تايكوندو الشباب يهيمن على بطولتي البراعم والناشئين والحريق يزاحم الكبار    القيادة تعزي في وفاة الرئيس الإيراني ومرافقيه    برعاية خادم الحرمين وزير النقل يفتتح مؤتمر مستقبل الطيران 2024 ويشهد إعلان أكبر استثمار بتاريخ الخطوط السعودية    زلزال بقوة 5.2 درجة يضرب منطقة "شينجيانج" شمال غرب الصين    أمير تبوك يرعى تخريج أكثر من 2300 متدرب ومتدربة للتدريب التقني والمهني .. غدا    أكثر من ثلاثة الاف جولة رقابية تنفذها أمانة الشرقية على المنشآت الغذائية والتجارية    كيف سقطت مروحية الرئيس الإيراني.. وما الذي كشفته الصور؟    إيران تعلن رسمياً مصرع الرئيس ووزير الخارجية    تعليم البكيرية يعتمد حركة النقل الداخلي للمعلمين والمعلمات    وصول أبطال آيسف 2024 إلى جدة بعد تحقيق 27 جائزة للوطن    «التعليم» تحدد أنصبة التشكيلات المدرسية في مدارس التعليم العام    الأرصاد: استمرار التوقعات بهطول أمطار بعدد من المناطق ورياح نشطة في الشمال    حبس البول .. 5 آثار أبرزها تكوين حصى الكلى    1.8 % معدل انتشار الإعاقة من إجمالي السكان    أمير عسير يُعزّي أسرة «آل مصعفق»    أوتافيو يتجاوز الجمعان ويسجل الهدف الأسرع في «الديربي»    خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية في العيادات الملكية    «عضو شوري» لمعهد التعليم المهني: بالبحوث والدراسات تتجاوزون التحديات    4 نصراويين مهددون بالغياب عن «الكلاسيكو»    البنيان: تفوق طلابنا يبرهن الدعم الذي يحظى به التعليم في المملكة    السعودية.. يدٌ واحدةٌ لخدمة ضيوف الرحمن    متحدث «الداخلية»: «مبادرة طريق مكة» توظف الذكاء الاصطناعي    الفضلي: «منظمة المياه» تعالج التحديات وتيسر تمويل المشاريع النوعية    مرضى جازان للتجمع الصحي: ارتقوا بالخدمات الطبية    السعودية من أبرز 10 دول في العالم في علم «الجينوم البشري»    5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والسمنة    نائب أمير منطقة مكة يُشرّف حفل تخريج الدفعة التاسعة من طلاب وطالبات جامعة جدة    وزارة الحج والعمرة تنفذ برنامج ترحاب    ولي العهد يبحث مع سوليفان صيغة شبه نهائية لاتفاقيات استراتيجية    تأجيل تطبيق إصدار بطاقة السائق إلى يوليو المقبل    القادسية بطلاً لكأس الاتحاد السعودي للبلياردو والسنوكر    هاتف HUAWEI Pura 70 Ultra.. نقلة نوعية في التصوير الفوتوغرافي بالهواتف الذكية    الشيخ محمد بن صالح بن سلطان «حياة مليئة بالوفاء والعطاء تدرس للأجيال»    تنظيم مزاولة مهن تقييم أضرار المركبات بمراكز نظامية    جائزة الصالح نور على نور    مسابقة رمضان تقدم للفائزين هدايا قسائم شرائية    الانتخابات بين النزاهة والفساد    أمير القصيم يرعى حفل تكريم الفائزين بمسابقة براعم القرآن الكريم    165 ألف زائر من بريطانيا للسعودية    الملاكم الأوكراني أوسيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع    بختام الجولة ال 32 من دوري روشن.. الهلال يرفض الهزيمة.. والأهلي يضمن نخبة آسيا والسوبر    ثقافة سعودية    كراسي تتناول القهوة    المتحف الوطني السعودي يحتفي باليوم العالمي    من يملك حقوق الملكية الفكرية ؟!    يوم حزين لهبوط شيخ أندية الأحساء    «الخواجة» نطق.. الموسم المقبل ضبابي    الاشتراك بإصدار مايو لمنتج «صح»    عبر كوادر سعودية مؤهلة من 8 جهات حكومية.. «طريق مكة».. خدمات بتقنيات حديثة    بكاء الأطلال على باب الأسرة    تحقيقات مع فيسبوك وإنستغرام بشأن الأطفال    جهود لفك طلاسم لغة الفيلة    تأملاّت سياسية في المسألة الفلسطينية    5.9 % إسهام القطاع العقاري في الناتج المحلي    ارتباط بين مواقع التواصل و«السجائر الإلكترونية»    سقوط طائرة هليكوبتر تقل الرئيس الإيراني ووزير الخارجية    الديوان الملكي: خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية    أمير منطقة تبوك يرأس اجتماع جمعية الملك عبدالعزيز الخيرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة البعث في العراق : 1960- 1964 : قيام سلطة البعث و"الحرس القومي" وانهيارها 2
نشر في الحياة يوم 11 - 03 - 2003

بعد أن تناولت الحلقة الأولى التأسيس "السوري" لبعث العراق وصعود دور العسكر الحزبي في ظل تشتت القيادة المدنية، هنا التتمة:
ما بين اعتقال وهرب الى سورية وتحوّل نحو الناصرية، أدت محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم الى تشتيت القيادة المدنية للبعث العراقي. وكان حازم جواد من القليلين الذين عبروا البوكمال إياباً في 1960، فتولاها.
