استمرار التوقعات بهطول الأمطار على كافة مناطق السعودية    افتتاح معرض عسير للعقار والبناء والمنتجات التمويلية    مركز الفضاء.. والطموحات السعودية    حرب غزة تهيمن على حوارات منتدى الرياض    العميد والزعيم.. «انتفاضة أم سابعة؟»    الخريف: نطور رأس المال البشري ونستفيد من التكنولوجيا في تمكين الشباب    تسجيل «المستجدين» في المدارس ينتهي الخميس القادم    أخفوا 200 مليون ريال.. «التستر» وغسل الأموال يُطيحان بمقيم و3 مواطنين    بطولة عايض تبرهن «الخوف غير موجود في قاموس السعودي»    دعوة عربية لفتح تحقيق دولي في جرائم إسرائيل في المستشفيات    «ماسنجر» تتيح إرسال الصور بجودة عالية    برؤية 2030 .. الإنجازات متسارعة    العربي يتغلب على أحد بثلاثية في دوري يلو    للمرة الثانية على التوالي.. سيدات النصر يتوجن بلقب الدوري السعودي    (ينتظرون سقوطك يازعيم)    في الجولة 30 من دوري" يلو".. القادسية يستقبل القيصومة.. والبكيرية يلتقي الجبلين    بالشراكة مع المنتدى الاقتصادي العالمي.. إنشاء" مركز مستقبل الفضاء" في المملكة    أمير الشرقية يدشن فعاليات منتدى التكامل اللوجستي    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يحضر احتفالية اليوبيل الذهبي للبنك الإسلامي    أمير منطقة المدينة المنورة يستقبل سفير جمهورية إندونيسيا    «الكنّة».. الحد الفاصل بين الربيع والصيف    توعية للوقاية من المخدرات    لوحة فنية بصرية    وهَم التفرُّد    عصر الحداثة والتغيير    مسابقة لمربى البرتقال في بريطانيا    اختلاف فصيلة الدم بين الزوجين (2)    قمة مبكرة تجمع الهلال والأهلي .. في بطولة النخبة    تمت تجربته على 1,100 مريض.. لقاح نوعي ضد سرطان الجلد    Google Maps أولوية الحركة لأصدقاء البيئة    فزعة تقود عشرينيا للإمساك بملكة نحل    بقايا بشرية ملفوفة بأوراق تغليف    العشق بين جميل الحجيلان والمايكروفون!    إنقاص وزن شاب ينتهي بمأساة    الفراشات تكتشف تغيّر المناخ    اجتماع تنسيقي لدعم جهود تنفيذ حل الدولتين والاعتراف بدولة فلسطين    وسائل التواصل تؤثر على التخلص من الاكتئاب    أعراض التسمم السجقي    زرقاء اليمامة.. مارد المسرح السعودي    «عقبال» المساجد !    وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة (37) من طلبة كلية الملك فهد البحرية    ولي العهد يستقبل وزير الخارجية البريطاني    دافوس الرياض وكسر معادلة القوة مقابل الحق    السابعة اتحادية..    دوري السيدات.. نجاحات واقتراحات    الإطاحة بوافد وثلاثة مواطنين في جريمة تستر وغسيل أموال ب200 مليون ريال        اليوم.. آخر يوم لتسجيل المتطوعين لخدمات الحجيج الصحية    أمير المدينة يدشن مهرجان الثقافات والشعوب    إنقاذ معتمرة عراقية توقف قلبها عن النبض    أمير تبوك يطلع على نسب الإنجاز في المشاريع التي تنفذها أمانة المنطقة    رسمياً.. إطلاق أوَّلَ مركز ذكاء اصطناعي للمعالجة الآلية للغة العربية    سياسيان ل«عكاظ»: السعودية تطوع علاقاتها السياسية لخدمة القضية الفلسطينية    أمطار مصحوبة بعدد من الظواهر الجوية على جميع مناطق المملكة    دولة ملهمة    سعود بن بندر يستقبل أعضاء الجمعية التعاونية الاستهلاكية    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وصف "مدرسة فرانكفورت" كمحطة في تداعي الماركسية
نشر في الحياة يوم 15 - 08 - 2001

طغى انهيار الاتحاد السوفياتي الذي جرف النظرية الماركسية في طريقه، على تناول محطات التداعي الذي عصف، على صعيد نظري بحت، بأفكار كارل ماركس. هنا نضع جانباً التحديين الاشتراكي الديموقراطي والليبرالي المصحوبين بتحويلات في الواقع كان أهمها دولة الرفاه ثم الثورة التقنية، وما صحبهما من توسع للطبقة الوسطى أطاح المفهوم القديم عن البروليتاريا. ونركّز، في المقابل، على "مدرسة فرانكفورت" بوصفها اهم اسهام قدمته الانشقاقات من داخل الماركسية، والتي ظهر معظمها في اهاب اصلاح الماركسية اياها، أو وصف نفسه كذلك الماركسية النمسوية، لوكاش، غرامشي، الشيوعية الأوروبية….
