كنت أستاذاً لمادة الرياضيات في احدى مدارس بيروت، وقتها كنت سعيداً، ولا أدري الى الآن من أين كانت تأتيني تلك السعادة وأنا موظف "كحيان"، درجة ثالثة، بمعاش ضئيل، لعل الحياة وقتها كانت أكثر عفوية، تعطينا أكثر مما تأخذ، على خلاف أيامنا هذه التي تجردنا من كل شيء حتى من أنفسنا. سافرت الى الخليج لتحسين وضعي المادي، بمعاشٍ مغرٍ يزيد من سعادتي. وعملت موظف حسابات في احدى الشركات الكبرى، وأنتجت مالاً وفيراً سمح لي بتأسيس شركة خاصة صارت من أهم الشركات في المنطقة. وقررت ان أختار شريكة حياتي. فاخترت سعاد. كانت حلمي الأول، وحبي الأول. وتحولت الى هدفٍ أسعى وراءه بعد رفضها لي عندما كنت موظفاً عادياً. وكان مؤكداً ان ترضى بي بعدما أصبحت رجلاً فوق العادة. هل أحبتني فعلاً؟ لا أدري. كان سؤالاً يخطر ببالي مراراً. إلا انه بات لا يعنيني. فأنا وهي سعيدان، والسلام. وأنجبت أول طفل، أول فرحة. شعرت في حينه أنني أغنى رجل في العالم، ليس بالمال الذي أنتجته بل بالطفل الذي أنجبته. وعدت الى لبنان. كان لا بد من أن أعود ليتعرف ابني الوحيد على موطنه، على أرضه. واشتريت بيتاً كبيراً بحجم أحلامي السابقة، يوم كنت فقيراً. واشتريت المدرسة التي كنت أعلم بها. كنت في غاية السعادة يومها. شعرت انني اشتري حلماً لطالما راودني. هل المال قادر على تحقيق كل أحلامنا؟ لقد اشتريت كل أحلامي، حققتها كلها، لكنها نفدت قبل ان ينفد العمر... ماذا أفعل؟ هل نحن بحاجة الى حلمٍ نعيش من أجله حتى نبقى سعداء؟ صرت أفتش عن شيءٍ يشغلني، يقلقني، شيء أجري وراءه. وقررت ان أترشح الى عضوية مجلس النواب. قررت أن أصبح نائباً في البرلمان اللبناني. وترشحت فعلاً، إلا انني لم أوفق. كان يلزمني ان أتعرف على عالمٍ جديدٍ كنت أجهله تماماً. وتمكنت في السنوات الأربع اللاحقة من أن أدخل اللعبة السياسية، وترشحت، ونجحت.صرت أشارك في المؤتمرات، والندوات، والحفلات التي يقيمها أهل الحكم. صرت واحداً منهم، صرت من أصحاب القرار. وبدأت الصحافة المرئية والمسموعة والمكتوبة تلاحقني. كل يوم تصريح وتأييد وكلام، لا شيء سوى الكلام. أسست جمعية خيرية أكسب من خلالها حديث الصحف. وأسست نادياً ثقافياً أؤمن من خلاله إطلالة تلفزيونية. ودعمت أحد الأندية الرياضية المعروفة لأكسب جمهور الرياضيين، ونادياً للأطفال، وجمعية لدعم حقوق المرأة، وواحدة للعجزة وأخرى للمعاقين. وبذلك أمنت بقائي داخل الندوة البرلمانية لسنوات كثيرة. بعد ذلك بدأت أشعر بالملل، الملل من كل شيء، من اللقاءات، من الاستقبالات، من المقابلات، من هموم الناس، من نفسي. ماذا أفعل حتى أعود سعيداً؟ أصبحت وزيراً، عينت سفيراً، عدت فقيراً! أصبت بمرضٍ خطير عجز عن تحديده الأطباء. سافرت الى باريس، الى لندن، الى أميركا. لم يستطع أحد تشخيص حالتي، صار طيف الموت يلاحقني. صرفت كل أموالي لقاء ان أعرف سبب مرضي، دفعت ملايين كثيرة. فقدت أي طعمٍ للسعادة، حرمت من كل ملذات الحياة، السفر والسهر والنوم والأكل. صار طعامي جرعات يومية من الأدوية، وساعات أيامي دقائق من ملل. وبت لا أحلم بشيء. بيروت - نديم منصوري