إبن المؤذّن الجنوبي الفقير وابن خالة فؤاد الركابي، لم يكن ذا تجربة غنية، وهو يومها في الخامسة والعشرين. لكنه لم يكن أيضاً، على الضد مما توحي حداثة سنّه، متهوّراً. الا أن القائد الفعلي لم يكن جواد بل علي صالح السعدي، ابن الثانية والثلاثين آنذاك، والذي بدأ يقود ويوجّه من سورية.
والسعدي، الأكبر سناً، بدا الأشد تطرفاً ومغالاة. وهذا ما لم ينجم فحسب عن بقائه مدة أطول في الخارج، وهي قاعدة تكاد لا تخطىء في الأحزاب حيث الأكثر خارجية الأشد تطرفاً، بل أيضاً عن طباعه وتكوينه. فهو عُرف بإقدام وقسوة هيّأته لهما طفولة بائسة وعائلة مصدّعة، حتى وصفه معظم عارفيه بفظاظة في الطباع يشوبها إدقاع ثقافي وعداء ريفي مُرّ للمدينة.
ولئن تُرك لجواد السهر على بناء الكادر المدني، المحترف والصلب، تولى السعدي توسيع محيط الحزب الجماهيري من مؤيدين وأنصار دون العشرين، وتهيئة ذاك المحيط لاستقبال البيان الرقم واحد. فالبعث الذي، في آب أغسطس 1960، انتقد ذاتياً محاولة الاغتيال التي أقدم عليها، بل نقد نهج الاغتيال برمته مُحمّلاً مسؤوليته الى الركابي، وضمناً الى قيادة "الجمهورية العربية المتحدة"، لم يتردد في اختيار الانقلاب العسكري بديلاً. هكذا، بدل أن يطهّر الجرح طهّر السكين، فلم يغيّر أولويته المعطاة للمهارات التنظيمية والتآمرية، بل اكتفى بإحلال الانقلاب حيث حلت التصفية الفردية.
غير أن براعة السعدي وشجاعته في أداء نشاط كهذا، وهما صفتان ثابتتان فيه، لا تكفيان لتفسير نجاحه انطلاقاً من مخبأ في سورية. والحق أن ما ساعده كان استمرار اللبس بين البعث والناصرية والاسلام في شائع الوعي السني. ولما أبدى البعثيون ممن حوكموا بمحاولة اغتيال قاسم جرأة وتماسكاً ملحوظين، لا سيما منهم إياد سعيد ثابت وشقيقته يُسرى، رأى فيهم هذا الوسط الطرف الأجدر بمكافحة الشيوعية. فالأخيرة والبعث في العراق صارا، منذ أحداث الموصل في 1959، أشبه باسمين لقبيلتين يفصل بينهما دم وثأر كثير، فكيف وأن المحاكمات التي أجراها فاضل المهداوي أدت الى تعليق 17 شخصاً على أعواد المشانق!