قد يقال ان الاسهامات هذه كانت قابلة ان تدل على استعداد "الاشتراكية العلمية" للاصلاح واللحاق بالمستجدات. فلماذا، إذاً، اعتبارها علامات مبكرة على الانهيار؟
أولاً، لأن التجربة الحية برهنت على أن معظم الماركسيين تعاملوا مع عدّتهم الفكرية، عملياً وبمعزل عن الادعاءات، كدوغما جاهزة اكثر بكثير مما كعمل نسبي مرشح للتطوير.
ثانياً، أن سياق التطور الماركسي في أوروبا الغربية منظوراً اليه من نهاياته، يُدرج الاسهامات النقدية في اطار التداعي المتسلسل لا الاصلاح.
وثالثاً، لم تظهر ماركسية قوية، لا في اوروبا ولا، طبعاً، في معسكرها السابق، تستدخل ما توصلت اليه الاسهامات المذكورة. اما الذين يستشهدون بتجربة الشيوعية الايطالية فيجدر تذكيرهم بأن حزبها لم يعد، في غالبيته الكبرى، شيوعياً ولا ماركسياً. ف"التطويرات" الوحيدة التي امكن ادخالها على الجسد الارثوذكسي الاصلي وإن لم تكن أقل هرطقة في اتجاه معاكس هي التي ابتدأها لينين وأكملها ماو وغيفارا وغيرهما. وهذه كانت كلها محكومة بهواجس سلطوية مباشرة أكثر بكثير مما بهموم فكرية أو معرفية.
اما بالنسبة الى "مدرسة فرانكفورت" التي تعود نشأتها الى 1923 كأول معهد للدراسات الماركسية، فتبقى محطة انطلاقها في 1930 - 1931: حين تولى ادارة المعهد ماكس هوركهايمر. وهنا لا بد من ايضاحين مدرسيين:
فلا "المدرسة" تعني اتساقاً وتجانساً لدى مفكريها او في مصادرهم الكثيرة، ما خلا المصدر الماركسي منها. ولا "فرانكفورت" تعني ان اهم نتاجات المدرسة أُنتجت في تلك المدينة الالمانية، اذ كان مسرحها الولايات المتحدة التي فرّ اليها اقطاب المدرسة بعد صعود النازية في 1933.
والحال ان أهمية المدرسة تعدّت موقعها في الماركسية، ليس فقط لتمايُزها عنها، بل لأنها احتلت موقعاً لا يقل مركزيةً في علم الاجتماع الالماني الذي لم ينتج غيرها بعد ماكس فيبر وحقبته. ثم ان افكار أعلامها هوركهايمر وثيودور أدورنو وأريك فروم وهربيرت ماركوزه ولاحقاً يورغن هابرماس غدت لا تنفصل عن طروحات التيار الشبابي الذي ظهر في الخمسينات والستينات، ثم عن طروحات البيئويين والمعادين للاستهلاك و"التشيّؤ الرأسمالي" منذ السبعينات. ودائماً كان لها موقع مميز في الاتجاهات الناقدة للتنوير.
