جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل    1.6 ألف ترخيص ترفيهي بالربع الأول    الطاقة النظيفة مجال جديد للتعاون مع أمريكا    السعودية والأمريكية    «الأقنعة السوداء»    العيسى والحسني يحتفلان بزواج أدهم    احذر أن ينكسر قلبك    5 مخاطر صحية لمكملات البروتين    تقنية تخترق أفكار الناس وتكشفها بدقة عالية !    إلتقاء سفيرة خادم الحرمين الشريفين بطلبة المنتخب السعودي في آيسف.    فتياتنا من ذهب    حلول سعودية في قمة التحديات    تضخم البروستات.. من أهم أسباب كثرة التبول    بريد القراء    الرائد يتغلب على الوحدة في الوقت القاتل ويبتعد عن شبح الهبوط    ابنة الأحساء.. حولت الرفض إلى فرص عالمية    الاستشارة النفسية عن بعد لا تناسب جميع الحالات    ولي العهد يلتقي الأمين العام للأمم المتحدة وملك الأردن والرئيس السوري    هتان السيف.. تكتب التاريخ في الفنون القتالية    مستقبل الحقبة الخضراء    الإطاحة بوافد مصري بتأشيرة زيارة لترويجه حملة حج وهمية وادعاء توفير سكن    مدير عام مكتب سمو أمير منطقة عسير ينال الدكتوراة    رئيس موريتانيا يزور المسجد النبوي    الدراسة في زمن الحرب    الشريك الأدبي وتعزيز الهوية    التعليم في المملكة.. اختصار الزمن    صالح بن غصون.. العِلم والتواضع        76 مليون نازح في نهاية 2023    فصّل ملابسك وأنت في بيتك    WhatsApp يحصل على مظهر مشرق    حراك شامل    فوائد صحية للفلفل الأسود    ايش هذه «اللكاعه» ؟!    خطر الوجود الغربي    العام والخاص.. ذَنْبَك على جنبك    حق الدول في استخدام الفضاء الخارجي    كلنا مستهدفون    أثقل الناس    تحولات التعليم.. ما الذي يتطلب الأمر فعله ؟    لماذا يجب تجريم خطاب كراهية النساء ؟    الاتحاد يتعثر من جديد بتعادل أمام الخليج    المسابقات تعدل توقيت انطلاق عدد من مباريات دوري روشن    بتوجيه ولي العهد.. مراعاة أوقات الصلوات في جدولة المباريات    البنيان يشارك طلاب ثانوية الفيصل يومًا دراسيًا    أمير القصيم يرفع «عقاله» للخريجين ويسلم «بشت» التخرج لذوي طالب متوفى    النفط يرتفع والذهب يلمع    أمير تبوك يرعى حفل جامعة فهد بن سلطان    بمشاركة السعودية.. «الحياد الصفري للمنتجين»: ملتزمون بالتحول العادل في الطاقة    أمطار على أجزاء من 6 مناطق    صفُّ الواهمين    أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    سقيا الحاج    السفير الإيراني يزور «الرياض»    أمين العسيري يحتفل بزفاف نجله عبد المجيد    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    رحالة فرنسي يقطع ثمانية آلاف كلم مشياً على الأقدام لأداء مناسك الحج    رعاية ضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ريمون إده... "جمهورية الضمير". حين حذر أنور السادات واضع قانون "السرية المصرفية" من مخطط لاغتياله في بيروت 2 من 4
نشر في الحياة يوم 14 - 03 - 2002

عرف ريمون إده بقوانين استصدرها من المجلس النيابي أعطت لبنان ميزته ك"سويسرا الشرق"، وفي هذه الحلقة بيان بالقوانين التي اشترعها وبالظروف التي أوصلته الى المنفى بعدما حذره الرئيس المصري من تعرضه للاغتيال في بيروت وعرض عليه الاقامة في القاهرة فاختار باريس تفادياً للاحراج، على أمل تشكيل حكومة منفى لبنانية لم تكتب لها الولادة.
