لبنان وغزة .. تحركات لوقف النار وضغوط داخلية لردع قوات الاحتلال    اجتماع استثنائي في واشنطن لتحديد مستقبل أوكرانيا    150مفقودا بعد فيضانات مدمرة في باكستان    270 حالة وفاة بالكوليرا في دارفور    متحدث عراقي: انسحاب التحالف مؤشر على قدرتنا للتصدي للإرهاب    فالكونز السعودي يتصدر المشهد العالمي    وزارة الثقافة تشارك في صوْن التراث بجازان    الأمير سعود بن مشعل يطلع على أبرز إنجازات مطار الملك عبدالعزيز الدولي.    شاطئ المستقبل.. وجهة سياحية جديدة تجذب أهالي جدة وزوارها    «التغدية العلاجية» تختتم فعالية الأسبوع العالمي للرضاعة الطبيعية بجازان    تحت رعاية خادم الحرمين.. الهيئة العامة للصناعات العسكرية تُنظّم معرض الدفاع العالمي    السياحة في السعودية بين عبق التاريخ ودهشة الطبيعة    أمير تبوك يطلع على سير العمل بالمنشآت الصحية بالمنطقة    أمير نجران يتابع استعدادات العام الدراسي    أمير جازان.. رؤية تلامس الواقع وإنسانية تحاكي القلوب    الشؤون الإسلامية تنفذ أكثر من 2,9 مليون منشط توعوي وإرشادي    الرياض تستضيف الطاولة المستديرة السعودية – السورية    الصحة القابضة والتجمعات الصحية يطلقون "تعلّم بصحة" بالتزامن مع العودة للدراسة    شهر للغة العربية في أذربيجان    أكاديمية الإعلام السعودية بوزارة الإعلام تعلن انطلاقة أولى مراحل مسار "قادة الإعلام" في سويسرا    تعليم جازان ينظم لقاءً افتراضيًا لمديري ومديرات المدارس استعدادًا للعام الدراسي الجديد    ولي العهد يتلقى رسالة خطية من رئيس سيراليون    جمعية التكافل وشركة نهضة التنمية تبحثان عن سبل التعاون المشترك    جمعية عين تختتم مشروع عمليات اعتلال الشبكية بدعم من "غروس" وشراكة مع مركز بن رشد للعيون    أمير حائل يستقبل مدير مكافحة المخدرات المعين حديثًا بالمنطقة    نائب أمير الشرقية يستقبل مدير سجون المنطقة الشرقية بمناسبة تعيينه    تراجع سوق الأسهم السعودية 11 نقطة بضغط من 4 قطاعات قيادية    يايسله: هذا موسم الحصاد في الأهلي    الأحوال المدنية تطلق الإصدار الجديد من شهادتي الميلاد والوفاة    الشؤون الإسلامية في جازان تنفذ مبادرة استشر طبيبك لمنسوبيها    تايكوندو السعودية تواصل حصد الإنجازات العالمية    عشّاق القهوة بمزاج أفضل بعد فنجانهم الأول    السعودية تستقبل وفدا سوريا استثماريا برئاسة وزير الاقتصاد والصناعة    سرقة مليوني دولار من الألماس في وضح النهار    القيادة تعزي رئيس باكستان في ضحايا الفيضانات    «رونالدو وبنزيمة» يسرقان قلوب جماهير هونغ كونغ    الأرجنتيني كوزاني يحمي مرمى الخلود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. مؤتمر «مسؤولية الجامعات» يعزز القيم والوعي الفكري    صابرين شريرة في «المفتاح»    لا تنتظرالوظيفة.. اصنع مستقبلك    ميسي يعود لإنتر ميامي بهدف وتمريرة حاسمة    تربية غريبة وبعيدة عن الدين!!    