} تطور الأزياء الشبابية في أوروبا مدين للعولمة، على رغم الاعتراضات الحادة لهذا القطاع عليها. فالقرية الكونية المنزوعة الحدود، سمحت بعبور الكوفية الفلسطينية من شرق البحر الأبيض المتوسط الى دول شماله، لتتحول ظاهرة تكلل أعناق شبابها ورؤوسهم. وتصبح الحاضر الأبرز في مسيرات الاحتجاجات والرفض بمختلف توجهاتها، يمينية كانت أم يسارية. وسرعان ما حفرت الكوفية لنفسها موطئاً في عالم الأزياء، وفي عقر دار بيوت التصاميم العالمية على وجه التحديد، اي في روماوميلانو ونابولي. واللافت في الزي العربي، ان الذائقة الغربية استساغته وهي مدركة تماماً معانيه السياسية، واحتفظ في أوروبا بما يرمز اليه كشعار للفلسطيني المناضل المطالب بأرضه. ولم تنتهِ رحلة الكوفية عند هذا الحد بل دخلت نسيج المجتمع الإيطالي بخصوصياته الحميمة، وأصبحت هدية الحبيب للحبيبة وذلك التذكار الصغير في خبايا الغرف. تشهد سوق الاشمغة "غطاء الرأس العربي" تنافساً حاداً بين المصنعين والمستوردين في العالم العربي، مع انتشار أكثر من مئة نوع من الاشمغة في الأسواق العربية ويباع منها نحو 30 مليون قطعة سنوياً، الا ان الشبيبة الايطالية لا تعرف الا نوعين: واحد باللونين الابيض والاحمر والثاني أبيض وأسود. والى وقت قريب اطلق عليه اسم "العرافاتية" نسبة الى رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات، الا ان التسمية الاخيرة استقرت على "الكوفية" التي أصبحت رمزاً نضالياً للشبيبة اليسارية في بلاد "السباغيتي". ومثلما نشأت خلال العشرين سنة الاخيرة ظواهر "الهيبيز" و"الخنافس" و"البانك" و"الدارك" و"الميتلاري" و"السكين هاوس"، وما اتسمت به من ردود فعل رافضة للكثير من المظاهر الاجتماعية، فازدهرت معها ثقافة تمجد العنف، نشأت ظواهر اخرى مغايرة ومختلفة بفعل تصاعد موجة جديدة من النضال السياسي والثقافي. ومن هذه الظواهر التي بدأت تنمو وتتسارع مثل الكمأ جنباً الى جنب في الساحة الاوروبية عموماً والايطالية على وجه الخصوص، "مسرح الشارع" و"جماعات الرسوم على الجدران" و"جماعات حماية البيئة الجديدة" و"جماعات السلام"... الخ. زي عربي لرأس غربي ومن الظواهر الجديدة الشائعة وسط الشبيبة الايطالية خلال السنوات القليلة الماضية ارتداء "الكوفية" من جانب الشبيبة الاوروبية. وأصبح الزي العربي منتشراً في اواسط الشباب اليساري واليميني على السواء كرمز للرفض، اضافة الى انها بدت كقيمة ذوقية ترمي الى تصعيد عملية التحدي. ونالت في السنة الاخيرة اعجاب قطاع واسع من الشبيبة، وبرزت في شكل ملحوظ خلال اضرابات الطلاب الايطاليين الأخيرة احتجاجاً على دعوات حكومة الائتلاف اليميني الى تغيير طبيعة المناهج الدراسية لتصبح أقرب الى النموذج الاميركي. وأصبحت "الكوفية" تمثل سلوكاً جديداً للفرد، وتظهر مقدرته على تحدي أفكار النظام وطروحاته الرامية الى تغيير المجتمع وجره الى دائرة العولمة. وما عزز حضور الكوفية اشمئزاز الشاب الغربي من ممارسات مؤسسات المجتمع الصناعي الذي بدأ يتصف يوماً بعد يوم بسلوك أكثر قمعية. وذلك الى جانب رمزيتها في الوقوف ضد واقع لا يعيش فقط ازمات تطاول البنى التقليدية، وانما الهياكل الاجتماعية والثقافية والسياسية، في ظل وجود أكثر من ثلاثة ملايين عاطل من العمل، تقل أعمارهم عن 30 سنة، وتمتص عصابات المافيا و"الكومورا" الألوف منهم في ماكينتها الدموية الرهيبة، فيما تقذف المدارس والمعاهد والجامعات بمئات الألوف من الخريجين سنوياً. مراكز البيع "الكوفية" تباع عادة لدى باعة الاسواق الشعبية الايطالية في المدن والقرى. ففي روما تباع في سوق "بورتابورتيزا" الشعبي الذي يمتد الى اكثر من خمسة كيلومترات يوم الاحد، وفي الأكشاك الصغيرة التي تحيط جامعة لاسبينسا "المعرفة" وسط المدينة. وفي ميلانو تباع في سوق "فيرادي سينيكالا". وفي مدينة