ومن دون التقليل من شعبية قاسم، لعب بعض سياساته لمصلحة البعث. فالإفادة التي جناها حكمه من الانفصال السوري عن العربية المتحدة في أيلول سبتمبر 1961، بدّدها تجدد الحرب الكردية في الشهر نفسه. وكان انقلاب تموز يوليو 1958 استقبل الملا مصطفى البارزاني في بغداد، بعد اقامة طويلة في موسكو، ثم ساعده على إخضاع العشائر المنافسة له، ما وضع السلام في كردستان على أجندة التفاؤل. كذلك عاودت علاقات قاسم تردّيها مع الشيوعيين، بعدما نظّموا في أيار مايو 1962 مظاهرة ضخمة تطالب بالسلام العربي الكردي. وكان "الزعيم الأوحد" اطمأن الى أن مصدر الخطر عليه أضحى ينحصر في الشيوعيين والاكراد، إذ القوميون يضمّدون جراحهم، لا سيما وقد ابتعد شبح عبد الناصر عن دمشق.
وما بين استياء راح يعم سلك الضباط، وتدهور في الوضع المعيشي، وآثار غير سارّة خلّفتها مغامرة قاسم الكويتية في حزيران يونيو 1961، وسمعة تجمع بين دموية النظام ومزاجية القائد العُظامي، لاح التجرؤ ممكناً على السلطة المرهوبة.
وبالفعل ففيما كان الشيوعيون يتظاهرون ويجددون ارتياب الحكم بهم، مؤكدين أن تناقضات قوى "الوطنية العراقية" من نوع انفجاري، كان وكرٌ في بغداد يؤوي حدثاً غير عادي. فقد نجح السعدي، بخليط من النزعتين التآمرية والبطولية، في ان يعقد مؤتمراً سرياً للحزب في قلب العاصمة، تشكلت على ضوئه القيادة التي ستتولى الانقلاب. في هذه الغضون، ومن تحت الأرض أيضاً، أسس "جبهة قومية" ضمّت الى البعث بقايا الاستقلاليين والمجموعات العروبية والناصرية الصغرى.
فحتى ذاك الحين لم يكن خلاف عبد الناصر والبعث قد انعكس على العراق وقومييه بالحدّة التي عرفها في سورية. ذاك أن أمر اليوم، لدى أتباع العروبة في بغداد، ظل واحداً لا يتغير: قطع الرأس الأحمر.
وتمكن البعث، على مستوى آخر، من بناء مواقع متواضعة له في النقابات والروابط المهنية التي راحت تتأسس بعد قيام الجمهورية. لكن أقوى مواقعه الجديدة توطدت بين طلبة المدارس، والى حد ما الجامعات. وبهؤلاء ابتدأ، أواخر ذاك العام، إضراباً وطنياً ناجحاً استطاع أن يمدّه الى مناطق عدة، وأن يُديمه حتى سقوط العهد القاسمي.
وفي الموازاة، أنشأ الحزب مكتباً عسكرياً هو الذي وضع خطة الانقلاب موضع التنفيذ. وقد احتل السعدي رئاسته بينما شارك في العضوية جواد وطالب شبيب من المدنيين، وأحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش وعبد الستار عبد اللطيف من العسكريين. كما ساهم في نشاطه، على نحو متقطّع، العسكريون البعثيون خالد مكي الهاشمي وحردان التكريتي ومنذر الونداوي.
الا ان الانجاز الأهم لعلي صالح السعدي كان بناء "لجان الإنذار" ممن انبثق منها "الحرس القومي"، وهم طلاب وأشباه طلاب كُلّف عبد الكريم نصرت قيادتهم، قبل أن يُعهد بها الى الونداوي، الضابط المغامر والمقرّب جداً من السعدي، يساعده أبو طالب الهاشمي، البعثي المدني الذي ذاع له لاحقاً صيت دموي. وكانت مهمة أفراد "اللجان"، ثم "الحرس"، وهم من محيط المؤيدين والأنصار لا من الأعضاء العاملين، الانقضاض على السلطة حالما تسألهم قيادة الحزب ذلك.
وفي 8 شباط فبراير، أو 14 رمضان، 1963 تم الانقلاب الذي نفذه ضباط البعث وسارع عناصر الحرس القومي الى حمايته في الشارع. ولم ينقض غير شهر واحد حتى كان الرفاق السوريون، بالتنسيق مع ضباط ناصريين ومستقلين، يستولون على السلطة في دمشق.
يومها بدا البعث ملك المشرق المتوّج، يخاطب جمال عبد الناصر مخاطبة ندّ لندّ. وقد سجّلت العدسات لميشيل عفلق، الكئيب والمُمسك، عدداً من الصور الباسمة التي قدّمته في هيئة من يهمّ بالضحك.
