نائبة رئيس جمهورية أوغندا تصل الرياض    فيلكس يواصل صدارة الهدافين    جامعة طيبة تحصل على اعتماد دولي من الجمعية الأوروبية للضيافة والسياحة    انطلاق القمة العالمية للبروبتك    100 مشروع ريادي لنهائي الكأس    تعزيز الشراكة مع إيطاليا    تقدم في مسار المصالحة الفلسطينية.. توافق على قوة حفظ سلام بغزة    سائح يعيد حجارة سرقها من موقع أثري    «إياتا» تضع قواعد جديدة لنقل بطاريات الليثيوم    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على هيفاء بنت تركي    الديوان الملكي: وفاة صاحبة السمو الأميرة هيفاء بنت تركي بن محمد بن سعود الكبير آل سعود    صدارة آرسنال في اختبار بالاس.. وسيتي ضيفاً على أستون فيلا    بعثة منتخب منغوليا تصل إلى المملكة للمشاركة في بطولة العالم لرياضة الإطفاء والإنقاذ 2025    تنافس قوي بين كبرى الإسطبلات في ثاني أسابيع موسم سباقات الرياض    بحضور أمراء ومسؤولين.. آل الرضوان يحتفلون بزواج عبدالله    مسؤولون ورجال أعمال يواسون أسرة بقشان    غرم الله إلى الثالثة عشرة    ولي العهد يُعزي رئيس مجلس الوزراء الكويتي    بيع 90 مليون تذكرة سينما ب 5 مليارات ريال    الذكاء الاصطناعي يعيد الحياة لذاكرة السينما بمنتدى الأفلام    أمير منطقة حائل يرعى حفل افتتاح ملتقى دراية في نسخته الثانية    116 دقيقة متوسط زمن العمرة في ربيع الآخر    367 موظفا جديدا يوميا بالقطاع الصحي    ولي العهد يُعزي هاتفياً رئيس الوزراء الكويتي    غياب البيانات يعيد بريق الذهب والفرنك السويسري    النصر يتخطى الحزم بثنائية ويواصل صدارته لدوري روشن السعودي للمحترفين    انطلاق مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار».. غداً    سرقة العصر أو البلاشفة الجدد في أوروبا    إدانة سعودية عربية إسلامية لفرض ما يُسمى ب «السيادة الإسرائيلية» على الضفة الغربية    %90 من وكالات النكاح بلا ورق ولا حضور    شرطة الرياض: تم -في حينه- مباشرة واقعة اعتداء على قائد مركبة ومرافقه في أحد الأحياء    السيسي يلتقي رئيس أركان القوات البرية الباكستانية    موجات مغناطيسية سر حرارة هالة الشمس    أسهم الذكاء الاصطناعي تواصل الصعود    واجهة جيزان البحرية.. مرايا الجمال وأنفاس البحر    المخرج والبوستر ثنائي ينعش مبيعات السينما السعودية    "الشؤون الإسلامية" تطلق برنامج "تحصين وأمان"    صراع الحداثة والتقليد من الأدب إلى الملاعب!    الAI يقلص العمل ليومين أسبوعيا    خطيب المسجد الحرام: لا بد أن تُربّى الأجيال على هدايات القرآن الكريم    إمام المسجد النبوي: معرفة أسماء الله الحسنى تُنير القلوب    النوم مرآة للصحة النفسية    اكتشاف يغير فهمنا للأحلام    "تخصصي جازان" ينجح في استئصال ورم سرطاني من عنق رحم ثلاثينية    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالريان ينهي معاناة مراجعين مع ارتجاع المريء المزمن بعملية منظار متقدمة    تدشين توسعة خدمات «القلب» بمجمع الملك عبدالله    الرياض تستضيف الجولة الختامية من بطولة "لونجين العالمية" لقفز الحواجز    رصد مذنب «ليمون» في سماء القصيم    التعادل الإيجابي يحسم مواجهة الشباب وضمك في دوري روشن للمحترفين    رئيس موريتانيا يزور المسجد النبوي    "تعليم جازان": تطبيق الدوام الشتوي في جميع المدارس بدءًا من يوم غدٍ الأحد    ضبط 23 شخصا ساعدوا المخالفين    «هيئة العناية بالحرمين» : 116 دقيقة مدة زمن العمرة خلال شهر ربيع الثاني    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على هيفاء بنت تركي بن سعود الكبير آل سعود    دوائر لمكافحة «الهياط الفاسد»    احتفالية إعلامية مميزة لفريق "صدى جازان" وتكريم شركاء العطاء    نائب أمير نجران يُدشِّن الأسبوع العالمي لمكافحة العدوى    أمير منطقة تبوك يواسي أسرة القايم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التنافس الانتخابي الاسرائيلي : الاقتراع للماضي أو الرهان على المستقبل
نشر في الحياة يوم 05 - 02 - 2001

يعاند رئيس الحكومة الاسرائيلي المستقيل ايهود باراك كل استطلاعات الرأي التي تشير الى احتمال فوز منافسه الليكودي ارييل شارون. ويراهن على "صحوة ضمير" للناخب الاسرائيلي ستظهر، برأيه، في يوم التصويت 6 شباط/ فبراير. فباراك المستقيل، والطامح، لا يصدق ان الاستطلاعات المتكررة تؤكد على فارق يتراوح بين 16 و20 نقطة لمصلحة منافسه، ويراهن على امكانات تراجع الناخب الاسرائيلي عن تطرفه ويقبل به كمناور فاشل في مختلف الحالات يقبل علناً بمبادئ السلم ويتردد فعلاً في دفع كلفته السياسية الانسحاب، ازالة المستوطنات، وقف "تهجير" اليهود، التنازل عن الجزء العربي من القدس، وعودة الفلسطينيين الى ديارهم.