بولونيا في أكشاك مباني الجامعة العريقة. وفي نابولي في مركز المدينة قرب محطة القطار وعلى ضفاف خليج المدينة. وتباع في فلورنسا في ساحة سان ماركو في مقابل مبنى الجامعة وأكاديمية الفنون الجميلة. ويزور هذه الاسواق والأماكن مئات الألوف من الشباب لشراء الحاجات القديمة والمستعملة والملابس الرخيصة، والصناعات اليدوية الشرقية وتلك المقبلة من أميركا اللاتينية التي يبيعها عادة شبيبة الجامعات من الايطاليين والاجانب، للحصول على موارد تعينهم في مواصلة تحصيلهم الدراسي. وتتصدر الكوفية الأجنحة الفلسطينية التي تشارك عادة في معارض المنظمات اليسارية، إضافة الى عشرات المهرجانات الموسيقية والمسرحية والغنائية الاخرى التي تنظم عروضها في طول البلاد وعرضها. وتعتبر مؤسسة "صامد" الفلسطينية من أبرز المشاركين في المعارض المذكورة. ول"الكوفية" معنى واحد هو الفلسطيني، المناضل والشهيد والمقاتل من اجل نيل حقوقه المشروعة، ما يحمل الكثير من الشباب على شرائها بفضول يمتزج بالفرح والحب والحماسة. وأصبحت بديلاً للكثير من انواع المشالح والربطات المستخدمة لتدفئة الرقبة في فصل الشتاء. ويتراوح سعر "الكوفية" في الاسواق الايطالية بين 10 و15 دولاراً، وتصنع في احد معامل مدينة ميلانو بأنواع قطنية مختلفة وبالشكلين اللذين اشرنا اليهما. ومن ميلانو تصدر الى دول اوروبا الغربية وبعض الدول العربية، وبدأت تغزو الاسواق الاوروبية في الآونة الاخيرة صناعات هندية وتايلاندية تنافس بأسعارها الرخيصة. وريث ثوري وتعتبر "الكوفية" التي تزين أعناق الشبيبة ذكوراً وإناثاً في كل مكان، الوريث الثوري للشالات الحمر التي كان يعقدها الطلاب عام 1968 على رقابهم خلال ثورتهم التي هزت المجتمع الاوروبي بأكمله. واستخدمتها أخيراً شبيبة المراكز الاجتماعية اليسارية المتطرفة في احتجاجات مدينة جنوى في اثناء اجتماعات اقطاب الدول الصناعية حزيران يونيو الماضي بديلاً عن البزات البيض التي اعتادوا ارتداءها في اثناء احتجاجاتهم، ليتميزوا عن الجماعات الاخرى، الامر الذي اثار غضب المسؤولين الايطاليين في أجهزة الامن والشرطة ووصفوها ب"الكوفية الشيوعية". وتقول غابرييلا كسكوني، الاستاذة في قسم علم الاجتماع في جامعة المعرفة في روما ان "الكوفية غطاء غير تقليدي للرأس. فهي أكبر حجماً من الشال ويمكن لفها بأشكال مختلفة بحسب الحاجة والظرف. وهي أكثر رخصاً وتدفئ في فصل الشتاء، ويمكن وضعها على الاكتاف والرقبة في فصل الصيف فتمتص حرارة الجسد وعرقه. وهي فوق كل هذا رمز للرفض والتحدي، وتعلن وفي شكل غير خفي عن تضامن اممي مع شعب فلسطين. اشتريت اكثر من كوفية من المهاجرين الشباب الذين يقفون امام مقر المراكز الاجتماعية في حي سان لورينزو في روما، لأنها تمثل رمزاً ضد الرفاهية المادية التي يعيشها أثرياء متخمون يشكون انعدام التوازن النفسي بسبب القلق على مصائر أموالهم، وهم يشعرون باستياء من رؤية الكوفية على رقابنا، ولهذا نصر على استفزازهم. رمز حميم وتعتبر جوزيبا بيللا، الطالبة في قسم الفلسفة في كلية الآداب في جامعة المعرفة، ان الكوفية صارت في صميم الحياة الشبابية. وقالت "لم يعد من المهم الى أي شيء ترمز الكوفية، سواء الى نضالنا من أجل حقوقنا المهنية، او انها رمز لشعب اغتصبت أرضه بالقوة، لأنها أصبحت لدى الكثيرين رمزاً تقليدياً نهديه الى بعضنا بعضاً". وأضافت: "نتفنن في شرائه بألوان مختلفة. فالى الاحمر والابيض وهو السائد، احتفظ بألوان اخرى كالأخضر والابيض والازرق والابيض، والبرتقالي والابيض، اضافة الى الاسود والابيض". وأوضحت ان البعض يفرش الكوفية على سريره، او يعلقها على جدران غرفته، و"بعضنا يطلق عليها اسم الفلسطينية بدل الكوفية، وهذا له دلالة كبيرة في تعاملنا مع قضية هذا الشعب التي أصبحت لدى الكثير منا، واحدة من أعز قضايا النضال".