الجيش يؤكد عدم اخترق أجواء سوريا.. وعون: لا تدخل في شؤون لبنان    الشرع: وحدة سوريا فوق كل اعتبار    أمر ملكي: إعفاء طلال العتيبي مساعد وزير الدفاع من منصبه    أوامر ملكية بإعفاء الماضي والعتيبي والشبل من مناصبهم    مُحافظ الطائف يطلع على تقرير برنامج المدن الصحية    «الحياة الفطرية» يطلق أكبر رحلة استكشاف للنظم البيئية البرية    استعراض إحصائيات ميدان سباقات الخيل بنجران أمام جلوي بن عبدالعزيز    زرع الاتكالية    المملكة.. وقوف دائم مع الشعوب    أمانة الرياض تكثّف رقابتها على المقاهي ومنتجات التبغ وتغلق منشأتين    الأمير تركي الفيصل ورسائل المملكة في زمن الاضطراب الإقليمي    «إثراء» يدعم المواهب ويعلن المسرحيات الفائزة    تجمع مكة الصحي يخصص عيادة لعلاج مرضى الخرف    القيادة تعزي رئيس باكستان في ضحايا الفيضانات    "قيمة العلم ومسؤولية الطلاب والمعلمين والأسرة" موضوع خطبة الجمعة بجوامع المملكة    المشاركون في مسابقة الملك عبدالعزيز الدولية يغادرون مكة متجهين إلى المدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الراقصة ... والوجه الآخر للحزن
نشر في الحياة يوم 26 - 03 - 2002

عند العاشرة تماماً دخلت امرأة أربعينية الى الحانة الليلية. نحن في الأشرفية، شرق بيروت. في شارع مونو تحديداً. في الخارج، بالكاد تستطيع اختراق الحشد الهائل من الشبان والشابات. وفي داخل الحانات، الأمر يزداد صعوبة. لكن "الفتاة" الأربعينية تبدو معتادة. نظراتها. التحيات التي تلقيها على مدير الحانة وعلى النادلين، ثم اصرارها على الجلوس على الكرسي الذي يقسم البار الخشب الى قسمين وكأنه ملكها... كل شيء يدل الى انها زبونة المكان. أتت وحدها. وحيدة. عيناها لم تهدآ. بدت منذ دخولها وكأنها تجري مسحاً شاملاً للحانة، للزبائن والشبان. نظراتها حزينة. جلست لدقائق وشربت شيئاً ما، كان جسدها يتجاوب كلياً مع الموسيقى. راحت ترقص. لم تكن تتمايل أو تهتز بطريقة عشوائية. لا. كانت ترقص. خطواتها منسجمة، متناغمة، تمايل جسدها لا يترك شكاً في أنها امضت سنوات في مدرسةٍ للرقص. انها محترفة. كان جسدها مع الموسيقى في عالمٍ آخر لا يشبه هذا المكان. لكن عينيها لم تملاّ من المهمة التي بدأت تنفيذها منذ لحظة دخولها: البحث. البحث عن شاب أو عشيق ربما، أو عن صديق أو حتى صديقة. واضحٌ من عينيها أنها لا تطيق الوحدة. والوحدة واضحة في عينيها. على طاولة الزاوية ثلاث أربعينيات أيضاً. لكنهن ظهرن أقل تحرراً من الفتاة الأخرى. هن وحيدات مثلها وبالكاد يجرؤن على النظر الى شابٍّ جالس وحده. في عيني إحداهن الكثير من التردد والاحراج.
من حولهن مئات من الشبان والشابات. هنا شابٌّ يمسك بيد صديقته. وراءه شابٌّ آخر يأخذ بعض الخضار من صحنه ويطعم صديقته بيده. هي تأخذ بفمها ما يقدمه لها ثم تنظر اليه قبل ان تأكل. هناك فتاة منحنية على كتف صديقها وهو يداعب خصلة من شعرها برتابة. الصمت طغى على هذه الحشرجات الطفيفة. زادت من عمقه موسيقى غربية صاخبة تهزّ الحواس والأعصاب من جذورها. محاولات الحديث والتواصل فاشلة. بعض الشفاه اقتربت من الآذان والأيدي تتحرك بطريقة مبالغة. لكن الكلمات تضيع بين الأرجل الراقصة. الموسيقى الغربية أقوى منها. أقوى منها بكثير. معظم الساهرين والساهرات استسلموا لها.
الأكواب تبدو تحت الأنوار الخافتة على الأطباق الخشب الكبيرة التي لم يتوقف النادلون عن احضار المزيد والمزيد منها على جميع الطاولات. والموسيقى كانت المهرب من حرج الصمت وعدم التواصل. غريبٌ صمتهم وصمتهن. غريبة هذه الوجوه المتجهمة الضجرة والحزينة في مكان يفترض ان يكون للتسلية والمرح.