مع هذا، فمن منظور المسافة الفاصلة بين العراق والحزب الذي يتنطّح لحكمه، لم تكن أسباب القلق بسيطة.
لقد عُدّ البعثيون هناك 15 الف شخص، علماً بأن الأعضاء العاملين لم يكونوا يتجاوزون ال 830. فتزايد المؤيدين والأنصار والمرشحين لم يُخلّ بمبدأ النقاوة التي تجعل البعثيين الكاملي البعثية أقرب الى "سيكت" هندوسي. وهو مبدأ حوفظ على العمل به خلال الأشهر التالية للحكم الحزبي.
لكنْ لأن حزبية العسكريين كانت حديثة العهد من دون ان تحظى بثقة رفاقهم المدنيين، بدت الحاجة الى الحرس القومي ضاغطة وقاهرة. فهو الذي يوازن مع الجيش من دون ان يعرّض صفاء التراتُب الحزبي والتنظيمي لأي تلوّث. كما انه الطرف الذي يستطيع سحق الخصوم، شيوعيين أو غير شيوعيين، من غير أن يرتد سلاحه الى صدور البعثيين أنفسهم.
وبالفعل أفضى انقلاب شباط، لا سيما بسبب انتهاكات الحرس القومي، الى مقتل الآلاف، ناشراً فوق العراق غيمة دموية كثيفة. وفيما كان حكم الإعدام يُنفّذ بعبد الكريم قاسم، انطلق من عقاله ثأر مجنون يستدعي الشيوعيين من بيوتهم للتصفية الجسدية. وبينما قُتل عدد من قادتهم، قضى أمينهم العام حسين الرضي، المعروف باسمه الحركي سلام عادل، تحت التعذيب.
فردّاً على اشتهار شيوعيي 1959 بالسحل، اشتُهر البعثيون والحرس باستخدام وسائل وطرق غير معهودة في السجن، كالأسلاك الكهربائية المزوّدة بكلاّبات، والإجلاس على خوازيق الحديد المدبّبة، وقصّ الأصابع ورميها في أركان السجن المهملة. وفي الأيام الأولى للانقلاب، فاض المعتقلون عما هو متوافر من معتقلات، على ما شهدنا في تشيلي بعد عشر سنوات بالتمام، ففُتحت لهم النوادي الرياضية ودور السينما وقاعات الرياضة وملاعبها. وتبدّى، في هذه الأثناء، ان المطلوب لا يقل عن الاجتثاث المادي الكامل لا للشيوعية فحسب بل للشيوعيين أيضاً.
وبالفعل ثأر البعثيون من تمرد العسكريين الشيوعيين الذي عُرف بحركة حسن السريع، او انتفاضة 3 تموز، بأن حدّثوا القتل العراقي وصنّعوه. وكان المِعلم الذي لا يخطىء "قطار الموت" الشهير الذي اتجه الى الجنوب والصحراء مودياً بعشرات الشيوعيين، والبعض يقول بمئاتهم. وإذ زوّد الحدثُ المذكور "حزب فهد" فصلاً آخر ضمّوه الى بكائياتهم الفولكلورية، نمّ عن سادية تُرجم اليها، للمرة الأولى، معنى "الانقلاب" الذي بشّر به ميشيل عفلق.
لكن على رغم وجود خمسة شيعة في قيادة البعث القطرية يومذاك، قياساً بثلاثة من السنة، وعلى رغم ان كثيرين من قياديي الحزب الشيوعي ممن سقطوا في المجابهات كانوا سنيين، لوحظ ان مقاومة الانقلاب لم تصدر الا عن مناطق سكن شيعي. وقدّم التدقيق في تركيب قيادات الحكم الجديد تفسيراً متأخراً لما حصل. فقد ضم "مجلس قيادة الثورة"، وهو السلطة الأعلى، 16 بعثياً من أصل 18 عضواً. لكن العضوين الضيفين كانا عبد السلام عارف، بوصفه أكبر رموز التيار القومي يومها وأهمّهم، وعبد الغني الراوي. والاثنان عسكريان سنيان عُرفا بالتزمت المذهبي والنزوع الاسلامي، حرص أولهما على تسمية الشيعة ب"الرافضة" ونعتهم ب"الشعوبية"، جرياً على تقليد عريق في التمييز الطائفي. وحين تشكلت الحكومة نال البعثيون 12 حقيبة هي الحقائب الأساسية للداخلية والدفاع والخارجية، لكن ال9 الباقية احتلها بعض الغلاة كمحمود شيت خطاب المعروف بتعاطفه مع الاخوان المسلمين وشيعة محافظين ومناهضين للشيوعية.
