القطار المصفح عاد بالزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ ايل الى وطنه، عبر الحدود الروسية من دون ضجة اعلامية، بعدما دأبت الصحف العالمية على مدى 24 يوماً استغرقتها الزيارة على ملاحقة كل تحركات "الزعيم المحبوب" الذي قطع 20 ألف كيلومتر، في أطول زيارة رسمية يقوم بها رئيس دولة في العصر الحديث. لكن التغطية الاعلامية غالباً ما كانت تقتصر على نقل تفاصيل عن القطار الخاص وملابس الزعيم الكوري، وعدد القبلات التي طبعها على خدود مضيفيه. وسادت الصحافة الروسية الموالية للغرب في غالبيتها، لهجة التهكم والتبرم من ازعاجات تسببت فيها اجراءات أمنية مبالغ فيها رافقت الزيارة، كما استغلت هذه الصحافة وجود ايل للحديث عن عيوب النظام الكوري الشمالي ومساوئه، فيما لم تقم بأي محاولة لقراءة ما وراء الحدث وتحليل خلفياته، وتشخيص الدوافع الحقيقية التي حدت بالكرملين الى استقبال زعيم "منبوذ" أميركياً. وغيبت جغرافياً مسيرة ايل في القطار التاريخ الفعلي للعلاقات في هذا الجزء من آسيا. كان تقسيم كوريا إحدى الثمار المرة للحرب العالمية الثانية، وغدت الاشتباكات بين الشمال والجنوب في بدايات الخمسينات بمثابة "تمرين" على المواجهات الساخنة في زمن الحرب الباردة بين الشرق والغرب. واقتبس النظام في بيونغ يانغ الكثير من تجربة الحكم في موسكو وبكين، وان لوّنها بصيغة كورية استبدادية، ووضع عليها ختم كيم ايل سونغ الذي استثمر الصراعات في المثلث السوفياتي - الصيني - الأميركي للحصول على مكاسب من جميع الأطراف وكي يبقي "الشمس الساطعة" في بلاده من دون منازع. وبعد انهيار نظام القطبين، تخلت موسكو الروسية عن جميع الحلفاء والأصدقاء السابقين، وتنصلت من الإرث السوفياتي، بحلوه ومرّه، بل تصرفت أحياناً كأنها جمهورية موز لا يعنيها ما يجري حولها. لكن روسيا، على رغم ضعفها وهزالها، لا يمكن أن تغدو هندوراس ثانية، وهذا ما أدركته القيادة الحالية في الكرملين، فأخذت تبحث عن دور جديد. وبخلاف توقعات عدد من المراقبين، لا يرغب الرئيس فلاديمير بوتين في مناصبة واشنطن العداء، بل يريد أن يجد معادلة ترضي الغرب وتحفظ لموسكو نوعاً من الاستقلالية. وفي هذا السياق، عرضت روسيا نفسها كجسر بين الولاياتالمتحدة والدول "المارقة". ويلمح الكرملين الى قدرته على انتزاع تنازلات من "المنبوذين"، في مقابل فك عزلتهم كلياً أو جزئياً. لكن مساعي بوتين لا تجد دوماً صدى ايجابياً في واشنطن، فالولاياتالمتحدة تؤثر ان تكون الطرف الذي يقتص ويغفر كما يشاء، ومتى شاء. وفي الحالة الكورية تحديداً، فإن حصول موسكو على تعهد من بيونغ يانغ بتجميد برامجها الصاروخية، قد لا يكون مبعث ارتياح لدى البيت الأبيض. اذ ان زوال "التهديد" الكوري يسقط حجة قوية كانت تستثمر عند الحديث عن خطط اقامة الدرع الصاروخية. أي ان الولاياتالمتحدة كانت ستختلق "الخطر" الكوري، وان لم يكن له وجود.