من باب مقارنة حقبة ورجال بحقبة ورجال، تحدّث ريمون إده عن الفوارق بين جيله السياسي والجيل السياسي اللبناني الأخير، الحاكم في السلطة في مرحلة منفاه الإختياري: "في تلك الأيام كنتَ تتفق مع زعماء وتتخاصم مع زعماء، وكان هناك رجال أصحاب مواقف. القصة اليوم مختلفة تماماً. إنهم يقفون في الصف كتلامذة المدارس، ولا أحد يرفع إصبعه حتى لطرح سؤال. كانت هناك حكومات ومعارضات وأحزاب ومجلس نواب".
كتب عن هذه الخيبة في رسالة شخصية غير منشورة في 15 شباط فبراير 1991: "لما كنت قد عرفت بالحركات المختلفة القائمة في لبنان، فإن هذا الأمر طبيعي لأن الجميع يعرفون أن البلد - شئنا أم أبينا - واقع تحت احتلال مزدوج، والحكومة اليوم موالية لسورية، وبعض الذين تتألف منهم يُفترض أن يكونوا في السجون بسبب كل الجرائم التي ارتكبوها. يا للمثل الجميل الذي يُعطى للشباب. ولكن بعض اللبنانيين غير مبالين".
مصدر خيبته هو ما يتملّكه من شعور عميق أنه لم يُقدَّر ولم يُنصَف. لا هو، ولا أبوه الرئيس، ولا شقيقه بيار على رغم ما قدّموه للبنان في حياتهم السياسية الطويلة. وظلّ يعتقد أن المجتمع اللبناني، كما السياسيين اللبنانيين، مسؤولون عن عدم إنصافهم: انتهى تقدير إميل إده إلى تخوينه، وانتهى تقدير بيار إده صاحب الإنجازات والتدابير المالية والمصرفية والصداقات الإقتصادية الدولية الواسعة التأثير إلى خيار اعتزال الحياة السياسية تدريجاً منذ خسر معركته ضدّ بيار الجميّل في انتخابات 1960، ثم نهائياً مطلع السبعينات وقراره الهجرة إلى البرازيل لإدارة أعمال والد زوجته كرم الراسي، أحد الأثرياء الكبار صانعي الورق هناك.
لم تكن ثمّة أسباب تحجب عنه إنصافه، كما تحجبه عن شقيقه وعن والدهما من قبل. والواقع أن كانت ثمّة أسباب حيوية ساوت - بحجب الإنصاف - بين جيلي هذا البيت السياسي القديم، بدأت بتنافس الزعماء الموارنة على مواقع السلطة والحكم والإستقطاب الشعبي، ولم تنته بإرادة ريمون إده بلوغ المواقع تلك بشروطه المستحيلة:
- عارض الإتفاقات التي عقدتها الدولة اللبنانية مع إسرائيل والمقاومة الفلسطينية في خضمّ الصراع العربي-الإسرائيلي، بأن كشف للرأي العام انتهاكها السيادة الوطنية: اتفاق القاهرة عام 1969، ثم بروتوكول ملكارت عام 1973، فاتفاق 17 أيار مايو عام 1983.
- نبّه باكراً إلى الخطر الذي يتهدَّد الجنوب في حدوده وأراضيه ومياهه، وإلى الإحتلال الإسرائيلي له قبل وقوعه بسنوات.
- قدَّم للتشريع اللبناني سلسلة اقتراحات قوانين أضحت منذ النصف الأول من الخمسينات، مع إقرار معظمها، قوانين نافذة في صلب مقوّمات الثقة بالإقتصاد اللبناني وتطوّره وانفتاحه وحرّية نشاطاته: الإثراء غير المشروع عام 1953، والأبنية الفخمة عام 1954، والسرّية المصرفية عام 1956، وإلغاء الضريبة التصاعدية على الأراضي الزراعية عام 1959، والحساب المشترك عام 1961، وحماية الشيك عام 1961.