وانقسم أعضاء مجلس قيادة الثورة، من ناحية أخرى، الى 8 مدنيين و10 عسكريين، توزعوا الى 12 سنياً و5 شيعة وكردي واحد. ذاك ان الضباط منهم، بمن فيهم البعثيون، كلهم عرب سنة تبعاً للتكوين الذي وسم الجيش العراقي تاريخياً. بيد ان الأغلبية الساحقة للأعضاء البعثيين عادت الى بلدات ريفية في دجلة الأعلى، كتكريت، أو في الفرات الأعلى. وبالحساب الطبقي، صدر 6 من اعضاء المجلس عن فئات دخل متوسط، و8 عن فئات دخل متوسط أدنى، و4 عن طبقات دخل منخفض. لكن الأدلّ ربما أن 4 منهم فقط كانوا من بغداد، مع ان 10 منهم انتقلوا اليها أو ولدوا فيها لعائلات مهاجرة من الريف، بينما انتسب 5 أعضاء الى بلدات محافظة صغيرة. وكان 4 من أعضاء المجلس في عشرينات أعمارهم و11 في الثلاثينات و4 في الاربعينات. لكن صغر السن لم يترافق مع غنى في التجربة أو المعرفة والثقافة مما خلا الحزب منه. ولم يكن ينقصه الا انشقاق قبضة من البعثيين البغداديين عنه قبل عام على الانقلاب، جرّاء تأثّرهم بترجمات وجودية تناهت اليهم. فذلك ما زاده فقراً على فقر.
ولم يملك العهد الجديد برنامج حكم، ولو في أدنى الحدود. فحين طُلب الى القيادة القومية في دمشق تولّي المهمة، أرسل القياديان البعثيان، الأردني منيف الرزاز والسوري عبد الله عبد الدائم، عدداً من الأوراق تزخر بالعموميات وتقل عن أصابع يد واحدة. فلا الرزاز وعبد الدائم على بيّنة من هموم العراق، ولا النص العفلقي الذي شبّا عليه يقدّم أو يؤخّر في معالجة أمور محددة وتفصيلية.
وأمام الامتحان الفعلي للواقع سطع بؤس البعث في الأفكار، وبدا بعثيو العراق، وهم الأشد بؤساً بإطلاق، مدعاة للرثاء: ففي وجههم ينتصب مجتمع شديد التعقيد بتركيبه القومي والديني، الاثني والايديولوجي، فضلا عن تعقيد اقتصاده النفطي وموقعه الجغرافي السياسي. وهم، رغم كل شيء، يريدون أن يحكموه بقوة الإرادة أو إرادة القوة.
واستجابةً للتحديات الضخمة، لم يتضخّم الا الحرس القومي. فهؤلاء الذين بلغ تعدادهم 5 آلاف يوم 8 شباط 1963، قفزوا في ربيع العام نفسه الى 21 ألفاً، وفي صيفه الى 34. وقد عبّر صِبية السعدي في اقتحاميتهم عن إرادة السلطة والقوة بأكثر تأويلات النيتشوية ابتذالاً، ضداً على العقل والواقع. فأصرّوا، بالرغم عنهما، على "تعريب" العراق الذي تسيطر عليه "شعبوية" شيوعية.
لكن الأهم في تجربة الحرس، لا سيما بعد الاخضاع الدموي للشيوعيين وتنحية خطرهم جانباً، أنهم الكتلة التي بها يوازن البعث المدني كتلة الجيش في السلطة الجديدة. فباستثناء العداء المشترك للشيوعية الذي جمع الضباط اليمينيين بالصبية، لاح الخلاف واضحاً بين طرف يريد إرساء ديكتاتورية عسكرية مستقرة، وآخر يسعى الى تحويل البلاد ميداناً تجريبياً للحيوية الفائضة. وبالفعل أقام في الحرسيين، ومعظمهم قادمون جدد الى المدن، أو من سَقطها وهوامشها، شيء من رعونة جنود لين بياو الصينيين والخمير الحمر لبول بوت. لكن تجربتهم كثيراً ما مثّلت كاريكاتوراً عن تجربة الأس آي SA النازيين ممن قادهم أرنست روهم وبلغ تعدادهم مليونين قبل ان يصفّيهم الجيش الالماني، عام 1934، في "ليلة السكاكين الطويلة".