مضت ساعتان. العيون احمرّت والأيدي تراخت. الملل والحزن والوحدة تحولت الى لا مبالاة ظاهرة، مخدّرة. في المراحيض باتوا يقفون في الصف. بين مرحاضي الشبان والشابات تجلس امرأة افريقية عجوز. على طاولة صغيرة أمامها، سلة فيها لبان وسكاكر. لا أحد يلتفت اليها ولا الى سلتها. في الأخيرة دولار أميركي واحد وها هي قابعة هنا منذ ثلاث ساعات...
انتظرت دوريس هذا الارتخاء في أجواء الحانة لتصعد الى الحلقة يرافقها راقصٌ محترف مثلها. روّاد شارع مونو الليليون يعرفونها. بعضهم جاء لأجلها. لكن كثراً يجهلونها، ويجهلون العرض الذي ستقدمه بعد لحظات. "آي ويل لوف يو فورافر" - سأحبك الى الأبد - تقول الأغنية الأميركية. شفتا الراقص كانتا تدمدمان الكلمات وهو ينظر الى دوريس. يغني وهو يفتعل حركات تعبر عن شوق وحب لها كبيرين. على هذا اللحن الحزين، راحت دوريس ترقص. الفتاة الأربعينية كانت تنظر اليها. هي تعرف أنها ترقص أفضل منها بكثير. فدوريس تبدو مجرد هاوية أمامها: تميل شمالاً ويميناً في خطوة رتيبة تكررها عشرات المرات. لكن الفتاة الأربعينية تعرف ان في خطوات دوريس رشاقة لا تملكها سوى المراهقات. الرجل الوحيد الذي نجحت في كسب اهتمامه حوّل نظره الآن عنها، هو ينظر عالياً الى من ترقص على البار.
لا يفهم الناظر الى دوريس لماذا ثمّة انتقام في نظراتها. تبدو وكأنها تشنّ معركة. كتفاها عاريان. الضوء الموجه من خلفها يبين تفاصيل اضافية. دوريس تخاف ان ترفض أيضاً. هي تحدق الآن باتجاه شاب لم ينتبه الى صعودها على الخشبة حتى الآن. وقعت عينه عليها وعرف انها تحدق به. نسي كل من حوله وغاص في حركاتها. كسبته. عيناها تحولتا الآن للبحث عن فريسة غير مبالية أخرى. هكذا تأسر دوريس الرجال بنظرة وابتسامة محترفتين ومصطنعتين ثم تهجرهم بلا مبالاة تحترفها أكثر من البسمة بكثير. الراقص يشبهها في ذلك. هو نصف عارٍ، يلبس الجلد الأسود الضيّق، يحاول الإغواء مثلها.
الفتاة التي لم تنطق بكلمة طوال السهرة، تقاوم الموسيقى الصاخبة الآن. التصقت بأذن الشاب وراحت تحادثه عن قرب واضعة وجهها في وجهه لتمنعه من الاستمتاع بالرؤية. فتاة ثانية وراءها أدارت وجهها عن الجسدين الراقصين، لكن الشاب الذي بقربها لم تفارقهما نظراته حتى الساعة. هناك، رجل ضمّ زوجته الى صدره، وكان ينظر من وراء ظهرها بشغف الى المشهد. الراقصان ازدادا وعياً. بعض الساهرين صدموا. آخرون كانوا يفجرون من خلال نظراتهم سنوات من المراهقة المكبوتة. قليلون الذين صفّروا وصفقوا وصرخوا "وو وو" على الطريقة الأميركية. أبرز هؤلاء كان شاباً يبدو انه ايرلندي. كان برفقة باكستاني أو هندي لا أدري. ولكن أعتقد انه هندي لأنه صفق أيضاً وصفّر. أما الشرقيون الذين كانوا غارقين في الأغاني الغربية الصاخبة، ويأكلون الستروغونوف والبايغلز والرز الصيني... هؤلاء الشرقيون لم ينظروا بطريقة غربية الى العرض الذي كان يقدم أمامهم.
دوريس والراقص غادرا المكان بعد انتهاء العمل غير مباليين ومنتصرين. الفتاة الأربعينية عادت ترقص من دون ان يلتفت احد اليها الآن. نظرتها باتت قاسية. ربما الوجه الآخر للحزن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.