الطريق، وأن الأمر يتطلب بالضرورة استكماله ببرنامج وجهود أخرى تنتمي إلى عالم الإبداع والابتكار والإضافة، وهي التجربة التي لا بد ان نتذوق كأسها في الفن، كما في مجالات الحياة والاجتماع الأخرى. * كاتب من الاردن.