وكانت أعناق الحرس القومي في انتظار السكاكين. فميشيل عفلق والقيادة القومية المتعاطفان مع العسكر ومعتدلي الحزب، انتقدا وحشية الحرس واللجوء المبالغ فيه الى القمع والتعذيب. وجعل الجيش يعبّر، بصوت مسموع، عن نفاد قدرته على التعايش مع مجموعات تتوسّع صفوفها في منافسة مفتوحة مع سلطته، وتمتص شباناً لا تحدّ الأنظمة والمعايير قدرتهم على الاستباحة. والحال أن انتهاكات الحرس تعدّت الشيوعيين والمنافسين والمصنّفين كذلك، الى الجنود والضباط بمن فيهم بعثيون كوفئوا، على الحواجز، بالاهانات والأذى المحض.
واصطبغ صراع الجيش والصبية المسلحة بمنافسة حازم جواد المعتدل وعلي السعدي عرّاب الحرس الذي أقبل على يسارية شعبوية مُستجدة. وإذ أصر جواد على التمسك بالشراكة مع عبد السلام عارف، دفع السعدي مبكراً باتجاه التخلص منه واعلان سلطة حزب واحد بلا شريك.
والراهن ان الخلاف ظهرت نُذره بعد ثلاثة أيام فقط على انقلاب شباط، فطالب عارف ومعه عسكريو الحزب ومحافظوه بعدم تعديل قانون الأحوال الشخصية وعدم الإقرار بحقوق جديدة للمرأة، مراعاةً للدين، كما تمسكوا بموقف ودي حيال مصر وعبد الناصر والناصريين. وتبنى السعدي ومؤيدوه، في المقابل، خطاً ثورياً على الصعيد الاجتماعي تتخلله عصبوية حزبية حيال غير البعثيين، ونبرة وطنية عراقية حيال مصر.
وكرّت السبحة بتأثير ما كان يجري عربياً، خصوصاً في سورية. فتردي علاقات البعث السوري مع الناصريين عكس ظله على العراق، حيث امتدت شفرة القمع الى بقايا الاستقلاليين و"حركة القوميين العرب" وبعض ضباط متعاطفين مع القاهرة. وبعدما عُقد اتفاق للوحدة الثلاثية المصرية - السورية - العراقية في 17 نيسان إبريل ثم انهار، خرجت الأطراف المعنية بقراءات متضاربة للحدث: فعبد الناصر رأى ان البعث في دمشق لم يُرد الوحدة أصلاً، بل أراد المماطلة واستغلال الوقت لتصفية الناصريين وتوطيد موقعه المهتز في السلطة. أما بعث العراق، في التأويل المصري، فجرّه الرفاق السوريون وراءهم الى الجحيم. وبدوره قرر الحزب العفلقي وضباطه أن القاهرة ترفض الوحدة الا متى كانت مبايعة كلية لديكتاتورية عبد الناصر.
وفي 18 تموز، ومع محاولة الضباط الناصريين السوريين الانقضاض على السلطة، سقط ميثاق نيسان الوحدوي فاتحاً الباب للقمع الدموي. وانجرّت بغداد الى المساجلة البعثية - الناصرية الحادة حتى استحال الحفاظ على المظهر الخارجي الواحد للبيئة القومية السنية في العراق.
ولم ينجح الحكم الجديد، في المقابل، في تأسيس موقع لنفسه، إقليمياً ودولياً. فهو، في عدائه المُرّ للشيوعية، ناوأ السوفيات في الحرب الباردة من دون ان يكون مقبولاً من المحافظين العرب. وضاعف هذا الموقع الملتبس أن البعث الحاكم في بغداد ودمشق اختار، حيال الحرب اليمنية آنذاك، موقع المزاودة الجمهورية والراديكالية على عبد الناصر.
