هذه ليست حكاية جدة لحفيدة، بل كتابة تصرخ بما تنضح به من سيرة وشهادة على يومنا العربي العجيب، وبما تروم من انتساب الى الرواية. عنوان هذه الكتابة هو "الشرنقة" وصاحبتها هي حسيبة عبدالرحمن، وتاريخها هو هذا التخم الاخير للقرن العشرين 1999، بلا ناشر. ومنذ الصفحة الاولى، حيث تبدأ تصفعنا بوابة حديدية وعصابة للعيون ودولاب وكرسي التعذيب الشهير وزنزانة.. سندرك اننا في معتقل عربي عتيد وستدهمنا صور لطيفة الزيات وسواها من المصريات اللواتي التهمهن جوف الغولة حيناً، وحدثتنا عن السجن السياسي حيناً، لكن الكاتبة ليست هذه المرة مصرية، وجوف الغولة ينداح هذه المرة من معتقل - سجن سياسي موقت، الى سجن للنساء السياسيات وغير السياسيات. والكتابة قد تكون تقريراً وصفياً او سيرة محورة او لغة متهالكة والتماعات تائهة وطموحاً روائياً، الا انها اولاً واخيرآً كتابة مدماة، تعري القامع والمقموعة وفضاء القمع واساليبه، ايما تعرية. الراوية هنا هي كوثر التي بات اسمها الحركي "سناء" في التنظيم السري الذي انتسبت اليه، والذي لا يعترف بالفروق الجنسية، فتتضافر فيه الشابات والشبان الى "انكسار الأحلام" بالاذن من محمد كامل الخطيب وكتابه الذي يحمل هذا العنوان. والراوية تقص علينا اجدادها الشيوخ المتمردين، وسيرة طفولتها واعتقالاتها المتكررة، وصولاً الى الاعتقال الاخير الذي ستكابده سنوات حتى تخرج - مع سواها - من جوف الغولة مرددة: "ضريبة كل امرأة ترفع رأسها قليلاً، اذا فشلت السلطات بتدميرها.. دمرها الاقربون". عبر ذلك تعرفنا كوثر - او سناء - على ام فدوى الارملة التي قتلت من احبت بعد ترملها، لان الحبيب حاول اغتصاب وحيدتها. وام فدوى لفت الجثة بالسجادة عشرة ايام حتى ازكم النتن انوف الجيران، واقتيدت العاشقة القاتلة الى السجن. طوال عشرة ايام كانت المرأة ترقب باطن القدمين اللتين لم تخفهما السجادة، مما اورثها "النوبة" التي كانت تنفجر في السجن كلما لاح باطن قدم، فباتت السجينات يتحاشين مد ارجلهن في حضرة ام فدوى. وفي "الشرنقة" الرواية نتعرف ايضاً على جورجيت تاجرة الافيون والخشخاش اللبنانية، وعلى ام الياس التي اوصلت رسالة لاخويها فتمكنت عصابة للتجسس من الهرب، واودعت المرأة السجن لتعيد حكايتها على كل سجينة. لكن وكد "الشرنقة" ليس السجينات غير السياسيات، بل هو الاخريات اللواتي انتهى بهن التنظيم السري، يميناً او يساراً او بينهما الى السجن، ومنهن دعد صاحبة فم الارنب وسليلة التاجر الكبير التي احبت طالباً جامعياً سبقها الى التنظيم السري، فجعلت من بيتها مكتبا للرفاق. واثر خروج الحبيب من اعتقال سنة، تزوج دعداً التي قدمت بيتاً هدية لقيادة التنظيم، لكن قيادياً اعتُقل وافشى سر البيت، فاعتُقلت دعد، وفي السجن استخدمت سجينة فقيرة وساذجة، وعاشت - مثل الراوية ورفيقاتهما - مع السجينات "الاصوليات". من الرفيقات ايضاً "لاما" التي جاورت زنزانتها زنزانة الراوية في المعتقل الذي يتوسط المدينة، قبل الانتقال الى سجن النساء في ضواحي المدينة. في الزنازين عرفت لاما والراوية وسواهما من السجينات السياسيات - كما عرف السجناء السياسيون في مضارب العرب - لغة النقر على الحيطان، وكما عرفوا وعرفن في السجون لغة النحنحات التي عنونت مجموعة قصصية لابراهيم صموئىل. يداهم الماضي لاما، لان المحقق هو عينه من أحبها. ولقد أبدعت الكاتبة في تصوير هاتين الشخصيتين، فلاما "فتاة وهم لبلدة مجنونة" والمحقق السكران تداهمه كوابيس الشبان والشابات الموشحين والموشحات بالدم، كذلك عماء صغيرته ومطاردة ابنه الفتيات وتهديده للطلبة بالاعتقال وضربه المدرسين، لكأن كل ذلك عقاب من السماء لهذا العاشق الذي يشق اذنيه السؤال: "منذ متى والنساء تجلد؟". ومع دعد ولاما تأتي تهامة، شقيقة القيادي الذي هيمن على المنظمة، وفشا