- قدّم كذلك اقتراحات قوانين تقع في صلب مقوّمات بناء مجتمع لبناني مدني عادل يخضع لأحكام القانون والمساواة في الحقوق والواجبات: إعدام القاتل عام 1959، وتمكين المحامي من الحضور مع موكّله أمام قاضي التحقيق العسكري عام 1971، وتحديد الحالات التي يجوز فيها تكليف الجيش حفظ الأمن الداخلي عام 1972، ومنح المحاكم المدنية وحدها اختصاص النظر في جرائم المطبوعات وإلغاء التوقيف الإحتياطي عام 1974.
ولعلّ أفضل مظاهر افتخاره بما قدّم للتشريع اللبناني هو قانون السرّية المصرفية.
عندما انتخب نائباً عام 1953، تذكّر أن سويسرا لم تتعرّض لغزو الجيش الألماني بفضل قانون سرّية المصارف الذي مكّنها من المحافظة على حيادها. عامذاك خطر له استعارة وظيفة سويسرا للبنان، إذ وجد أن مصلحة هذا البلد تكمن في أن يصبح سويسرا الشرق. بعد أشهر قليلة من انتخابه نائباً للمرّة الأولى عام 1953، تقدّم باقتراح قانون للسرّية المصرفية لم يصوّت عليه مجلس النواب إلا عام 1956. لكنه اعتبر هذا القانون أحد أهم اقتراحاته وسبباً في ثروة لبنان وازدهاره في السنوات التالية. عندما وضعه كان عدد المصارف العاملة في لبنان 35. بعد عقود، وبفضل القانون الذي أنشأ امتيازاً كبيراً للإيداع وحمايته ولحركة نقل الأموال واستثمارها بين لبنان والخارج، صار عددها 65 مصرفاً عام 2000.
عام 1947 زار لوزان في سويسرا، في مهمة تتصل بمعاملة قانونية مع أحد عملاء مكتبه في بيروت. في أثناء انتظاره له في الفندق، وقعت يده على منشور سياحي لفتته فيه عبارة هي الآتية: إن الذي حمى حياد سويسرا في الحرب العالمية الثانية ليس جبالها ولا جيشها، وإنما السرّية المصرفية فيها. عندها تساءل عن احتمال تطبيق هذه القاعدة التي من شأنها اعتماد النموذج السويسري في لبنان.
كان هذا السؤال كافياً لحمل الفكرة إلى بيروت والسعي إلى سنّ قانون مماثل. خطرت له لبننتها بغية تحييد لبنان في موقعه الجغرافي القديم والأكثر عرضة للتهديد والإعتداء، على تخوم دولتين متحاربتين هما سوريا وإسرائيل، على غرار ما كانت سويسرا دولة صغيرة وضعيفة من حولها دول كبيرة وقوية تنازعت وتقاتلت في حروب طويلة في ما بينها، إلا أنها أودعت أموالها هذا البلد الصغير المحايد. هي حال لبنان الصغير والضعيف - في استنتاجه - البوابة المفتوحة بلا توقّف على الحروب الكبيرة والحروب الصغيرة ....
قانون السرّية المصرفية لصيق اسم ريمون إده، على نحو مماثل لقانون الإثراء غير المشروع "من أين لك هذا؟" الصادر بالمرسوم الإشتراعي الرقم 38 في 18 شباط 1953.
يتحدّث في الغالب عن تسع محاولات اغتيال تعرّض لها في حياته السياسية. ثلاث منها في الحرب اللبنانية، وبعضها الآخر لدوافع انتخابية كما حدث عام 1965 في جبيل. بيد أنه لم يشر مرّة إلى اعتداء كان تعرّض له خارج لبنان عام 1995 وكتم أمره، عندما هاجمه أشخاص لم يتأكد من عددهم ولا يعرفهم في أحد شوارع روما في أثناء زيارة قام بها للفاتيكان للإجتماع ببعض المسؤولين فيه. لم يسهب لاحقاً في الكلام عن هذا الحادث، لكنه كشف عنه بعد وقت لأحد أصدقائه عندما أعلمه بنجاته بأعجوبة من محاولة اغتيال لم تتبيّن له أسبابها، أكانت لدوافع سياسية أم للسرقة أم للإعتداء عليه. في ذلك الليل هاجمه الرجال وضربوه بعدما ألقوا به أرضاً، فأغمي عليه. ومن ثم نُقِل إلى أحد المستشفيات الإيطالية لإصابته برضوض في أماكن مختلفة من جسمه. لزم الصمت حيال هذا الحادث، وبرّر غيابه في حينه بإجرائه فحوصاً طبية دورية.
يوم وصل إلى باريس عام 1977، اتصل ببعض المسؤولين الحزبيين في بيروت وأبلغ إليهم أن سيمكث هناك بضعة أيام. ثم مدّد إقامته فيها لتصبح 23 عاماً لمجرّد استعادته نصيحة الرئيس المصري بعدم العودة إلى بلده خشية اغتياله.
محاولات اغتيال
في 24 أيار 1976 نجا من محاولة اغتيال تعرّض لها وهو عائد من جبيل إلى بيروت، على أثر جولة طويلة في جرود القضاء بغية طمأنة سكانها الشيعة إلى سلامتهم وإلى علاقات حسن الجوار بينهم وبين مواطنيهم السكان الموارنة الذين يدين معظمهم بالولاء له. كانوا تبلّغوا تهديدات بالقتل أو بالتهجير من بعض عناصر ميليشيا حزب الكتائب. فور علمه بها قصد بلدات في وسط قضاء جبيل وساحله متفقّداً، أو معزّياً أشخاصاً قتلوا في إطلاق نار مع مسلّحين كتائبيين. سبق هذه الجولة اجتماع عاصف في بكركي بينه وبيار الجميّل في حضور البطريرك مار أنطونيوس بطرس خريش على أثر اشتباك بين مسلحين من حزب الكتلة الوطنية وأخرين من حزب الكتائب سقط فيه قتلى من الطرفين. في طريق عودته، عند المدخل الشمالي لكسروان في منطقة نهر إبراهيم، فاجأه مكمن مسلّح بتوجيه طلقات بنادق إليه في سيارته، فأصيب في رجله اليمنى بعدما جثا في مقعده. مع أنه يحلو له القول إنه أصيب في حذائه. وما لبث، بعد عبوره هذا المكان، أن فاجأه مكمن آخر عندما تعقّبته سيارة تنقل مسلّحين آخرين حتى ضبية وأطلقت النار عليه. فنجا كذلك. في اليوم التالي نشرت الصحف صور إصابته في رجله، لتقول إن الجناة لم يطاولوا منه إلا القدم.ولكنه عثر في سيارته على فراغات 17 طلقة بندقية.
رفض تلقي العلاج في مستشفى "أوتيل ديو" في الأشرفية خشية أن يهاجمه مجدّداً المسلّحون الكتائبيون الذين اتهمهم بمحاولة اغتياله، وطلب نقله إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت الغربية، الأكثر أماناً بالنسبة إليه.
بعد أشهر تعرّض لإطلاق نار في 11 تشرين الثاني نوفمبر 1976، ثم لمحاولة اغتيال أخرى، الشهر التالي، في 11 كانون الأول ديسمبر اتهم بهما منظمة الصاعقة الفلسطينية الموالية لسورية.