واذا حفظ البعض اشارة ملك الأردن حسين الى ان انقلاب 8 شباط جاء مدعوما من المخابرات الأميركية المهجوسة يومها بمحاربة الشيوعية، "اعترف" السعدي نفسه، بعدما انهارت تجربة الحكم البعثي، انه ورفاقه وصلوا الى السلطة "بقطار تقوده أميركا". وقد ألمح لاحقاً عدد من مؤرخي تلك المرحلة الى أدوار لعبها الملحق في السفارة الاميركية ببغداد وليم لايكلاند في هذا الاطار. كذلك أُشير الى المهمة التي كُلّف بها جيمس كريتشفيلد المختص ب"التغلغل الشيوعي" والذي استدعي لهذا الغرض الى الشرق الأوسط. والمهمة المقصودة كانت تنسيق التعاون مع البعثيين، ما تحمس له بعض الحزبيين العراقيين واللبنانيين فيما اعترض عليه بعثي سوري هو، كما تمضي الرواية، جمال أتاسي.
وكائناً ما كان الأمر، فباكتمال عناصر الانشقاق البعثي الناصري، وفي ذروة الخلاف داخل الحكم حول الحرس القومي، تجددت الحرب مع الأكراد في حزيران، بعد انفتاح عليهم وتمثيلهم الشكلي في الحكومة. ولئن بدا لوهلة أن هذه الحرب التي لقيت الإنجاد العسكري من دمشق، أسبغت قدراً من توحيد السلطة، جاءت انتخابات المؤتمر القطري في أيلول سبتمبر تُظهر تسرّع المتفائلين. فقد انتُخب السعدي وأنصاره للقيادة فيما راح ميشيل عفلق ومؤيدوه يتذمرون من تصاعد "نغمة يمين ويسار" في الحزب. وكان السعدي إذّاك يتهيأ للمؤتمر القومي السادس معلناً عن "ماركسيته" و"اشتراكيته العلمية"، بالتحالف مع البعثي السوري حمود الشوفي. وسيطر الاثنان، بدعم من العسكريين و"القطريين" السوريين، على المؤتمر الذي عُقد في دمشق في تشرين الثاني نوفمبر، مع أن صوتاً واحداً من الأعضاء العراقيين ارتفع ضد السعدي، كان صاحبه يُدعى صدام حسين التكريتي. فحين أراد بعثيو العراق، في 11 من الشهر نفسه، استئناف مؤتمرهم القطري في بغداد، مُعزّزين مواقعهم بزخم المؤتمر القومي السادس، دخل العسكريون وحلفاؤهم القاعة فاعتقلوا السعدي ورفاقه ووضعوهم على متن طائرة هبطت بهم في مدريد. وعندما رد الحرس القومي في الشارع كما قصف الونداوي قصر عبد السلام عارف، حسم الأخير الصراع منقضّاً على البعث بأطرافه جميعاً.
هكذا أطيح الحزب العفلقي في 18 تشرين الثاني ولم يكن قضى في الحكم اكثر من ثمانية أشهر وعشرة أيام. لكنها بدت كافية كي ينفجر العراق بين يديه، وتتفجّر تحالفات ثلاثة: ذاك الذي وحّد أشتات القوميين، والذي وحّد مدنيين وعسكريين في هذا النطاق، وأخيراً حلف الغموض العروبي بين شبان سنة وشيعة. وهي أحلاف نهض عليها البعث وأسس سلطته. وكان اكثر الانفجارات سطوعاً ودوياً أن عسكريي الحزب وقفوا مع عارف، أو تواطأوا، ضد يسار حزبهم. وكان في مقدّم هؤلاء حردان التكريتي، الذي تولى قصف الحرس القومي وسمّي نائباً للقائد العام للقوات المسلحة ووزيراً للدفاع، وطاهر يحيى الذي عُين رئيساً للوزراء، ورشيد مصلح الذي غدا وزير الداخلية والحاكم العسكري العام، وبالطبع أحمد حسن البكر رئيس الحكومة الذي رُفّع الى نيابة رئاسة الجمهورية. وهؤلاء، ممن أشرفوا على وصول البعث الى السلطة، ثم أشرفوا على إزاحته عنها، كانوا كلهم، بالولادة أو بالأصل، من تكريت وجوارها.
لقد تبيّن ان العداء لعبد الكريم قاسم والشيوعيين هو وحده ما حافظ على تماسك البعث، تماماً كما حافظت معارضة الشيشكلي على تماسكه العارض في سورية. أما تذليل صعوبات حكم العراق، ناهيك عن توحيده، فمسألة أخرى تستدعي أشخاصاً آخرين، أو بالأحرى شخصاً آخر.
الحلقة الثانية الثلثاء المقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.