عندما تسلم روبن كوك وزارة الخارجية البريطانية أكثر من الحديث عن "البعد الأخلاقي" للسياسة الخارجية لبلاده تحت حكم حزب العمال. وسرعان ما تلقى هذا الرد اللاذع من اللورد هيرد، وزير الخارجية السابق في حكومة المحافظين: "اذا غيّرت اتجاه سياستك درجتين وتظاهرت بأنك غيرته مئة وثمانين درجة ستسمع فوراً تصفيق الذين لا يعرفون الكثير عن الموضوع. لكنك ستجلب لنفسك المشاكل عندما تصطدم ادعاءاتك الأخلاقية بخشونة الواقع". وهذا ما حصل. فقبل اسبوعين أثارت "خشونة الواقع" خلافاً واسعاً في صفوف المجموعة البرلمانية لحزب العمال، في شأن بيع السلاح الى اسرائيل. وكان متوقعاً أن تثير هذه القضية مشاكل قوية لحزب العمال الجديد بقيادة توني بلير الذي وعد في حزيران يونيو 1996، عندما كان لا يزال في المعارضة، بعدم "اصدار رخص تصدير السلاح الى أنظمة قد تستعمله للقمع الداخلي أو العدوان الخارجي"، أو اذا كان بيعه سيؤدي الى "تصعيد الصراعات المسلحة أو إطالتها أو انتهاك حقوق الانسان". كانت بريطانيا آنذاك أصبحت المصدّر الثاني للسلاح في العالم بعد الولاياتالمتحدة، وبلغ حجم مبيعاتها 20 في المئة من المجموع العالمي. وفي الثامن من تموز يوليو أعلنت حكومة العمال في جواب كتابي عنسؤال برلماني انها وافقت على بيع معدات لطائرات مقاتلة في سلاح الجو الاسرائيلي. هذه "المعدات" هي شاشة متقدمة لعرض المعلومات تستعمل في طائرات "أف 16" التي تصنعها أميركا وتصدرها الى اسرائيل. وكما يعلم الجميع فإن اسرائيل تستعمل هذه الطائرات لقمع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. واذ ليست لدىهم قوات مسلحة، بالتالي يكن أو ما يمكن ان يعتبر أهدافاً عسكرية، راقب العالم باستنكار وقلق متزايدين استخدام الطائرات ضد مبان رسمية ومقرات أمنية، وصولا الى المجزرة البشعة الأخيرة في غزة التي استهدفت حيّا مكتظاً بالسكان. ويعتقد كثيرون من نواب حزب العمال ان الحكومة تحاول الالتفاف على القواعد التي وضعتها لنفسها لمنع تصدير المعدات العسكرية الى اسرائيل. وكانت وزارة الخارجية البريطانية قدمت شكوى الى حكومة اسرائيل، بعدما أظهرت تحقيقات اجراها الملحق العسكري البريطاني في تل أبيب أن الدولة العبرية عدّلت معدات عسكرية بريطانية كي تستعملها ضد الفلسطينيين. ويستنكر كثيرون من نواب العمال، وكذلك نواب الحزب الديموقراطي الليبرالي، مساعدة اسرائيل بهذا الشكل لقمع الفلسطينيين. ولفتت النائبة العمالية اليس ماهون الى أن وزير الخارجية جاك سترو كان دان بشدة استعمال اسرائيل طائرات "أف 16" والمروحيات في الأراضي المحتلة، واعتبرت ان "دعم اسرائيل في أي شكل من الأشكال في هذه المرحلة عمل لااخلاقي". وأضافت: "اذا كنا الآن نسمح بتصدير هذه المعدات من خلال طرف ثالث، أي اميركا، فإننا نستحق الادانة. والمؤسف ان الخطوة ستشجع على استمرار العنف في الشرق الأوسط". ورأت ان بريطانيا ستنال دعما دوليا واسعا اذا اتخذت موقفا قويا ضد أميركا في هذه القضية. من السهل الموافقة على موقف النائبة ماهون، ولكن من المهم أيضا النظر الى مأزق تواجهه الحكومة التي كانت أشارت الى ان نهاية الحرب الباردة وخفض الانفاق العسكري دفعا شركات صنع السلاح الرئيسية الى العمل على أساس دولي. ويعني هذا ان الشركة التي تحصل على عقد رئيسي توزع عقوداً ثانوية على شركات اخرى كثيرة. واذا أصرت بريطانيا على تقييد استعمال أنظمة السلاح التي تساهم في صنعها ستجد الشركة الأساسية صانعا بديلا من ذلك الجزء من النظام. الموقف المعتاد لوزارة الدفاع في حالات كهذه هو دعم الصفقة، لأن قاعدة واسعة لصنع السلاح تساعد في خفض كلفة انتاج المعدات البريطانية عن طريق توزيع اعباء البحوث والتطوير على شبكة من الشركات. في المقابل ترى وزارة الخارجية، مع احتسابها الضرر للعلاقات الثنائية الذي يحدثه رفض المشاركة، ان بريطانيا قد تتعرض الى مشاكل أكبر مع الدول الأخرى في الأممالمتحدة في حال الموافقة. هناك أيضا وزارة التجارة، حيث قال بعض المصادر ان الوزيرة باتريشيا هيويت عارضت الصفقة لأنها قد تضر العلاقات التجارية مع الدول العربية. لكنني اعتقد ان رئيس الوزراء توني بلير أصر على الموافقة، لأن الأولوية بالنسبة اليه دوما هي العلاقات البريطانية - الأميركية. * سياسي بريطاني، مدير "مجلس تحسين التفاهم العربي - البريطاني" كابو.