المثقفون ليسوا الأكثر تأثيراً في ثقافة الناس في عالمنا العربي اليوم، وربما يتضاءل تأثيرهم الى الدرجة الصفر، في مقابل شخصيات ومؤسسات طاغية تبثّ الأفكار ومفاتيح الكلام وتوجهات العواطف وأولويات العقول. ويكاد مثقفونا ينحصرون في الجامعات ومراكز الأبحاث. والجامعات عندنا معزولة تكاد تشكل عبئاً على موازنة الدولة أو على موازنات أهالي الطلاب، ولا يجد خريجوها مجال عمل إلاّ بعد السفر الى الغرب الأوروبي والأميركي وانقطاعهم عن الوطن الأم. أما أساتذة الجامعات والباحثون في المراكز فقلّما يخرج عملهم عن دائرتي خدمة الطلاب أو خدمة الصحافة، وإذا خرج فإلى استشارات عابرة يقدمونها الى أصحاب القرار في الدولة، مجرد استشارات للاستئناس ولا تلزم. وإذا كانت الجامعات ومراكز الأبحاث، كمقرّ للمثقفين، معزولة عن صاحب القرار في الدولة، فهي أكثر عزلة عن جموع الناس في بيوتهم ومراكز عملهم وتسليتهم وجملة يومياتهم. ليس المثقفون مؤثرين في الناس. لكن للناس ثقافتهم المتحركة، يأخذونها من مصادر أخرى فاعلة يغلب عليها الطابع الاقتصادي أو الأمني أو الايديولوجي. وفي مقدم المؤثرين زعماء العشائر والأحزاب والحركات العشائرية، ورجال الدين أيضاً، خصوصاً خطباء المساجد. كما نجد حضوراً طاغياً للحاكم عبر وسائط خدمات الدولة وسيف رجال الأمن. ويتنامى منذ حوالى خمس سنوات التأثير الثقافي للفضائيات بعدما أصبح التلفزيون يشغل من أوقات الناس ما يزيد على وقت العمل والحديث مع الأهل والأصدقاء. الطابع العام لتأثير القوى المذكورة محافظ وشعبوي، فلا الزعيم ولا رجل الدين ولا الحاكم ولا التلفزيون يقدمون مادة ثقافية تصدم ما تعارف عليه الناس وألفوه واستأنسوا به واعتبروه من أساسيات التوازن الوجداني. وحتى المقاومة عندنا ترتكز الى ثقافة محافظة وتعتبر التحديث أمراً مشكوكاً فيه لأنه يطاول أعرافاً وتقاليد مستقرة تستند اليها المقاومة ضد المحتل الغريب. هكذا يمكن للحداثة ان تحمل شبهة العدوان ولكن من الداخل. ان العدو في عرفنا السائد يبقى عدواً ثابتاً أبداً، بل تحتاج مشاعر العداوة الى تجديد نبحث عن مسوّغاته فنجدها في العنف القائم أو في التخويف من عنف آتٍ. وبغض النظر عن دور العدوانية الاسرائيلية والتصلب الصهيوني الذي لا يطيقه بشر، فإن أزمة السلام في الجانب العربي ترجع الى أن السلام يتطلب صدمة ثقافية لا يستطيعها ولا يرتضيها المؤثرون في ثقافة الجموع عندنا. والملاحظ ان الثقافة الشعبوية العربية تميل الى الرئيس صدام حسين بعدما كانت تميل الى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وكلاهما مع فارق لا بد منه حمل الخسارة الى شعبه والعرب. في حين ان هذه الثقافة الشعبوية لا تلحظ أبداً زعامات وشخصيات رصينة تغلّب المصلحة على المغامرة والتعقل على الطيش والمسؤولية على الأنانية، وتطلب للعرب سلاماً يستحقونه قبل أن يستحقه الآخرون، وتشترط لهذا السلام الديمومة على قاعدة العدل. كل مثقف عربي هو مثقف هامشي، طالما عرب اليوم لا يرغبون بالنقد أو بالتغيير، وطالما هم يأنسون الى شعبوية ثقافية يتمسكون بها حتى الخسارة، خصوصاً الخسارة.