اطلالة على معاني المؤسسات الثقافية الكويتية، قام بها المفكر منح الصلح، في الكلمة التالية التي ألقاها في 21 الجاري، في حفلة افتتاح أسبوع التراث الثقافي الكويتي في جامعة بيروت العربية. لست أجدر اللبنانيين بالوقوف على منبر لتقدير جهود ثقافية لامعة ونوعية يبذلها قطر عربي شقيق هو الكويت أفاد منها كثيراً التقدم العام في منطقتنا. وأسجل بادئ ذي بدء تعاطفاً أعتبره من معطيات الله والطبيعة بين بلدينا المنفتحين على البحر، ذاك على الخليج وهذا على المتوسط، مع كل ما في جوار البحر من تاريخ اتصال قديم بالعالم وكل ما فيه من تلقي الجديد والجرأة على المجهول. ولعل الاشتراك في الحجم الطبيعي الصغير دفع ويدفع بلدينا الكويتولبنان الى الهوى النهضوي الكبير والتشبث بالمجلسية في صيغة الحكم، ليصبحا معاً في الانشداد الى المعاصرة والعروبة الجامعة والعالمية الحقة. لطالما توقف دارسو تطور الثقافة الأوروبية بل العالمية عند سر البندقية تلك الجزيرة الايطالية المحدودة الحجم التي صنعها البحر، أي الاتصال بالعالم الواسع وإرادة العيش والتجارة، فإذا هي تصبح احدى البيئات الثقافية الأشد توهجاً في التاريخ الايطالي بل تاريخ أوروبا والعالم. ويبدو لافتاً منذ مدة غير قصيرة عنصر الانفتاح على العالم والنهج المؤسساتي، خصوصاً عنصر النزاهة، في تراث الانجازات الثقافية الكويتية. فقد قدر لي ان ألمس ذلك من قريب للمرة الأولى كعضو في الوفد اللبناني الى مؤتمر الأدباء الأول في الكويت حيث عرفت عبدالعزيز حسين وأحمد العدواني الى جانب وزير المعارف رئيس المؤتمر يومذاك الشيخ عبدالله الجابر، بل كنت لمسته من قبل طالباً في الجامعة الأميركية في بيروت في زملاء دراسة من الكويت منهم الدكتور أحمد الخطيب متشوقين كلهم الى العطاء لبلدهم وللعرب، وآخرين، من بعد، طلبة كويتيين في مصر والعراق تسودهم الروح نفسها. في البدء كان الإنسان الكويتي والطلائع الكويتية المتصلة بالعالم الشرقي والغربي وكذلك طبعاً المسؤول الكويتي المندفع بحماسة وسخاء. جعلت الكويت من نفسها منذ ظهور النفط على عقود متعاقبة، مركز جذب وعمل لنفر من كبار المفكرين العرب من كل الأقطار، رواد في كل الحقول، أساتذة ومهنيين بارزين في الحقوق والطب والاقتصاد والهندسة والرياضيات والأدب والصحافة والفلسفة والفقه والاجتماع. ولطالما آنسني من الكويت ولا يزال صحافتها الراقية التي أحيت بالأسماء صحفاً كان الزمن قد طواها في بلاد منشئها في مصر والشام. فإذا "القبس" و"الرأي العام" السوريتان، و"الطليعة" و"السياسة" المصريتان خضراء من جديد تتوهج في البستان الكويتي وتزهر وتثمر. ولا أغفل المدارس العصرية الأولى وحركة النوادي وما قدمت للكويت في مرحلة مبكرة. الا ان في طليعة ما ميز التعاطي الكويتي الحديث في الموضوع الثقافي الحرص على مأسسة تطلعات الكويت الثقافية وربط النمو الانساني الذاتي بقضية النمو العام. فإلى جانب اطلاقها مجلة "العربي"، رسولتها الساحرة الى القارئ العربي، على أيدي أفذاذ كأحمد زكي وأحمد بهاء الدين ومصطفى نبيل وفهمي هويدي ومحمد الرميحي ويرأس تحريرها اليوم الدكتور سليمان العسكري، عمدت الكويت منذ تاريخ متقدم في عمر دولنا العربية المستقلة الى وضع "الخطة الشاملة للثقافة العربية" بفضل أول رئيس للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب عبدالعزيز حسين، بعد لقاءات وخلوات دراسية مطولة ومنظمة وحرة مع شخصيات