والسؤال ماذا يقصد باراك برهانه على "الصحوة" الاسرائيلية المفترضة؟ كل المؤشرات تؤكد أن أفضل نتيجة يمكن أن يحققها زعيم حزب العمل المستقيل هي خفض الخسارة من 16 و20 نقطة الى 6 و10 نقاط، وهي نسبة كافية لكسر التردد الحاصل وترجيح كفة التطرف على التشدد. فالمسار الاسرائيلي مال تاريخياً من تشدد الى تطرف ومن التطرف الى مزيد منه. فطبيعة المجتمع القائمة على فكرتي الاستيلاء على الأرض واستقدام المهاجرين وتوطينهم أدت مع الزمن الى سيادة العقلية الاستيطانية على المصالح السياسية، وغلبة المزاج الاستيلائي على نزعة التفاوض التي يمكن أن تفتح باب التعايش بين التاريخي واللاتاريخي أو بين شعب مغلوب وكتلة غالبة.
رهان باراك، إذاً، ليس في محله. فهو لا يعاند الاستطلاعات فقط، بل يكابر على التحولات السياسية للكتل الاستيطانية ودورها المتزايد في الضغط على الدولة وفرض خيارات استراتيجية أكثر تشدداً في رفض المساومة أو القبول بالحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية والمطالب العربية.
وإذا نظرنا الى التاريخ البعيد نسبياً نجد أن نزعة التشدد تأتي دائماً عقب مواجهات سياسية أو خلال انتفاضات شعبية. فانتفاضات العشرينات لم توقف مشروع الاستيطان، بل زادت من تأييد بريطانيا آنذاك للفكرة الصهيونية وقامت بتسهيل كل السبل لتأسيس عناصر دولة ستعلن لاحقاً. وتكرر الأمر في انتفاضات الثلاثينات، وصولاً الى الأربعينات وقيام "الدولة الاسرائيلية". فمشروع الدولة لم يأت من طريق التفاوض بل فرض بالقوة اعتماداً على معادلات دولية نجحت في كسر التوازن الداخلي الفلسطيني بالتدريج، ودائماً لمصلحة الطرف الصهيوني في بداية التأسيس ثم الاسرائيلي بعد تأسيس الدولة.
واذا نظرنا الى التاريخ القريب نجد أن نزعة التشدد ترافقت مع موجات هجرة اليهود السوفيات في لحظة انفجار انتفاضة نهاية الثمانينات ولم يستقر التهجير الجديد ليهود المعسكر الاشتراكي إلا بعد تطويق الانتفاضة الأولى في فترة تقوض الاتحاد السوفياتي وتداعي معسكره في أوروبا الشرقية بينما بلغت الانقسامات العربية حدها الأقصى على اثر حرب الخليج الثانية.
لا شك في أن الانتفاضة الحالية تسير في سياقات مختلفة. فالتهجير من أوروبا الشرقية توقف عند حد معين وكذلك بات من غير المعقول دولياً قبول هجرة يهودية جديدة في وقت ترفض اسرائيل الموافقة على عودة الفلسطينيين الى ديارهم بذريعة ان مساحة الأرض ضيقة والمياه غير كافية لتلبية حاجات الناس. إذاً هناك ما يشبه التوازن السلبي في المعادلة. فمن جهة تجمد ضخ المستوطنين من بقاع العالم ومن جهة لا يسمح بعودة الفلسطينيين الى بلادهم. وهذه السلبية في معادلة التفاوض على الحل النهائي تفسر ظاهرة عودة شارون الى الساحة السياسية من طريق التصويت الشعبي. فالخيار الاسرائيلي الشاروني يطمح في النهاية الى كسر التوازن السلبي واعادة تركيب المعادلة وفق صيغة تثبِّت الاستيلاء وتعطل تفكيكه في مقابل وقف "العودتين" الفلسطينية والاسرائيلية. وشرط الثانية المحافظة على الطابع اليهودي للدولة الغاء حقوق الطرف الأول. فالخيار الاسرائيلي ليس سياسياً، بل يطاول المخاوف اليهودية على وجود الدولة ومصيرها ومستقبلها في المنطقة. وأحياناً يلجأ الخائف الى سلوك منهج تخويف الآخر. فالناخب الاسرائيلي لا يرى أن معركته ضد باراك وحزب العمل المصالح الموعودة ويرى ان صوته الآن، ومن خلال الاقتراع ضد باراك، يجب أن يوجه ضد الآخر: الفلسطيني.
