صادر جهاز أمن الدولة في لبنان كتاب المفكّر والكاتب والأكاديمي أدونيس العكرة "عندما صار اسمي 16 - خمسة عشر يوماً في الاعتقال" الصادر عن دار الطليعة. وأخضع العكرة في مركز المباحث الجنائية لاستجواب عن كتابه دام سبع ساعات، وكذلك استجوب الناشر بشير الداعوق عن طبعه الكتاب. ومنع جهاز الأمن الندوة التي كان من المقرّر أن تعقد حول الكتاب. وأثار منع الكتاب استهجاناً كبيراً في الأوساط الأدبية والثقافية والسياسية في لبنان. وصدرت بيانات عدّة ندّدت بهذه البادرة السلبية وطالبت بالإفراج عن النسخ المصادرة. أما الكتاب فهو أشبه بالسيرة التي كتبها أدونيس العكرة مسترجعاً قضية اعتقاله وواصفاً أجواء السجون التي نقل اليها، والتحقيقات التي خضع لها. والكتاب شهادة براءة من كلّ التهم التي كيلت للكاتب والتي أوقف تبعاً لها. هنا قراءة في الكتاب الممنوع. الأيام الخمسة عشر التي قضاها أدونيس العكرة في الاعتقال تبدو لقارئ كتابه "عندما صار إسمي 16" مثلما بدت له هو شخصياً، أقرب الى السنة. فالزمن، عندما تُغلق عليه البوابة الحديد يصبح "زمناً نفسياً" كما يعبّر الكاتب، أي زمناً متحرّراً من الوقت، ومن وقع الثواني والدقائق والساعات. هذا الإحساس الأليم عبّر عنه كثيراً الكتّاب الذين أدخلوا السجون من أمثال وول سوينكا ويانيس ريتسوس وأرثور كوشتلر وفاكلاف هافل وسواهم. وقد لا تحتاج الظلمة في الزنزانة القابعة تحت الأرض الى أكثر من "الزمن" الذي أمضاه فيها الكاتب كي يكتمل "معناها" في روحه، فهناك تغدو اللحظة نفسها أشبه بالكابوس الممضّ الذي لا ينتهي حتى بعد خروج السجين الى فضاء "الحرية". فالسجين هذا "يعتقد ان العالم توقف عن الحركة بانتظار عودته" بحسب تعبير أدونيس العكرة. وليس تشبيه عتمة الزنزانة ب"الجحيم" ضرباً من ضروب البلاغة أو البيان، بل هو دلالة على حال الاحتراق التي يحياها السجين حياً بعد فقده "إنسانيته الخاصة" وليس فقط حقوقه، كما ورد في مستهل كتاب "كتّاب في السجون" الذي أصدره النادي الدولي للكتّاب بالانكليزية والفرنسية. لكنها "الجحيم التي صنعتها أيدي البشر وصانتها" بحسب تعبير الكاتب الفائز بجائزة نوبل جوزف برودسكي، في تقديمه الكتاب نفسه. لم تغب نظرة أدونيس العكرة الفلسفية لحظة عن تأمّله في أحوال السجن طوال تلك الأيام. ومن قلب عتمة الاعتقال راح يستعيد بعض المبادئ والأفكار الكبيرة، محللاً إياها انطلاقاً من تجربة السجن. هناك تصوّر نيتشه ذا الشاربين "المتورّمين" كما يقول، "يتفلسف بالمطرقة محطّماً أصنام الفلسفة والدين والأخلاق والسياسة". وتذكّر كذلك لينين وما قالته روزا لوكسمبورغ عن المشروع الشيوعي: "ان العلاج الذي ابتكره لينين وتروتسكي لكبت الديموقراطية، كان أسوأ بكثيراً من الشر الذي أرادوا استئصاله". وكان من الطبيعي أن تحضر بعض ملامح الفلسفة السياسية التي يعتبر أدونيس العكرة من كبار المتخصصين فيها والباحثين في ميدانها، خصوصاً أن اعتقاله تمّ تبعاً لأفكاره وليس لأفعال قام بها. فهو سيواجه قاضي التحقيق لاحقاً بجرأة قائلاً له: "أرجو، يا حضرة الرئيس ألا تحاكمني على أفكاري. إنّ لي حقاً مقدّساً في التفكير والاعتقاد وامتلاك الرأي، كحقّك أنت، وحقّ جميع اللبنانيين. إسألني عن أفعالي وحاكمني عليها". ولعلّ ما يعترف به أدونيس العكرة في شأن "الإنسان الآخر" الذي راح يتكوّن فيه داخل السجن، قد يكون من أشدّ الاعترافات حكمة أو فلسفة. فهو يتحدث عمّا يسميه "تجسيد" القيم والمبادئ والمعتقدات داخل الزنزانة، وقد كانت من قبل، أشبه بالأرقام والمعادلات الحسابية. فالجسد لم يعد غريباً عن المهمة التي تضطلع بها الروح عادة، بل أصبح شريكها "في حمل المعتقد، وفي التعبير عنه وفي الالتزام به، وأخيراً، في البرهنة على نسبة الحقيقة البشرية الكامنة فيه". هكذا، يتحرّر الجسد، تحت وطأة الألم، بل والذلّ والمهانة، من "جسدانيّته" ليصبح مرآة ولو مكسورة، للنفس. لا يبقى الجسد أسير المعاملة "الحيوانية" التي يعامله بها السجان بل يحطّم قيوده ويتخطى غرائزه ليصبح قربان التضحية. يصبح الجسد متواطئاً تواطؤ الروح من خلال ما يتلقى من جروح مجازية أو حقيقية. ولعلّ ما عبّر عنه أدونيس العكرة يذكّر بما قاله برودسكي في تقديمه كتاب "كتّاب في السجن" وترجمته: "السجن لا يحرّر السجين من أفكاره المجردة. انما على العكس، فهو يختزلها الى ما هو جوهريّ. السجن هو ترجمة لأفكار السجين الميتافيزيقية، الأخلاقية والتاريخية عبر مفردات من السلوك اليومي". غير أن أدونيس العكرة لم يعش تلك اللحظات عبر نظرته الفلسفية فقط، مقدار ما عاشها أيضاً مثل رفاقه السجناء، انساناً ومواطناً، جرّد من اسمه وبات يحمل الرقم 16 عوضاً عنه. ولم يصادر السجان قلمه فحسب ليجرّده من "مهمّة" حياته بل جرّده أيضاً من خاتم الزواج ليجعل منه فرداً نكرة لا هوية له ولا مرتبة إنسانية ولا مقام اجتماعياً. وشأن كلّ الأسرى يعترف الكاتب بأنّه سرعان ما أحتله "شعور بالاضطهاد والغربة والتمرد والخضوع والعظمة والانكسار...". فهو ظلّ يصرّ على أنّه "سجين بجريمة مطلب الحريّة". وقد منحه هذا الاصرار شعوراً ملتبساً ب"البطولة" ولكنها البطولة المأسويّة. فهو تلقى الكثير من الاهانات من دون أي مبرّر أو حافز. وعندما كان يساق مع رفاقه السجناء الى الشاحنة كان عليه أن يخفض رأسه واضعاً إياه بين فخذيه. وكلما حاول أن يتنفس كان الحارس يصرخ به: "وطّي راسك يا ختيار". أما التحقيق معه في عالم الأقبية الذي يشبه المتاهة فكان ذروة ما يشهد الإنسان من مهانة وإذلال. ويصف الكاتب تلك اللحظات المخيفة داخل "المكان المظلم" قائلاً: "كانت يداي ممدودتين الى الأمام، موثقتين ب"الكلبجة". يجرني الجندي بجنزيرهما كما يجرّ الخروف المعاند الى المسلخ". كانت العصابة تلفّ عينيه كي تمنع عنه أيّ ضوء أو رؤية. ولم تُخلع عن عينيه إلا عندما أُدخل غرفة التصوير حيث يُصوّر الموقوفون. ويسخر الكاتب من حال الذلّ تلك سخرية سوداء قائلاً: "تمنيت لو كان هناك من يصوّرني في شريط فيديو، لكي أستطيع مشاهدته في يوم ما". وهناك كان يسمع "صراخاً مكبوتاً". لكنّ حال السجن لم تخلُ من بعض الطرائف والمسامرات والنهفات، خصوصاً أنّ الكاتب اقتيد الى المعتقل مع جمع من المواطنين الذين ينتمون الى التيار الوطني الحرّ. السأم المميت وفي "القفص الواسع" كانت الحياة جماعية وكان يصنعها أناس مثقفون من محامين ومهندسين وأساتذة جامعيين وطلاب. لكنّ أوقات المزاح كانت تعقبها نقاشات وتصورات وآمال، وكانت تلفّها أيضاً أحوال من "السأم المميت". ولعلّ أكثر ما آلم أدونيس العكرة أنّ أحد السجون التي دخلها خلال فترة الأسر كان متاخماً ل"كلية القيادة والأركان" في وزارة الدفاع وكان درّس فيها سنوات طوالاً مادّة الفلسفة السياسية. كان أدونيس العكرة على يقين تام أنّ حملة الاعتقال الجماعي كانت "مسرحية رديئة" وأنّ التهم التي كيلت له تهم باطلة. فهو لم يرتكب أي جرم أو جانحة إلا إذا كان التفكير تهمة والوطنية