سر كوثر - سناء - عندما اعتقل. وتهامة ايضاً هي زوجة قيادي منسي، تعودت تنفيذ الاوامر، لا اصدارها، كما تصفها الراوية، لكن ذلك لم يكن من دون تصدر تهامة القيادة التي تشكلها الرفيقات في المعتقل، وان كانت ستتخلى لحنان عنها. اما السجينات الاصوليات فترسم لهن الكاتبة صوراً حية، شأن اغلب السجينات غير السياسيات، فالصراع الحزبي وتناقض الانتماءات والمواقف لم يجعلا صورة الخصم كالحة وصورة النحن زاهية. وتلك نهيدة التي تحاور الراوية مبررة القتل الطائفي، وهي تؤم زميلاتها في الصلاة، وكان زوجها الضابط الاصولي قد قتل المئات من طلاب الضباط بدعوى الطائفية. وتلك آلاء التي احبت اصوليا واشترت له بيتاً في العاصمة، لكنه قُتل واعتُقلت، وفقدت ابويها في صراع مدينتها مع السلطة، وكانت آلاء قبل حب الاصولي قد تمركست. وفي السجن استخدمت - مثل دعد - سجينة، وأحبت ضابط الاستخبارات، وباتت تقضي نهارها في مكتبه. وثمة ايضاً ماجدة التي عقمت بعد هدم منازل ذويها واختفاء أخوتها، اذ تركت دراستها في كلية الطب وتخفت واغتيل خطيبها. وفي هذا الشطر الاصولي من السجن تصور الكاتبة بحذق تحريم المذياع والتلفاز والاغاني وحجات الدجل والعلاقات الشاذة بين بعضهن، وبعض السجينات غير السياسيات ايضاً. في جوف الغولة - السجن تتوزع النساء بين غرفة القتل - اي القاتلات - والمخدرات والسياسيات والعابرات اللواتي يأتين فجأة من دعارة الفنادق الرخيصة والبيوت الفقيرة، ويختفين فجأة. وفي هذا الجوف تلد سجينة امتدت يدها الى خزينة المؤسسة الاستهلاكية. ولان حملها غير شرعي، تحيا وليدتها "براءة" معها وسط "صندوق دنيا من لحم ودم"، كما تصف الكاتبة هذا العالم النسوي العجائبي، حيث جورجيت تلبس الشورت نكاية بالاصوليات، وحيث تأرق الراوية ليلتها الاولى لانها توسطت قاتلتين، وحيث فرش الاسفنج والصحاحير وعفن الآباط والشراشف من كل لون، وحيث السهر امام التلفزيون ودروس محو الامية والشجار من اجل نشر الغسيل، مثل الاحتفال برأس السنة او بتأسيس التنظيم السري، او عرض الازياء في السجن، او تسرب اخبار الرفاق السجناء. ولان الزمن يمضي والعالم، كما نقرأ: "يغلق ملفات، يفتح اخرى، ونحن في ادراج منسية، ننام ونستيقظ بالغرائز كالحيوانات"، وان التنظيم قد هزم، يبدأ السوس بالنخر، وتندم واحدة على ماضيعت، وتتنابذ اخرى مع ثالثة، وتغدو اللازمة: "تفو على كل شيء، تفو على الورطة"، وينتأ الموقف النسوي الذي صاغته سحر خليفة في روايتها "باب الساحة" حيث تواجه المتظاهرات الجنود الاسرائيليين وذكورهن. اما في "الشرنقة" فنقرأ: "كتب علينا رفع الارجل اينما كنا، في الفراش او الدولاب". ولقد قرأنا منذ البداية: "ضريبة كل امرأة ترفع رأسها قليلاً، اذا فشلت السلطات في تدميرها.. دمرها الاقربون". تستعيد "الشرنقة" تلك التجارب المريرة بعد خروج الراوية ورفيقاتها والاصوليات من السجن. ولقد تدفقت الكتابة في مواقع شتى موجعة وبديعة، كما في الفقرات التي وقعت لها لازمة الراوية :"انا مسبحة الكهرمان". وستقول الراوية "يبدو اني سأبدأ بتركيب شخصيات جديدة ومن طين مغاير، حسب مواقف كل واحدة في السجن وموقفي منها كما يحلو لي، أهرب من الواقع واعود الى السجن باسم جديد ووضع آخر". والعزم هنا الى التخييل باد، بيد أن بناء "الشرنقة" بجملته يملص من النسب الروائي وهو يرومه، ويظل شهادة - سيرية ربما - عما بلغه القمع العربي، وعلى المكابدة التي قدمتها المرأة، شأن الرجل، جراء المعارضة، اية معارضة كانت. فهل "الشرنقة" هي هذه الكتابة او هي العيش العربي السعيد؟ وهل جوف الغولة هو زنزانة او سجن ام هو هذا الفضاء العربي القامع والمقموع؟ واذا كانت الغولة قد التهمت اولاد العنزة، كما في الحكاية التي تختم "الشرنقة" فما الذي تغير في الاولاد بعدما امضوا زمناً في "جوف الغولة"؟.