كان يقول إن محاولة اغتياله في 11 تشرين الثاني 1976 نفّذها مسلّحون تابعون لزهير محسن، فأصيب في فخذه من رشاشات صُوّبت من سيارة وقفت قبالة منزله في الصنائع، وهو يهمّ بالترجّل من سيارته لدخول البيت القديم، وأصيب أيضاً مرافقه. في وقت لاحق زاره زهير محسن قبل ستة أشهر من اغتيال الأخير عام 1979 في مدينة كان الفرنسية.
في اجتماعهما في الفندق، قال لزهير محسن: "لماذا أطلقتَ النار عليّ؟".
قال: "مش أنا".
سأله: "مين؟"
قال: "الفلسطينيون".
عقّب ريمون إده: "أنت فلسطيني".
قال: "أنا فلسطيني سوري بعثي".
قال: "بصفتك رئيساً للصاعقة، وهي منظمة خاضعة للنظام السوري، أمرتَ بإطلاق النار عليّ لأنني الرئيس المسيحي الوحيد لحزب لبناني عارض دخول الجيش السوري إلى لبنان، وذلك بموجب نداء مُوجّه إلى الشعب اللبناني ومنشور في الصحف في 8 حزيران يونيو 1976".
وأضاف: "لديّ الإثباتات أن ضبّاط الصاعقة الذين كانوا يقيمون قرب مستديرة شاتيلا هم الذين نفّذوا الأوامر بمحاولتي الإغتيال على رغم وجود فرقة من الجيش السوري على بعد 200 متر من مدخل بيتي، حيث وقعت المحاولتان، ومن دون أن يتحرّك أحد منها".
ثم نصح زهير محسن بأن يحذو حذوه ويقيم في فندق. وقال: "أعتقد أن ذلك أضمن لك، خصوصاً أن مشاكلك كثيرة مع الفلسطينيين وغير الفلسطينيين".
غير أن المسؤول الفلسطيني أقام في شقة صديق له. وما لبث أن اغتيل بإطلاق النار عليه في 24 تموز 1979 بعد خروجه من المصعد، عند باب الشقة.
قبيل عيد الميلاد، في كانون الأول 1976، زاره السفير المصري في بيروت أحمد لطفي متولي ونقل إليه دعوة من أنور السادات لزيارة مصر رسمياً على جناح السرعة لأمر ضروري للغاية، بعد دعوة أولى نقلها في 18 أيلول 1976 القائم بأعمال السفارة عزّت عبد اللطيف اعتذر عن عدم تلبيتها قبل انعقاد مجلس النواب في جلسة القسم الدستوري للرئيس المنتخب الياس سركيس. وافق على تلبية الدعوة الثانية. طلب له هذه الدعوة كمال جنبلاط عندما سبقه إلى زيارة مصر ....
كان موعد السفر قد تقرّر الأربعاء، إلا أن السفير المصري حضر بعيد منتصف ليل الاثنين إلى منزل "العميد" وأبلغ إليه أنه سيسافر بعد ساعات لأسباب أمنية وحرصاً على سلامته. فكان أن طار إلى القاهرة صباح الثلثاء.
اتسمت زيارته لمصر في رفقة الأمين العام لحزب الكتلة الوطنية أنطوان أبي زيد وكرم حردان بضيافة لافتة. وضع له أنور السادات طوافة قيل إن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون أهداها إلى نظيره المصري جمال عبد الناصر للإنتقال بها. قصد في معيّة ضبّاط مصريين "أبو سنبل" والمواقع التي خاض فيها الجيش المصري الحرب العربية-الاسرائيلية عام 1973 عند خط بارليف، واستمع منهم هناك إلى وقائعها واجتياز الجيش المصري ذلك الخط. بعد عودته إلى القاهرة قابل الرئيس المصري لشكره على مبادرته.