لكن يبقى ان أول ما يلفت، في هذا الاطار، بَرَم مدرسة فرانكفورت بالمرجعية الماركسية الوحيدة. ذاك ان النقد المتشائم للحضارة الذي قدمته ذكّر البعض بأوزوالد شبنغلر، الألماني الآخر الذي استقبل القرن العشرين مُنذراً ب "انحطاط الغرب"، كما ربطه آخرون بالنقد اللاحق لما بعد الحداثة. وفي القائمة الطويلة للمصادر، لا سيما عند ماركوزه، نقع على هيغل وسارتر وهوسرل وهايدغر. وباستعانة بهذا الخليط، تعززت فرضية أن تطور العلم والتكنولوجيا لا يرسّخ الا النسق التسلطي والرأسمالي القائم. وتأثر أدورنو، بصورة مميزة، بفيبر الذي رأى ان تعريف الدين، مثلاً، يمكن ان يتحصل في نهاية جهد استقصائي ما، وليس في بدايته.
ومن داخل الماركسية لكنْ بمسافة عنها اعتمد هوركهايمر وادورنو على تحليلات الهرطوقي الهنغاري جورج لوكش، اعتماد فرانز نيومان وأوتو كيرشهايمر على أعمال "الماركسية النمسوية". وعموماً توزّع اقطاب المدرسة ماركسيين هراطقة وفرويديين وفرويديين - ماركسيين وابستمولوجيين وعقلانيين وعقلانيين جدداً بل لاعقلانيين أيضاً. لكن إقرارهم غير المتحفظ بالعلوم التجريبية كان ما اعطى اهدافهم المنهجية الميثودولوجية أهمية تضارع أهمية أفكارهم ونظرياتهم. فسعوا، في الاطار هذا، الى إحداث دمج منهجي لكل انظمة البحث والتقصي في مجال العلم الاجتماعي داخل نظرية مادية للمجتمع. وكان المنوط بالانجاز المذكور التمهيد لتسهيل الاخصاب المتبادل بين العلم الاجتماعي الاكاديمي والنظرية الماركسية. وهذا، بدوره، ما وسّع الهوّة بين "مدرسة فرانكفورت" والنظرية الأم.
فمبكراً، في العشرينات، نضجت فكرة الدمج في رأس هوركهايمر المتحمس للعلوم التجريبية. فحين حل محل كارل غرونبرغ كمدير للمعهد، توسّل خطاب تسلّمه المنصب ليطرح علناً برنامج النظرية الثورية للمجتمع. وفي السنوات التالية وسّع نطاق مقاربته، وأطلق، مع ماركوزه، في 1932 "مجلة للتقصي السوسيولوجي" التي ظلت حتى 1941 تشكل البؤرة الفكرية لعمل المعهد.
اما الافكار الاساسية للمدرسة، او ما بات يُعرف ب"النظرية النقدية"، فدارت على تجسير الهوة بين البحث الملموس والفلسفة، ودمج هذين الفرعين من المعرفة في واحد. ولانجاز غرض كهذا بدا من الملحّ امتلاك نظرية للتاريخ قادرة على تحديد قوى العقل الفاعلة والكامنة في العملية التاريخية نفسها.
صحيح ان الفرضيات الاساس هي ما استمده هوركهايمر وماركوزه من تقليد الفكر الماركسي، الا أن الأمور ما لبثت أن تغيرت بسرعة تكاد تكون انقلابية. فحتى الثلاثينات كان الاثنان يدافعان عن الصيغة الكلاسيكية في نظرية التاريخ الماركسية التي يُفترض، بحسبها، أن يكون نمو القوى المنتجة الأوالية المركزية في التقدم الاجتماعي.
