هل وجدت الولاياتالمتحدة أخيراً ضالتها في شخصية حسن الخميني، حفيد آية الله الخميني، لتحوله الى كرزاي لإيران؟ يأتي هذا السؤال بعد الزيارة التي أداها هذا الأخير لأميركا وبالتحديد لمؤسسة "أميركان انتربرايز" ذات التأثير في التخطيط للسياسات الأميركية البعيدة المدى، وكذلك لتناغم تصريحاته مع ما تنشده الولاياتالمتحدة من تغيير للنظام الإسلامي في إيران. في البداية نلاحظ أن تداخل الأمور واشتداد المواجهة بين أميركا وإيران بلغ مستوى لم يبلغه في أي وقت مضى، ما ينبئ بوقوع أحداث مهمة في المستقبل القريب، فساحات المواجهة هي، بحسب الأهمية: الملف النووي، العراق، أفغانستان، القضية الفلسطينية، لبنان، بحر قزوين وآسيا الوسطى، القاعدة، الخليج والنفط.... وأعلنت الولاياتالمتحدة أخيراً أنها استبعدت نهائياً فكرة استخدام القوة ضد إيران، ما يؤكد حصول تغيير جذري في استراتيجيتها المعتمدة مع هذا البلد، وربما أسقطت أميركا أخيراً، كذلك، فكرة استبدال النظام الإسلامي الحالي بآخر علماني على النمط الغربي، لتقبل في المقابل بحل وسط يتمثل في نموذج لنظام إسلامي ديموقراطي، متفتح على الحضارة الغربية، فيكون قريباً لطروحات الإصلاحيين من جهة وملبياً مصالح الولاياتالمتحدة من جهة أخرى. وستحاول أميركا، على الأرجح، اختبار هذا النوع من الحكم في العراق ليكون في ما بعد نموذجاً لدول أخرى في الشرق الأوسط. وتعود هذه التحولات في الرؤية الأميركية للمواجهة مع إيران، على الأرجح الى السببين الآتيين: 1 - الوضع في العراق: فوجئت الولاياتالمتحدة بعد غزوها العراق وتنحيتها الرئيس العراقي، بكيفية رد فعل العراقيين على الاحتلال، فقد طغت الفرحة بسقوط صدام على الترحيب بالأميركيين بل لم تدم هذه الفرحة طويلاً، وتحول الوجود الأميركي الى عار وخزي في نظر العراقيين، لا يبرره سوى الخشية من إمكان عودة صدام للحكم. فالجميع الآن يطالب برحيل الأميركيين وترك الأمور للعراقيين لاختيار ما يناسبهم من أنواع الحكم. كما فوجئت أميركا كذلك بمدى تمسك العراقيين بدينهم، على رغم بقائهم عهوداً سحيقة تحت حكم العلمانيين وحتى الشيوعيين. ولعل الأمل الأخير المتبقي للشعب العراقي، بعد أن جرب أنواعاً عدة من الحكم، هو في إقامة نظام إسلامي يقترب من النظام الإسلامي في إيران من دون أن يكون بالضرورة صورة طبق الأصل، لخصوصيات كل بلد. ومنذ اليوم الأول لانهيار الحكم في العراق، شاهد الجميع شعار الشيعة "حوزتنا تقودنا"، ما خلط، بلا شك، حسابات ادارة بوش. إذاً، وقعت الإدارة الأميركية في مأزق، وبين أمرين كلاهما مر، فإما أن تستجيب لإرادة الشعب العراقي بما سينتج عنها من مخاطر وانفلات للأمور، تصب حتماً في مصلحة إيران، وإما اشتداد المقاومة وازدياد خسائرها وتزايد العداء لها، حتى من أصدقائها. وهذا بالضبط ما حذر منه الرئيسان المصري والفرنسي قبل وقوع الحرب، وإن كانا لم يهتما في المقابل بما عاناه ويعانيه الشعب العراقي. ولا يتردد الرئيس مبارك عندما يذكر الآن انه نصح بوش بإقامة نظام عسكري بعد تنحية صدام، ما يعني تأجيل الديموقراطية، وانه أجابه بأنه لا يبدل ديكتاتوراً بديكتاتور. وفي واقعنا الجديد، أصبح الرؤساء العرب يعرفون مصلحة اميركا أكثر منها. لا شك في أن من بين الأسباب التي تجعل الولاياتالمتحدة تتجنب تسليم تسيير الأمور للأمم المتحدة، خشيتها من التأثير الإيراني المتنامي في العراق، إذ على رغم حرب الثماني سنوات، بقيت الروابط العرقية والدينية بين الشعبين قوية، والآن، وبعد مضي أكثر من خمسة عشر عاماً على تلك الحرب، يشعر الشعبان، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة أحدهما الى الآخر، وهذا أمر عادي. فألمانيا وفرنسا عادتا لتصبحا صديقتين مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، على رغم الدماء التي سالت بينهما، ومثلما حملت ألمانيا هتلر المسؤولية لوحده، يعتبر معظم العراقيين الآن أن صدام كان مسؤولاً لوحده عما جرى مع إيران. وتحاول أميركا جاهدة إيجاد ما أمكن من الأسباب لإدامة القطيعة بين إيرانوالعراق، وجعل العراق حاجزاً يقطع الطريق أمام قيام محور إيران - العراق - سورية، يهدد اسرائيل ويضعف الأردن. هذا الأخير يُبرز الآن وكأنه الأقرب الى قلوب العراقيين، على رغم عدم صحة هذا الرأي، وذلك لفتح الطريق أمام اقامة العلاقات بين العراق وإسرائيل، وربما