لم تنفع المقدمة التي اختارها الفنان محمد صبحي لمسلسله "فارس بلا جواد" في انتشاله من التخبط الدرامي العنيف الذي اعترى الحلقات الماراتونية، فقد جاءت اللعبة الدرامية هشة لا تحتمل كل هذه الإطالة وكل هذه التداخلات والتفاعلات للشخوص. فالمسلسل قائم على بطولات زائفة غمرتنا بها الشاشة العربية والمسلسلات الباحثة عن انتصار وهمي يخمد جذوة هزيمة عربية ساحقة. فمنذ مسلسل "دموع في عيون وقحة" لعادل امام ومسلسل "رأفت الهجان" لمحمود عبدالعزيز وأخيراً "فارس بلا جواد"، نجد ان صانعي الدراما العربية ينهضون من أحلام داخلية ليس لها علاقة بالواقع ولا بالفن ويغيب فيها الواقع الفني بماهية تقديم فكرة يمتزج فيها التاريخ بالفن. فهذه الانتصارات التي نصفق لها من خلف الشاشة هي تأكيد للهزيمة حين يجتهد العاملون في صناعة الدراما العربية لاسترضاء الحكام أو محاولة خلق توازن نفسي للشارع العربي بصناعة واقع متخيل نعيش داخله خلال عرض المسلسل ونظن أننا استطعنا اختراق العدو كما فعلت نادية الجندي في عدد من أفلامها الساذجة. هذا الاختراق الوهمي يقابله واقع اختراق حقيقي للعدو لكثير من البنى والتركيبات الثقافية والسياسية لوجودنا، ذلك الاختراق بدأ بصغائر الأشياء وانتهى باختراق الحكام أنفسهم. وحين أراد المسلسل تسجيل حال الاختراق والدراية بما يخططه الصهاينة للأمة الإسلامية، كان هناك اختراق حقيقي يكشف لنا اننا مخترقون في كل شيء، فكيف نفسر ما أثاره المسلسل من انتقادات واسعة النطاق من جانب اليهود الذين نظموا تظاهرات في الولاياتالمتحدة قبل عرض المسلسل... كيف عرفوا بهذا المسلسل وما يحمله من مضمون قبل عرضه إلا إذا كان هناك اختراق حقيقي وعلى جميع المستويات. وبالعودة الى مسلسل "فارس بلا جواد" نجد أننا نضيع الفن في مقابل الإبهار، ونفتعل الأشياء على حساب الفن أيضاً. فالمسلسل كان مهبط الأفئدة قبل عرضه بما أثاره من ضجة إعلامية وسياسية، هذه الإثارة جعلت كثراً من المتابعين يحرصون على متابعته للوقوف على الاعتراضات الاسرائيلية والأميركية على عرض مسلسل تلفزيوني لم يسبق لدولة عظمى ان ارتفعت درجة اعتراضها بمثل هذه الصيغة. لقد غاب عن محمد صبحي جلال التاريخ وسطوته، فالعبث الكتابي في مرحلة تاريخية يسقط العمل مباشرة، وسطوة التاريخ لا تترك ثغرة للكاتب كي يمازح من يريد، كلنا نذكر كيف أن التاريخ كبل كاتباً عظيماً كماركيز في روايته "الجنرال في متاهته". هناك وجد ماركيز انه يكتب تاريخاً ولا يكتب رواية فسجن داخل جدران التاريخ. لكن صبحي استهتر بالتاريخ وأراد أن يكون صبحي نفسه الذي يلعب دوراً في مسرحية اجتماعية على خشبة مسرحه في القاهرة. ومن هنا كان المنزلق الخطير للمسلسل. و"فارس بلا جواد" جاء تجييشه لأحداث حاول صبحي إخضاعها لنمطية الأفلام والمسلسلات العربية القائمة على خلق حال شعورية من نشوة الانتصار على العدو عبر اظهار المقدرة العربية على فعل شيء يعتد به، وقد تكون هذه النية محل الاحترام لو أنها قيلت كحكاية في مقهى من مقاهي العالم المنتشرة في كل زاوية والتي يقال فيها ما يقال من طق الحنك، لكن أن تتحول الى عمل فني يرضي العامة ويعمق مسيرة المغالطات الدرامية العربية مقتفياً أثر الإذاعات العربية حيال نكسة 1967 فأعتقد اننا لم نعد في حاجة الى هذه المغالطات بعد ظهور كثير من الحقائق الفاجعة. ومن كوارث المسلسل اعتماده - فرضياً - على مسودة لبرتوكولات حكماء صهيون أفتى خبراء التاريخ بأنها مزورة وليست حقيقية وبالتالي تحولت من أداة فضح الى أداة جالبة للكراهية. فنحن دائماً نردد بيقين أو بخشية أننا لسنا ضد اليهود كديانة وإنما ضد ممارسات صهيونية تستهدف وجودنا. فإذا كنا كذلك فإن مثل هذا المسلسل يضعنا مرة أخرى على مرمى حجر من الادعاء اليهودي بأننا نعادي السامية. ثمة نقطة أخرى تتمثل في المثل الشهير اعطي الخبز خبازه ولو أكل نصفه، فمحمد صبحي ممثل بارع لكنه ليس بالضرورة كاتباً بارعاً. فالملاحظ على عباقرة التمثيل العربي محاولاتهم جمع المجد من أطرافه، فبعد مرحلة من التمثيل الجيد يتحولون الى كتبه لأنفسهم. هذه الفعلة قام بها كثيرون ممن نكن احتراماً لأدائهم التمثيلي، وحين يتحولون الى كتاب نكتشف أنهم دمى لا تجيد الرقص على حبلين، فصبحي نفسه كان راقصاً بارعاً حين كان يجسد فكر لينين الرملي، ودريد لحام كان عظيماً حين كان يجسد فكر محمد الماغوط لكنهما تحولا الى ممثلين مهزوزين حين حاولا ان يكونا كاتبين. فدريد انتهى به الأمر الى ممثل سمج ومقدم ينقصه عمق الفكرة التي أطربنا بها من خلال "كأسك يا وطن" على سبيل المثال... وصبحي أراد أن يصنع من مجده المسرحي المبني على فكر لينين الرملي مجداً كتابياً من خلال كتابة مسلسل "فارس بلا جواد"... وقد ظل المتابع للمسلسل يتنقل مع ذلك الفرد الذي كان يحارب الانكليز واليهود وكل المردة الذين يريدون اسقاط الأمة العربية الممثلة بمصر كمن يشاهد بهلواناً يقفز من حبل الى آخر للإضحاك وليس للإقناع. عبده خال