لكن "النظرية النقدية" مضت تعلن نفورها من الوعي الثوري للبروليتاريا بوصفه التعبير عن العقلانية المحتواة في قوى الانتاج. وهنا تكمن البذور الأولى لما غدا مع ماركوزه، في الخمسينات وخصوصاً الستينات، احلالاً للطلبة والمثقفين ووعيهم محل البروليتاريا ووعيها.
وصار عمل المدرسة محكوماً بحقائق منها ما راح الواقع يعززه بالبراهين. فتبعاً للتلاحم المتزايد بين الطبقة العاملة ونظام الرأسمالية المتأخرة، أضحت النظرية التي ترتكز على ماركس تفتقر الى طبقة او فئة بعينها. وغدت النقطة المرجعية، بالنسبة الى هوركهايمر وسائر النشاط البحثي للمعهد تالياً، مسألة الأشكال الجديدة من الدمج الرأسمالي تبعاً لصلة الرأسمالية بالانظمة التجريبية. فمجتمع الاستهلاك الجماهيري نجح في دمج البروليتاريا داخل "مساره الاستغلالي" بما يلغيها طبقةً رائدةً، هي التي تجرّدت من مقدرتها على النقض، كما يلغي تالياً صراع الطبقات محرّكاً للتاريخ.
ولئن ضمر الاستغلال الفظ والمباشر، بقي الفرد في المجتمع الحديث ضحيةً ثابتة لهجمة اجتماعية - تقنية يديرها "العقل الأداتي" الدامج للفرد والطبقة.
وهنا يستعاد الربط بالعقل العلمي - التقني نفسه. ذاك ان الاخير ليس مجرد أداة سيطرة على الطبيعة كما تصوره ديكارت، بل ايضاً اداة سيطرة على الانسان نفسه. وما التحكم التقني بالطبيعة الا الوجه الآخر للتحكم التشييئي بالانسان. فالعقل الاداتي قاسٍ ينفي ويلغي جاعلاً البشر موضوعاً له، كالبضاعة تماماً. وما عقلنة الاقتصاد في هذا السياق غير تدمير للطبيعة وبقرطة للبيئة التي تخترقها المشاريع المدينية المتضخمة، مفترسة الانسان وواعدة اياه بشيء واحد: الضبط والتوتاليتارية.
هكذا يلتغي التمييز الهيغلي فالماركسي بين الدولة والمجتمع وبين المجتمعين السياسي والمدني، لتغدو الدولة مجموعة اجهزة عامة وخاصة تطوّع الفرد وتدمجه وتستلبه.
وهذا ما يفضي اليه اتساع شبكة البيروقراطية فيطاول الشركات والنقابات والهيئات، المهني منها والاجتماعي، التي تتحول ادوات دولتية بدورها. وبذريعة المحاسبة العامة، العقلانية، تغزو الدولةُ الحياةَ الشخصية بعد العامة.
وفي لوحة كهذه تتبدى الممارسة السياسية عملاً مُسيطَراً على وجهته سلفاً، وهذا ما يوجب استثناءها، من حيث المبدأ، من قائمة البدائل الايجابية. وبمثل هذا التشاؤم التاريخي كفّت الحلقة الداخلية لباحثي المعهد، مرة والى الابد، عن موضعة نشاطها البحثي في السياسة الفعلية.
وإذ رفع التنوير ومتفرعاته ومنها الماركسية العقل عالياً، فانه لم يرفع الا المسبب بهذه الانتهاكات، أو ان العقل، كما قال ادورنو وهوركهايمر، "غدا، بعد ان قوّض الاساطير، هو نفسه اسطورة ومبدأ للتوتاليتارية".
هكذا وُضعت فلسفة التاريخ الماركسية موضع تساؤل، كما ساد الميل الى تحريرها من عبادتها ل"العقل الأداتي" ومن إيمانها بمسار تقدمي لا يقبل الانتكاس. واستناداً الى فلسفة متشائمة مستقاة من شوبنهاور وكييركغارد، دان هوركهايمر وادورنو تفاؤلية التنوير وعقيدة التحرر التدرجي للانسان في موازاة تقدم التاريخ.