ثقافية عربية مكرسة، يجمعها المستوى وان فرقتها الاختصاصات والاجتهادات، انكبت على درس الواقع الكويتي والعربي وتحديد المطلوب. ان الانجازات والابداعات تكون أكثر ما تكون ضرورة حيوية في البلدان الغنية مادياً، لا لأن الثقافة تقوي قدرة البلد على حسن توظيف الثروة فقط، وانما أيضاً لأن الانجاز الثقافي يعطي الثروة وجهاً انسانياً وقومياً عاماً. ان المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب برئاسة الدكتور محمد الرميحي هو اليوم الجهة الثقافية الأساسية التي ترعى شؤون الثقافة والأدب، وفيها تكمن خصوصية المأسسة وروح الابتكار وخصوصاً تعزيز التنمية الانسانية وجعلها طابع الانتاج الثقافي الكويتي المعاصر. وغالبية المثقفين العرب، وأجرؤ على القول المثقفون العرب بالمطلق، ينتظرون باهتمام اصدارات المجلس الوطني ك"عالم المعرفة"، الكتاب الواسع الرواج، و"عالم الفكر"، الفصلية الاكاديمية الجادة التي تصدر من ثلاثين عاماً، وكان يرأسها الدكتور أحمد أبو زيد ومجلة "الثقافة العالمية" المنصرفة بكفاية الى ترجمة المقالات العالمية والنصوص المعرفية التي تتناول الظاهرات الفكرية الأساسية التي شغلت الفكر العالمي في عصرنا كالوجودية والكونية والعولمة، هذا عدا الكتاب الشهري "ابداعات عالمية"، الذي يطل بقارئه على الانتاج الابداعي المميز والمحرك الاهتمام حيثما كان من اليابان الى الولاياتالمتحدة مروراً بالمتوهج من انتاج القارات المختلفة. كان الأديب المثقف السوري المعروف العضو في لجنة الإشراف على مطبوعات المجلس الوطني وسلسلة "عالم المعرفة" الدكتور شاكر مصطفى كلما لقيته في الكويت أو دمشق أو بيروت يحرص على ان ينقل إليّ بالعدوى حس الاهتمام والمتابعة لما يصدر في الكويت من انتاج ثقافي متقدم، فيضعني في صورة هذه الورشة الثقافية الناشطة بطموح وجهد في بلد شقيق عرف كيف يدخل الغذاء الفكري والمتعة الراقية الى قلب القارئ العربي بالمادة الثقافية السهلة القراءة، بسبب نوعية عرضها وسعرها ونزاهة توجهها، وبسبب انها في جملتها منطلقة لا من الرغبة في زيادة ركام التنظير المصطنع والاعتباطي بل من تلبية الحاجات الحية والملحة والراهنة للمجتمع والانسان. ومن كل محب للعربية وتراثها الفكري والأدبي الغني ذهب أخيراً شكر القارئ العربي والمحقق العربي لبلدكم على اكمال الأجزاء العشرة الأخيرة من "تاج العروس" وعلى كل ما تصنع الكويت للتراث والذوق العربيين. ولا أنسى ذلك الصديق اللبناني العامل في الكويت الذي أرسل لي يوماً من قبيل الرغبة في تعريفي بإصداراتها نسخاً من دوريات أربع عشرة تصدرها جامعات الكويت خبراً عن نشاط "مؤسسة الكويت للتقدم العلمي" التي يرأسها الأمير جابر الأحمد شخصياً ومهمتها القيام بالدراسات والأبحاث التي تتوخى اللحاق بالعصر وعنها تصدر مجلة "العلوم". لست أعرف الى الآن، أهو الوفاء للبلد الذي يعمل فيه دفع هذا اللبناني "المستكوت" الى ارسال هذه الرسالة لي أم الرغبة في حث خطى البلد الذي هو منه لبنان. وسواء أكان دافعه هو هذا أم ذاك، فإنه مثل عندي ولا يزال رغبة الانسان العربي السليم في كل قطر من أقطار العروبة الراغب في النهوض السريع لبلادنا جميعاً بدءاً ببلده، والمدرك انه بالثقافة وحدها يمكن انسان هذه المنطقة ان ينال لا البقاء فحسب وانما أيضاً كرامة البقاء... وأهلاً بروابط الفكر والروح تشدنا جميعاً كعرب الى جانب سائر روابط الواقع والحياة. * مفكر لبناني.