يومذاك انتظر 45 دقيقة ريثما انتهى اجتماع أنور السادات بياسر عرفات في حديقة القصر الجمهوري. وسرعان ما قال وهو يراهما يتعانقان: "هكذا العرب. يُقبّل بعضهم بعضاً وهم يحملون في أيديهم خلف ظهورهم سكاكين". ضحك أنور السادات وتقدّم الزعيم الفلسطيني من ريمون إده لتقبيله، فتجنّبه بإشاحة وجهه قائلاً: "لا أريد مشاكل إضافية مع حزب الكتائب بسبب الفلسطينيين".
ثم خاطب أنور السادات: "لا تخليه يبوسك يا سيادة الرئيس، بتطير مصر".
تبادل ياسر عرفات وريمون إده حواراً قصيراً في حضور أنور السادات عن أحوال لبنان وموجة العنف التي تضربه بين اللبنانيين والفلسطينيين. ثم انصرف. على الأثر دارت بين الرئيس وضيفه في حديقة القصر أحاديث في مواضيع شتى تتصل بالمشكلة اللبنانية والمساعدة التي يمكن أن يقدّمها المصريون ودور سورية.
ثم سأله أنور السادات: "إلى أين تسافر بعد مصر؟".
أجابه: "سأعود إلى لبنان".
قال له: "غير ممكن. إبقَ هنا في مصر وإفعل ما تشاء".
استفسر "العميد": "هل أنا سجين عندك؟".
قال له: "لا، ليس الأمر في هذه البساطة. حياتك ستكون في خطر وأنت مهدّد بالإغتيال. لديّ معلومات تؤكد ذلك. أرسلت في طلبك إلى هنا من أجل ذلك، من أجل إبعادك عن لبنان".
ونادى على مرافقه وأمره بإحضار حقيبة جلد أخرج منها ورقة بخط اليد. ثم قال له: "هذه لائحة بشخصيات لبنانية مرشّحة للقتل. الإسم الأول هو كمال جنبلاط، واسمك هو الثاني".
وأعطاه الورقة ليقرأها، فكشفت له أسماء زعماء لبنانيين آخرين بينهم بيار الجميّل وكميل شمعون وصائب سلام وعبدالله اليافي وآخرون. كان في اللائحة 12 إسماً برسم الإغتيال.
ردّ ريمون إده أن لديه في منزله في بيروت لائحة مماثلة بخط اليد وأخرى كان أطلعه عليها كمال جنبلاط عندما زاره ليلاً قبل أسابيع، في 4 تشرين الثاني 1976، وأبلغ إليه يومذاك أن الأسماء الواردة فيها برسم القتل، ومن بينها إسماهما.
قال "العميد" لصديقه إنه يملك بدوره لائحة مشابهة وصلته أخيراً واسمه هو - أي كمال جنبلاط - الأول فيها، فعلّق الزعيم الدرزي: "لكنهم لا يتجرأون على التعرّض لي".
وأضاف ريمون إده لأنور السادات: "سبق لي أن تعرّضت لمحاولتي اغتيال قبل مجيئي إلى هنا".
أجابه الرئيس المصري: "الثالثة ثابتة".
وطلب منه مجدّداً عدم العودة إلى بيروت والبقاء في القاهرة، وقال: "أنا أؤمن لك منزلاً وحرساً وخدماً. أبواب مصر مفتوحة لك ولمن تشاء من مرافقيك على نفقة الحكومة المصرية".
أجاب: "لا أرى فائدة من بقائي وحيداً في مصر لأن هدفي هو تأليف حكومة في المنفى من الطوائف الست الرئيسية في لبنان".
ردّ بالموافقة إذا رغب في إطلاق هذه الحكومة من مصر.
عندها طلب ريمون إده مخابرة كمال جنبلاط هاتفياً من مكتب الرئيس.
في الإتصال أطلع كمال جنبلاط على الحوار الذي دار بينه وبين أنور السادات عن إمكان تأليف حكومة لبنانية في القاهرة. وطلب منه الحضور لتنفيذ هذه الخطة.