لقد جاء "ديالكتيك التنوير"، عمل هوركهايمر وأدورنو المشترك، في 1944 تعبيراً عن الصدمة بالتنوير، ومن ثم اعلاءً لما اعتبره البعض تشاؤماً تاريخياً.
وقد جادل كثيرون بأن سهامه انما وُجّهت الى الوضعية التي انشأها اوغست كونت في تعيينه المرحلة الفكرية الناضجة للتطور الانساني والمساوية للفهم الوضعي او العلمي المرتكز على حقائق قابلة للمعاينة والملاحظة. بيد أن أهداف العمل المرجعي هذا أوسع وأغنى.
فعند الفرانكفورتيين ان الانظمة التوتاليتارية، أكانت في اليسار او اليمين، سيطرت على اجزاء ضخمة من اوروبا وقمعتها واشتبكت في ما بينها في حرب مدمرة. وما زاد البؤس أن الجماهير غُسل دماغها اذ حُملت على تأييد هتلر وستالين وتأكد انتفاء مقدرة البروليتاريا على ريادة تغيير يحررها من مستغليها وقامعيها. اما لماذا استطاعت هذه الانظمة التوتاليتارية ان تحرز كل هذه السلطة والنفوذ في اوروبا التي يفترض انها بالغة الاستنارة، فهو ما ردّه "ديالكتيك التنوير" الى التنوير نفسه إنما بطريقة أشد تعقيداً ومداورةً من التأويل اللاعقلاني والمتشائم.
لقد كتب أدورنو وهوركهايمر في مقدمتهما: "نحن بالغو الاقتناع … بأن الحرية الاجتماعية لا تنفصل عن الفكر التنويري"، أي أنهما لم يعارضا مفهوم العقل بذاته ولم يخرجا كلياً عليه. الا ان نقدهما ظل موجهاً الى الطريقة التي استخدم فيها تاريخياً كسلاح ناجح للسيطرة، هو المقصود به تحرير الكائنات الانسانية من كل اشكال السيطرة. ولانقاذ العقل لا بد، اذاً، من نقد اشكاله الراهنة جميعاً.
وتميزاً عن اللاعقلانية بدا العالم الحديث لادورنو وهوركهايمر مؤلفاً من نمطين من العقلانية: الاداتي والهادف أو المعياري: أولهما يمثل تفوق الوسائل على الاهداف، حيث يتم مثلاً انشاء مؤسسات كلية العقلنة من اجل انجاز اغراض غير عقلانية كلياً. والمثل الأصلح هو البيروقراطية السوفياتية التي نفذت التجميع الزراعي بمعزل عن تأثيره في السكان الريفيين، وبالتالي عن الامة ومصالحها ورغباتها. اما العقل الهادف فيُعلي أولوية الاهداف على الوسائل فيما الهدف عقلاني بذاته ولذاته.
وفي "نقد العقل الاداتي" رأى هوركهايمر أن نمطي العقلانية سبق لهما قبل التنوير ان اندمجا في العقل، فيما سيطرت العقلانية الهادفة على العقلانية الاداتية. الا أن ما أتى به التنوير يرقى الى انقلاب في هذا "الترتيب الصائب للعقل".
ولما تبدى يومذاك فشل النظريات الماركسية في ما خص سقوط الرأسمالية "الحتمي"، أكان بالنسبة الى توسع دور الدولة كمالك في المانيا النازية وروسيا الستالينية، او في اقلاع الولايات المتحدة والعالم الغربي من الكساد الكبير، بل تبدى ان استلاب الانسان، عملاً بهذه القوى، هو المرشح للنمو والازدهار، بات المهم عند ادورنو وهوركهايمر، التمسك بمنهج ماركس النقدي لا بأي من مضامين الماركسية.
