عند العاشرة تماماً دخلت امرأة أربعينية الى الحانة الليلية. نحن في الأشرفية، شرق بيروت. في شارع مونو تحديداً. في الخارج، بالكاد تستطيع اختراق الحشد الهائل من الشبان والشابات. وفي داخل الحانات، الأمر يزداد صعوبة. لكن "الفتاة" الأربعينية تبدو معتادة. نظراتها. التحيات التي تلقيها على مدير الحانة وعلى النادلين، ثم اصرارها على الجلوس على الكرسي الذي يقسم البار الخشب الى قسمين وكأنه ملكها... كل شيء يدل الى انها زبونة المكان. أتت وحدها. وحيدة. عيناها لم تهدآ. بدت منذ دخولها وكأنها تجري مسحاً شاملاً للحانة، للزبائن والشبان. نظراتها حزينة. جلست لدقائق وشربت شيئاً ما، كان جسدها يتجاوب كلياً مع الموسيقى. راحت ترقص. لم تكن تتمايل أو تهتز بطريقة عشوائية. لا. كانت ترقص. خطواتها منسجمة، متناغمة، تمايل جسدها لا يترك شكاً في أنها امضت سنوات في مدرسةٍ للرقص. انها محترفة. كان جسدها مع الموسيقى في عالمٍ آخر لا يشبه هذا المكان. لكن عينيها لم تملاّ من المهمة التي بدأت تنفيذها منذ لحظة دخولها: البحث. البحث عن شاب أو عشيق ربما، أو عن صديق أو حتى صديقة. واضحٌ من عينيها أنها لا تطيق الوحدة. والوحدة واضحة في عينيها. على طاولة الزاوية ثلاث أربعينيات أيضاً. لكنهن ظهرن أقل تحرراً من الفتاة الأخرى. هن وحيدات مثلها وبالكاد يجرؤن على النظر الى شابٍّ جالس وحده. في عيني إحداهن الكثير من التردد والاحراج. من حولهن مئات من الشبان والشابات. هنا شابٌّ يمسك بيد صديقته. وراءه شابٌّ آخر يأخذ بعض الخضار من صحنه ويطعم صديقته بيده. هي تأخذ بفمها ما يقدمه لها ثم تنظر اليه قبل ان تأكل. هناك فتاة منحنية على كتف صديقها وهو يداعب خصلة من شعرها برتابة. الصمت طغى على هذه الحشرجات الطفيفة. زادت من عمقه موسيقى غربية صاخبة تهزّ الحواس والأعصاب من جذورها. محاولات الحديث والتواصل فاشلة. بعض الشفاه اقتربت من الآذان والأيدي تتحرك بطريقة مبالغة. لكن الكلمات تضيع بين الأرجل الراقصة. الموسيقى الغربية أقوى منها. أقوى منها بكثير. معظم الساهرين والساهرات استسلموا لها. الأكواب تبدو تحت الأنوار الخافتة على الأطباق الخشب الكبيرة التي لم يتوقف النادلون عن احضار المزيد والمزيد منها على جميع الطاولات. والموسيقى كانت المهرب من حرج الصمت وعدم التواصل. غريبٌ صمتهم وصمتهن. غريبة هذه الوجوه المتجهمة الضجرة والحزينة في مكان يفترض ان يكون للتسلية والمرح. مضت ساعتان. العيون احمرّت والأيدي تراخت. الملل والحزن والوحدة تحولت الى لا مبالاة ظاهرة، مخدّرة. في المراحيض باتوا يقفون في الصف. بين مرحاضي الشبان والشابات تجلس امرأة افريقية عجوز. على طاولة صغيرة أمامها، سلة فيها لبان وسكاكر. لا أحد يلتفت اليها ولا الى سلتها. في الأخيرة دولار أميركي واحد وها هي قابعة هنا منذ ثلاث ساعات... انتظرت دوريس هذا الارتخاء في أجواء الحانة لتصعد الى الحلقة يرافقها راقصٌ محترف مثلها. روّاد شارع مونو الليليون يعرفونها. بعضهم جاء لأجلها. لكن كثراً يجهلونها، ويجهلون العرض الذي ستقدمه بعد لحظات. "آي ويل لوف يو فورافر" - سأحبك الى الأبد - تقول الأغنية الأميركية. شفتا الراقص كانتا تدمدمان الكلمات وهو ينظر الى دوريس. يغني وهو يفتعل حركات تعبر عن شوق وحب لها كبيرين. على هذا اللحن الحزين، راحت دوريس ترقص. الفتاة الأربعينية كانت تنظر اليها. هي تعرف أنها ترقص أفضل منها بكثير. فدوريس تبدو مجرد هاوية أمامها: تميل شمالاً ويميناً في خطوة رتيبة تكررها عشرات المرات. لكن الفتاة الأربعينية تعرف ان في خطوات دوريس رشاقة لا تملكها سوى المراهقات. الرجل الوحيد الذي نجحت في كسب اهتمامه حوّل نظره الآن عنها، هو ينظر عالياً الى من ترقص على البار. لا يفهم الناظر الى دوريس لماذا ثمّة انتقام في نظراتها. تبدو وكأنها تشنّ معركة. كتفاها عاريان. الضوء الموجه من خلفها يبين تفاصيل اضافية. دوريس تخاف ان ترفض أيضاً. هي تحدق الآن باتجاه شاب لم ينتبه الى صعودها على الخشبة حتى الآن. وقعت عينه عليها وعرف انها تحدق به. نسي كل من حوله وغاص في حركاتها. كسبته. عيناها تحولتا الآن للبحث عن فريسة غير مبالية أخرى. هكذا تأسر دوريس الرجال بنظرة وابتسامة محترفتين ومصطنعتين ثم تهجرهم بلا مبالاة تحترفها أكثر من البسمة بكثير. الراقص يشبهها في ذلك. هو نصف عارٍ، يلبس الجلد الأسود الضيّق، يحاول الإغواء مثلها. الفتاة التي لم تنطق بكلمة طوال السهرة، تقاوم الموسيقى الصاخبة الآن. التصقت بأذن الشاب وراحت تحادثه عن قرب واضعة وجهها في وجهه لتمنعه من الاستمتاع بالرؤية. فتاة ثانية وراءها أدارت وجهها عن الجسدين الراقصين، لكن الشاب الذي بقربها لم تفارقهما نظراته حتى الساعة. هناك، رجل ضمّ زوجته الى صدره، وكان ينظر من وراء ظهرها بشغف الى المشهد. الراقصان ازدادا وعياً. بعض الساهرين صدموا. آخرون كانوا يفجرون من خلال نظراتهم سنوات من المراهقة المكبوتة. قليلون الذين صفّروا وصفقوا وصرخوا "وو وو" على الطريقة الأميركية. أبرز هؤلاء كان شاباً يبدو انه ايرلندي. كان برفقة باكستاني أو هندي لا أدري. ولكن أعتقد انه هندي لأنه صفق أيضاً وصفّر. أما الشرقيون الذين كانوا غارقين في الأغاني الغربية الصاخبة، ويأكلون الستروغونوف والبايغلز والرز الصيني... هؤلاء الشرقيون لم ينظروا بطريقة غربية الى العرض الذي كان يقدم أمامهم. دوريس والراقص غادرا المكان بعد انتهاء العمل غير مباليين ومنتصرين. الفتاة الأربعينية عادت ترقص من دون ان يلتفت احد اليها الآن. نظرتها باتت قاسية. ربما الوجه الآخر للحزن.