كان ردّ الزعيم الدرزي الإعتذار من صديقه عن عدم المجيء بالعبارة الآتية: "ليس في إمكاني ترك لبنان في الوقت الحاضر".
بعدما فقد الأمل، في المكالمة الهاتفية، من ملاقاة كمال جنبلاط له، أبلغ إلى أنور السادات أنه سيسافر إلى السعودية في مهمة، تفادياً للبقاء في القاهرة من دون إحراج الرئيس المصري. ولكنه ركب الطائرة إلى باريس.
بُعيد وصوله إلى العاصمة الفرنسية خابر مجدّداً كمال جنبلاط في الموضوع نفسه، فامتنع للمرّة الثانية. ثم عاود الإتصال به وبصائب سلام وكامل الأسعد، وعرض عليهم الإقامة في باريس وتأليف نواة حكومة منفى. لكنهم رفضوا.
قبل ذهابه إلى مصر راودته تكراراً فكرة تأليف حكومة في المنفى تنشط من بلد صديق للبنان، وخصوصاً من فرنسا، وتعمل من أجل وقف دورة العنف وإخراج الجيش السوري من أراضيه وإعادة بناء وحدته الوطنية وتجنيبه أي محاولة غزو قد تُقدِم عليها إسرائيل من خلال نشر جنود تابعين للأمم المتحدة.
كانت تلك المرّة الأولى التي طرح فيها فكرة تأليف حكومة في المنفى. على أنه عاود المحاولة.
في 20 آذار مارس 1984 تلقى نبيه برّي، الخارج لتوّه من مقابلة مع الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران في قصر الإليزيه، اتصالاً هاتفياً من ريمون إده الذي بادره إلى القول: "أدعوك إلى الغداء أم تدعوني أنتَ؟".
أجابه: "أنا في باريس، والدعوة عليك لأنني عندك".
بعد الظهر التقيا في مطعم اختاره النزيل الباريسي المزمن. وما أن أمسكا بلائحة الطعام لاختيار طبقيهما حتى فاجأ ريمون إده نبيه برّي بالقول: "متى انتصر النبي محمد؟".
سقط السؤال عليه كالصاعقة، وعقّب: "هل جئتَ تمتحنني في الإسلام؟".
قال له: "لا. لكن قل لي متى انتصر النبي؟".
أجابه: "عندما هبط عليه الوحي".
قال: "ما شأني بالوحي الآن؟ هناك إجابة أخرى".
ردّ نبيه برّي: "لا أعرف".
عاود السؤال، فأجابه ضيفه: "عندما دخل مكة".
قال ريمون إده: "لا يا نبيه. انتصر عندما هاجر".
باغتت الإجابة مجدّداً رئيس حركة "أمل"، الآتي قبل أكثر من شهر من انتصار كبير في معركة عسكرية في بيروت أفقدت رئيس الجمهورية أمين الجميّل سيطرة حكومته المركزية على العاصمة في ما عُرف ب "انتفاضة 6 شباط" عام 1984.
ثم وجّه إليه سؤالاً آخر: "متى انتصر الخميني؟".
قياساً على الإجابة الأولى، ردّ نبيه بّري فوراً: "انتصر الخميني عندما هاجر".
وسأله السؤال الثالث: "ومتى انتصر ديغول؟".
قال: "عندما هاجر".
حكومة منفى
عندئذ فجّر ريمون إده قنبلته أمام ضيفه بقوله: "إبقَ هنا يا نبيه. نؤلف معاً حكومة لبنانية في المنفى ومعنا وليد جنبلاط وصائب سلام".
ردّ نبيه برّي: "يا عميد نحن في حاجة إليك في بيروت كزعيم مسيحي ووطني مخلص، ومستعدون للإلتفاف من حولك ونمشي معك من أجل إنقاذ هذا البلد الذي ينبغي ألا نتركه. وأنا أتمنى عليك العودة إلى لبنان".
قال: "تعرّضت حياتي للخطر أكثر من مرّة".