وربما كان اهم ما انطوى عليه نقدهما التنويرَ ان البشر يمارسون سيطرتهم من خلال المعرفة ومن خلالها تمارَس السيطرة عليهم. وهذا انما يتحقق بفعل تقدم العلوم أساساً. وجاء استشهادهما المطول بفرانسيس بايكون بليغ الدلالة في هذا التعيين التاريخي: "فسيادة البشر تختبئ في المعرفة… الآن نحن نحكم الطبيعة بالآراء، الا اننا مستعبَدون لديها في الضرورة: لكن اذا ما شئنا ان ننقاد وراءها بالابتكار علينا ان نقودها بالعمل".
وهكذا فارادة السيطرة على الطبيعة تجعل من الملحّ اكتساب المعرفة بقوانينها، والوسيلة الوحيدة لاحراز هذا هي المحاولة العلمية. وهذا يقود الى مشكلتين: الاولى ان اولئك الذين يحتكرون التقنية هم دائماً اولئك الذين يملكون السلطة الاكبر، وهو ما يفضي الى الاستخدام الاداتي للسيطرة على الناس: "فما يرغب البشر في تعلمه من الطبيعة هو كيف يستخدمونها كي يسيطروا عليها وعلى بقية البشر".
والثانية التي تتفرع عن تزايد الاكتشافات العلمية ان الموديل التجريبي الذي تستدعيه يُفرض آنذاك على كل العلوم أكانت طبيعية ام اخلاقية. فكل بحث في علم المعرفة ابستمولوجيا يتعلق بالطبيعة، وفي مصادر وحدود المعرفة او الانتولوجيا، اي كل استقصاء للوجود والكينونة، يصير غير مهم: ف"الفكرة المطلقة" التي يمكن العثور عليها في عمل مفكرين تنويريين كبار كعمانوئيل كانط تُقارَن ب"الحيوان الطوطمي". ذاك انه "في الطريق الى العلم، يُسقط الناس أي زعم بالمعنى". فالوقائع تحتل اهمية تفوق اهمية اي شيء آخر ك "الجوهر والنوعية، النشاط والمعاناة، الكينونة والوجود".
هكذا سعى ادورنو وهوركهايمر الى اثبات التدمير الذاتي الكامن داخل التنوير. فالهدف الاساس لمفكري التنوير، عندهما، هو "تحرير العالم من الوهم، تذويب الأساطير وإحلال الهوى محلها". لكن لما صار التنوير نفسه اسطورة، اي دوغما عمياء لا تُساءل ولا تبرَر، "استأصل التنوير، في شكل عديم الرحمة، وعلى رغمه، كل أثر لوعيه الذاتي. فالنوع الوحيد من التفكير الذي يملك الصلابة الكافية لتبديد الاساطير هو في النهاية تدميري ذاتياً".
وهذه عبارة تكتسب اهميتها من أن فكرة التنوير الاساسية هي احراز الوعي الذاتي والفردية والحرية. وهذا متفرّع، بدوره، عن ديكارت في "خطاب في المنهج" وعن عبارته الشهيرة "أنا أفكر اذاً أنا موجود". وربطٌ حصري وسببي كهذا زكّاه التطور اللاحق للعلم والتقنية، نجح فعلاً في إحلال العقلانية حيث حل الدين.
فالبشر أساساً اخترعوا السحر ليحموا انفسهم من قوى الطبيعة، وهو ما تطور تدريجاً ليصير محاولة سيطرة على الطبيعة. وهكذا ثمة توازٍ مع التنوير اذ "يتخيل الانسان نفسه حراً من الخوف حين لا يعود هناك اي مجهول. وهذا ما يملي المسار التنويري في نزع الأسطرة". وبالتالي يكمن الشبه الجوهري بين الاسطورة والتنوير في المحافظة على الوضع القائم: ف"الميثولوجيا تملك جوهر الوضع القائم: الدورة، المصير، السيطرة على العالم" فيما التنوير يجذب الناس الى "التطابق". وفي المعنى هذا كانت النازية تتويج هذا التراكُب بين البدائي والتنويري.