لهذا السبب تنفق الولاياتالمتحدة الآن مئات البلايين من الدولارات على العراق. خسرت إيران حلقة مهمة للتواصل مع العراق، بفقدانها محمد باقر الحكيم الذي ما إن شرع في الكشف عن مواقفه من القضايا المهمة كالاحتلال الأميركي والعلاقة مع إسرائيل، حتى اغتيل في عملية بشعة في النجف. وفي الواقع ان الولاياتالمتحدة كانت هي الأخرى في حاجة لشخصيات في مثل شعبية باقر الحكيم لكي تسهم في توحيد كلمة الشعب العراقي. ومثلما استعملت الولاياتالمتحدةالعراق لمحاربة ايران في السابق، جاء الآن دور ايران لاستعمال الأراضي العراقية لمحاربة الجيش الأميركي، وربما لهذا السبب نرى تملص الجنود الأميركيين من المناطق الشيعية في الجنوب العراقي تحسباً لأي مواجهة يمكن أن تطرأ. 2 - السبب الثاني لتغيير السياسة الأميركية تجاه إيران هو عدم وجود شخصيات بديلة من خارج النظام، تكون مقنعة وتتمتع بقدر كاف من الصدقية والكفاية لتسيير بلد بهذا الحجم. فأميركا لا تراهن على النظام الملكي السابق الذي تورط في فساد وفضائح كثيرة، تُعرض في متاحف إيران، وهذا ما يجعل قبول الإيرانيين بعودته الى الحكم مستحيلاً. وحركة "مجاهدين خلق" المدرجة على قوائم المنظمات الإرهابية لدى أميركا وأوروبا لم يبق لها أي تأثير في الشأن الإيراني، ربما سوى أعمال التجسس، وذلك منذ سقوط صدام ومداهمة مقرها الرئيس في ضواحي باريس، والتي جاءت نتيجة لتوقيع عقود اقتصادية مجزية بين باريس وطهران. أما عن الشخصيات الإيرانية الليبرالية التي تعيش في الغرب، والمعجبة بالنموذج الغربي، فهي مقسمة الى قسمين: القسم الأول، من يرفض المغامرات الأميركية في إيران من حيث المبدأ، ويرجع ذلك الى الوطنية المفرطة والاستقلالية المعروفة لدى الإيرانيين عموماً. والقسم الثاني، والذي ينساق لما يريد الأميركيون، لكنه يفتقد الشعبية اللازمة في البلاد، وربما للتحقق من ذلك، يمكننا انتظار ما سيحققه أحمد الجلبي الذي عاد الى العراق على متن طائرة أميركية، بعد غربة طويلة في أميركا وبريطانيا. فهل ستعود الولاياتالمتحدة الى إيران من الباب الذي خرجت منه؟ لا شك في أنه اختيار سوريالي، لن يختلف في نتيجته الفاشلة عن الاختيارات السابقة، وذلك للأسباب الآتية: 1 - ما تمتع به الإمام الخميني الراحل من تقدير داخل إيران وخارجها، لا يعود الى شخصه، بل لما أتت به الثورة التي كان يترأسها، خصوصاً إعادة ثروات البلاد لأبناء الشعب. فهو يستحق النقد في أمور كثيرة، ومن هنا يعتبر حفيده مواطناً عادياً ليس أكثر. وحتى في فقه الشيعة، لا يكون ابن الإمام إماماً بالضرورة. ولعل الأميركيين رأوا تجربة العراقيين مع مقتدى نجل الإمام الصدر، فأرادوا تكرارها في إيران. 2 - ما دعا اليه حسن الخميني من تغيير في إيران تجاوز الحدود المعقولة بكثير، فالرجل يدعو صراحة، وبحسب ما نسبت إليه الصحافة، الى تدخل عسكري أميركي في إيران، ويؤكد أن إيران تحاول امتلاك القنبلة النووية، وتحدث الاضطرابات في العراق، وتدعم الإرهاب المتمثل في "حزب الله" و"حماس" وغيرهما، كما انه يعترف بأن جده كان مخطئاً، وانه مع إبعاد الدين عن السياسة، وانه معجب بالديموقراطية والحرية الغربية. الخلاصة، ان إذا أرادت أميركا إحداث بعض التغييرات في سياسات إيران فعليها أن تكون صبورة، ربما لعشرين سنة، مع تقديمها بعض التنازلات هي الأخرى، وخصوصاً في ما يتعلق بإسرائيل، إذ أن أكبر اختلاف بين البلدين يتعلق بهذا الموضوع، حيث لا تعترف إيران صراحة بحق إسرائيل في الوجود، على رغم تصريحات خاتمي الذي قال ان ايران تقبل بما يقبل به الفلسطينيون. وعلى أميركا التيقن من أن كلما زادت في ضغوطها كلما ازداد تحصن الإيرانيين وتآزرهم وربما قمعهم الحريات. والملاحظ الآن ان الولاياتالمتحدة، على عكس ما فعلته مع العراق، تحاول التخفي وراء المنظمات الدولية، كالوكالة الدولية للطاقة الذرية والأمم المتحدة، لتتجه نحو العقوبات الاقتصادية والحصار، وربما لهذا السبب أسرعت بجنودها الى العراق. أما احتلالها إيران فسيتحول حتماً الى كابوس مرعب لها. لقد نضجت التجربة الإيرانية واكتسبت رصيداً لا بأس به من الثقة بالنفس، نتيجة السياسة البراغماتية والنقاش الديموقراطي بين مختلف مكونات المجتمع الإيراني، وبرز هذا جلياً أثناء مناقشة مسألة توقيع إيران على البروتوكول الإضافي للوكالة الدولية للطاقة الذرية. * كاتب تونسي.