عقّب: "حياتنا كلّنا معرّضة للخطر. أما إذا كنتَ تقصد السوريين باتهامك، فأنا على استعداد لأن أحمل إليك ضماناً لسلامتك في لبنان من الرئيس حافظ الأسد بالذات، إذا قرّرت العودة إلى لبنان".
لم يُبدِ حماسة، مذكّراً أيضاً بمحاولات الإغتيال التي تعرّض لها.
قال له نبيه برّي: "يا عميد أنتَ تجعل نفسك واحة سياسية، لكنها لا تكفي الصحراء اللبنانية كلها. من المستحسن أن تعود إلى لبنان".
عندها أنهى "العميد" حواراً عبثياً في مسألة يقاربها متحدّثان متباعدان تماماً في وجهتي النظر، قائلاً: "أرجع إلى لبنان بشروطي. عندما يخرج الإسرائيليون ثم الفلسطينيون ثم الإيرانيون ثم السوريون".
إذذاك توقّفا عن الحوار بعدما بدوا في صدد سجال سياسي ساخن عندما علّق نبيه برّي قائلاً: "عندما يخرج هؤلاء جميعاً، يكون في إمكان أي إنسان أن يصير رئيساً للجمهورية ويحكم".
اكتفيا بالغداء وبأحاديث أخرى. وكانت هذه المرّة الأخيرة التي يلتقي فيها الرجلان.
يحدوه في استعارة فكرة تأليف حكومة في المنفى نجاح تجربة القومندان شارل ديغول الذي لجأ في ظلّ الإحتلال النازي لفرنسا إلى لندن وألّف من هناك مقاومة "فرنسا الحرّة" بتأييد من الحلفاء، وعاد ظافراً إلى باريس بعد انتصارهم في الحرب العالمية الثانية، ليقود بلده إلى السلام. على أن حكومة كهذه تتطلّب زعماء من طوائف أخرى تدعم المجازفة الخطرة التي ستُواجَه بنزاع مع الشرعية الدستورية برئاسة الياس سركيس وحكومته الوطنية، تؤيده الجبهة اللبنانية وسورية التي كانت تخوض مواجهة مع مصر الساعية إلى إيجاد موطئ قدم في لبنان تنافس به النفوذ السوري.
كان قد قال لكمال جنبلاط وهو يستعد للسفر إلى مصر: "أنا وأنتَ ضدّ الإحتلال السوري. فلنذهب معاً إلى مصر ونؤلف حكومة في المهجر. وإذا لم ينجح ذلك نذهب إلى باريس ونشكّل حكومة هناك. لا نستطيع أن نفعل شيئاً هنا في لبنان". لكن الزعيم الدرزي رفض.
في 16 آذار 1977 اغتيل كمال جنبلاط. بعد ساعات قال ريمون إده في رثاء صديقه القديم إن الديموقراطية في لبنان في حداد. حدس كمال جنبلاط بموته في الساعات السابقة له عندما أبلغ إليه أحد مرافقيه أنه أبصر مناماً مزعجاً فقد فيه عزيزاً عليه لم يعرفه. على غرار الموت المأسوي لجدّه الثاني سعيد جنبلاط الذي قضى قتلاً بالسمّ في سجن عكا عام 1861، وعلى غرار والده فؤاد جنبلاط قائمقام الشوف الذي اغتيل قرب بلدة عنبال عام 1922، وكذلك على غرار شقيقته ليندا التي قُتِلت في 27 أيار 1976 باعتداء نفذّه مسلّحون هاجموا منزلها في بدارو.
حتى الأيام الأخيرة التي سبقت غيابه، لم يسمع أحد من زوّار ريمون إده اعتزامه العودة قريباً إلى لبنان في معزل عن الشروط التي لا تعيده إليه أبداً.
غداً: اللقاء مع دين براون ومشروع تهجير المسيحيين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.