ثم، وعلى عكس ماركس او هيغل، فإن هوركهايمر وادورنو لم يعتبرا الديالكتيك مغلقاً، بمعنى ايلولته الى حصيلة نهائية يمكن استشرافها.
فأدورنو وصف الديالكتيك المغلق بأنه علامة على "رغبة في السيطرة على العالم" ورأى أنه لا يوجد اطلاقاً اي دليل على ان الديالكتيك يتقدم فعلاً من الجهل الى المعرفة.
وبات البرنامج الدراسي الذي يتولاه المعهد يعكس هذه التوجهات. فهو ثلاثي الأضلاع: تحليل اقتصادي للرأسمالية في طورها ما بعد الليبرالي وكان يدرّسه فريدريك بولوك، وتقصٍّ سوسيو - بسيكولوجي لتلاحم الافراد من خلال عملية التشريك Socialisation يدرّسه إريك فروم، وتحليل ثقافي لآثار الثقافة الجماهيرية، يركّز على صناعة الثقافة الصاعدة يدرّسه ادورنو وليو لوينثال.
على ان التغير طاول ايضاً تصور "النظرية النقدية" لدورها واهدافها السياسية. فخلال الثلاثينات وعلى رغم الانكفاء امام الفاشية، ظل رموز المعهد يجمعون على ان في وسع فكرة الثورة توفير خلفية غامضة للفهم السياسي الذي اعتمدوه في النظر الى مهماتهم. فهوركهايمر كان لا يزال يتصور العمل البحثي للمعهد شكلاً من النشاط الفكري الذي يرتبط، على نحو او آخر، بالحركة العمالية. كما تمسك طويلاً بتصور ايجابي عن السيطرة على الطبيعة كشرط للتحرر، يتيح لقوى الانتاج التخلص من الشكل الرأسمالي في التنظيم.
لكن حينما أخلت وجهة النظر التي تشتق "التقدم" من الانتاج مكانها لنقد "العقل" الذي كان دائماً مركزياً في "التقدم"، طُرحت علامات الاستفهام على مبدأ تغيير العلاقات الاجتماعية من طريق الثورة السياسية.
وبدا ادورنو الأشد تعبيراً عن هذا الطور الجديد للنظرية النقدية. ففكره كان الاكثر اتساماً بالتجربة التاريخية للفاشية بوصفها النتاج الكارثي للحضارة. وهذا ما جعله الاكثر تشكيكاً بأفكار المادية التاريخية عن "التقدم".
كذلك تأثر تطوره الفكري بالاهتمامات الفنية حتى تنامت لديه، من مواقع ثقافية بحتة، شكوك بالعقلانية الضيقة للتقليد النظري الماركسي. ومن خلال صلته بالناقد الالماني الشهير والتر بنجامين، وهو من أوائل الذين حاولوا تحرير الماركسية من ميكانيكيتها وفتحها على آفاق الحرية، اجرى محاولاته الاولى لتحويل المناهج الجمالية في التأويل مناهج مفيدة لفلسفة مادية للتاريخ.
وهنا ايضاً جاء "ديالكتيك التنوير" تعبيراً عن التوجه "الحضاري" الجديد: فالتوتاليتارية لا يمكن تفسيرها كحصيلة صراع بين قوى الانتاج وعلاقاته بل بوصفها تنبثق من دينامية داخلية لتشكل الوعي الانساني. وانفصل ادورنو وهوركهايمر عن الاطار الذي توفره نظرية الرأسمالية وافترضا عملية الحضارة ككل وكنظام مرجعي تقوم محاجّتهما عليه. وفي السياق العريض هذا ظهرت الفاشية مرحلةً تاريخية اخيرة في "منطق التفسخ" الكامن في الشكل الاصلي لوجود الانواع نفسها.