تهمة. وكان أيضاً على علم بما يسمى "التضليل الإعلامي" الذي بات المواطنون ملمّين به وبآلياته الرسميّة. وعندما لم تستطع "المراجع" اتهام المعتقلين بالتعامل مع اسرائيل نظراً الى خطابهم السياسيّ المعلن والذي يجاهر بعدائه لإسرائيل، اتهمتهم بالتآمر على الدولة والمسّ بدولة شقيقة وتعكير الأمن وسواها من التهم... علماً أن التيار الوطني، كما أوضح الكاتب الموقوف للمحققين مراراً، ليس حزباً بل هو تيار شعبي يعمل في العلن وينادي بالسيادة اللبنانية والعنف فيه ممنوع... وفي هذا السياق استعاد الكاتب موقف الرئيس رفيق الحريري السلبي من الاعتقالات التي يقف وراءها "حكم الأشباح" كما عبر الحريري نفسه. واستعاد كذلك موقف وليد جنبلاط الرافض حملة الاعتقالات، خصوصاً بعد لقاء المصالحة الوطنية الشهير في الشوف. لماذا منع الكتاب؟ ترى ما الذي حدا بجهاز الأمن العام الى مصادرة كتاب أدونيس العكرة؟ هل لأنّه كتب يسأل فيه: "من يحكم لبنان؟ كيف يحكم؟ كيف تمارس الديموقراطية في لبنان اليوم؟"، أم لأنّ الكتاب عبارة عن شهادة موضوعية تبرئ أدونيس العكرة ورفاقه من التهم التي كيلت لهم؟ أم أنها الحقيقة التي يبرزها الكاتب جليّة كلّ الجلاء وجارحة من شدة صدقها؟ قد لا يوافق البعض أدونيس العكرة في آرائه السياسية ومواقفه ولا سيما سياسة العماد ميشال عون التي تمّ بها حكمه، لكنّ ما من أحد يقدر أن يأخذ عليه مأخذاً سياسياً واحداً أو أخلاقياً واحداً. فهو معروف بنزعته الديموقراطية والمثالية وانتمائه اللبناني والعربي والتزامه الإنساني ونضاله ضدّ الطائفية والظلم والقمع. وهذه الخصال تظهرها كتبه ومقالاته ومحاضراته الجامعية مثلما يظهرها أيضاً سلوكه الوطنيّ المثاليّ وسيرته الشخصية. فعندما نقل من السجن الى المستشفى إثر النوبة القلبية التي ألمّت به طلب من حراسه العسكريين في الغرفة كتاباً فلم يسمحوا له بأي كتاب تبعاً للأوامر. ثم طلب القرآن الكريم والانجيل فرفض طلبه أيضاً. حينذاك استشاط غيظاً وقال: "أريد قرآناً يا سيّدي. هل القرآن أو الانجيل، ممنوع؟ يا أخي، أنا أريد الصلاة. هل تمنعون عني الصلاة أيضاً. أنا أريد أن أصلّي قبل أن أموت... هل تريدون أن أطلب مفتي المدينة لكي يثير القضية على المآذن؟ أنا مسيحي وأريد الصلاة بالقرآن، ممنوع؟؟ يا أخي، أريد انجيلاً. جيئوني بالانجيل. أتريدون أن أطرح الصوت على الكنائس فتقرع أجراسها؟". طبعاً لم يختلق أدونيس العكرة مثل هذا الكلام الذي يوحي بإيمانه الحقيقي بالوحدة الوطنية على غرار الكثير من السياسيين المتزلّفين والمزيفين: فهو لم يجاهر به إلا لأنّه يؤمن به. تُرى ألم يعلن في كتابه أنّه كتبه لكي يشهد "للحق بالاختلاف"؟ ألم يقل: "ان اختلافنا في الرأي يوحدنا بالمواطنة في الانتماء الى الهوية"؟ لعلّ كتاب أدونيس العكرة "عندما صار اسمي 16" هو الأوّل من نوعه في المكتبة اللبنانية، يروي تجربة السجن عبر عيشها مباشرة، جامعاً بين الموضوعية والذاتية، بين السرد الوثائقي والتأمل الفلسفي، بين الجرأة والحقيقة. إنّها شهادة إنسان وكاتب ومفكّر في وقت واحد. شهادة جارحة من شدّة صوابيتها، وأليمة من شدّة اصابتها، وأصيلة من شدّة تأمّلها. وكم كان أدونيس العكرة حقيقياً في كشفه عن ذلك العالم القاتم، عالم الزنزانات السفلية التي كنّا نظنّ ان لبنان يخلو منها، عالم التعذيب والتنكيل والمهانة التي لا تتفق مع الروح اللبنانية التي طالما عرفت بديموقراطيتها وانسانيتها وانفتاحها وحريتها وحضاريّتها.