اما عملية "الحضارة" التي حلّت محل "الانتاج" فتتخذ شكلاً لولبياً في تحويل المجردات الى ماديات، هي التي انطلقت مع النشاطات الاولى في اخضاع الطبيعة لتبلغ نتيجتها المنطقية مع الفاشية.
وفي هذا الاطار استُبعدت الاطروحة الماركسية عن "البنية الفوقية" الملحقة بالتحتية، ورفض الفرانكفورتيون ان يروا في البنى المعيارية كالفنّ والدين والقانون والاخلاق مجرد استطالات ايديولوجية فوقية، مؤكدين ديناميتها الذاتية كمحل تموضع للعلاقات الانسانية المتبادلة. فالفن، مثلاً، قابل لأن يكون اداة لتضليل "الوعي الجماهيري" حين يكون "صناعة ثقافية"، لكنه قابل ايضاً أن يحمل الوعد بتغيير العالم. والنقد هذا كثيراً ما استعيد أخيراً، ومن مواقع رجعية في الغالب، ضد المنتوج الثقافي الاميركي.
والحق ان الحيرة صبغت احكام الكثيرين ممن تناولوا مدرسة فرانكفورت، ومناهضتها الراسخة للاستبداد: فهل هي دعوة ليبرالية جديدة ولو انطلقت من الماركسية "الديموقراطية المؤلمة تبقى خيراً من أية ديكتاتورية" يقول هوركهايمر، أم هي تجديد للزخم الثوري والتغييري في الماركسية بعيداً من الانحطاط الستاليني واعادةَ اعتبار لماركس الشاب؟
أغلب الظن ان الرغبتين لازمتاها بما اضعف نسبتها الى كل من الليبرالية والماركسية، وخصوصاً الى السياسة. فخلال فترة نفيهما في نيويورك ساهم فرانز نيومان وأوتو كيرشهايمر في عمل المعهد من طريق بحوث كرست تلك المسافة، ودارت حول النظرية القانونية ونظريات الدولة. كما طرحا تحليلاً للفاشية تتفوق طاقته التأويلية على النظرية التي تعاملت معها كرأسمالية دولة.
فقد اقرا بأن الاندماج الاجتماعي لا يحصل ببساطة عبر التحقيق المتواصل وغير الواعي للضرورات الوظيفية في المجتمع، بل عبر التواصل السياسي مع المجموعات الاجتماعية. وكانت مشاركتهما النشطة في الصراعات التي ميزت جمهورية فايمار قد قادتهما مبكراً الى تقويم واقعي ل"نُسب سلطة المصالح الاجتماعية"، فرأيا ان احتياطي السلطة التي تنبثق وتتطور لدى خصوم الرأسمالية من السيطرة الرأسمالية الخاصة على وسائل الانتاج احتياطي ضخم. واخيراً ساعدتهما إلفتهما مع "الماركسية النمسوية" على ادراك ان الانظمة الاجتماعية ككل تتميز بالمساومة، بما يوحي ضدية كاملة مع نظريات الصراع الطبقي: فالبنى المؤسسية للمجتمع ينبغي فهمها كاتفاقات عارضة يتم التوصل اليها داخل المجتمع ما بين شتى مجموعات المصالح، وذاك تبعاً لاحتياطي القوة الذي يتمتع به كل منها.
وهنا كمنت بذور الاولوية التي منحها لاحقاً هابرماس ل "الحوار الديموقراطي" بوصفه الأداة الوحيدة للافلات من "الوهم التكنوقراطي" ولمد جسر التوسط السياسي بين التقنية والارادة الانسانية.
وبكلمة، شكلت هذه المقاربة "الحضارية"، بدل "الانتاجية"، ضربة موجعة للجسم النظري الارثوذكسي كائناً ما كان نصيبها من الخطأ والصواب.
* كاتب ومعلّق لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.