يبدو ان باراك حين بدأ حربه الانتخابية مستنداً الى تشدده في المفاوضات وفي قمع الانتفاضة لم يقرأ تحول المزاج الاسرائيلي وميله التاريخي الدائم الى التطرف من دون أن يعني انه يرجح خيار الحرب على احتمال السلم. فالناخب الاسرائيلي يريد أن يوجه رسالة سياسية الى الطرف الفلسطيني تقوم على مبدأ تذكيره بمعادلة القوة ودورها في كسر "تعادل الحقوق" او رفض العودة في مقابل وقف الهجرة اليهودية.
وللسبب المذكور يبدو رهان باراك على "صحوة الضمير" في غير محله ويفتقد للكثير من العناصر الواقعية في حال وضعنا التاريخ وحقوق الشعب الفلسطيني جانباً. وكل المؤشرات التي دلت عليها الاستطلاعات بالأرقام والنقاط هي المرجحة. ولكن الى أي حد يستطيع شارون أن يكسر المعادلة السلبية، وهل هو مطلق الحرية في فعل ما يريده؟ سؤال يرتبط الى حد كبير بالرسالة السياسية التي يريد الناخب الاسرائيلي توجيهها الى الشعب الفلسطيني كرد مباشر على الانتفاضة. تقليدياً كان الرد الصهيوني، ثم الاسرائيلي، هو المزيد من استيراد مستلزمات الدولة وعدتها من بشر ومال وقوة واحتلال. فهل تكرر اسرائيل ردها التقليدي باتباع الاستراتيجية نفسها باستيراد عناصر القوة من مال وبشر لتكريس الاستيلاء.
قبل التحدث عن خيارات شارون بين الحرب والسلم لا بد من قراءة عناصر الانتفاضة الفلسطينية مقارنة بالأولى.
انتفاضتان
حتى نصل الى توصيف للانتفاضة الراهنة لا بد من عقد المقارنة مع الأولى التي اندلعت في خريف 1987 وتوقفت من دون اعلان في مطلع التسعينات.
جرت الأولى في ظل شبه اجماع عربي على اعطاء الأولوية للمسألة العراقية وتحت سقف استمرار الحرب مع ايران. آنذاك تم تقديم مشروع حل لحرب الخليج الأولى في قمة عمان العربية. بينما كانت القيادة الفلسطينية تنتظر ان يعاد تكرار التأييد العربي الرسمي التقليدي للموضوع الفلسطيني.
جاءت الانتفاضة الأولى في سياق عزلة القيادة الفلسطينية وعجز منظمة التحرير عن وضع تصور لآلية تنفيذ برنامجها المرحلي. وقدمت الانتفاضة المبررات السياسية لإعلان الدولة الفلسطينية من الجزائر في العام 1988، واستمرت قيادة الخارج تراوح مكانها باحثة عن مخرج عبر الاعترافات الشكلية بالدولة التي انهالت عليها دولياً وعربياً.
في هذا الفضاء المضطرب انفجرت أزمة الكويت ودخلت القضية الفلسطينية في زاوية النسيان في وقت عاشت المنطقة فترة انقسامية كان خلالها الاتحاد السوفياتي ومعسكره يتداعيان سياسياً.
كانت نتائج حرب الخليج الثانية كارثية على مختلف المستويات، فهي سحقت قوة العراق العسكرية وحاصرته دولياً، وهي كرست الاستقطابات العربية واصطفاف القوى بين قابل بالتدخل الأميركي أو معارض له، وهي فرضت على القيادة الفلسطينية عزلة خانقة عززت مع الأيام نمو تيار التطبيع مع اسرائيل وقطع الرابط التاريخي - الجغرافي مع المحيط العربي.
الى الكوارث السياسية حصل ما يشبه الجفاف المالي في المنطقة كلفة الحرب واعادة اعمار الكويت ترافق مع نمو هجرة اليهود السوفيات وغير السوفيات الى فلسطين.
وتوقفت الانتفاضة الأولى في سياقات عربية ودولية مقفلة. فالوضع العربي استمر على انقسامه في ظل ارتفاع موجات التطبيع مع اسرائيل وأصوات التهويل ضد الفكرة العربية. والوضع الدولي استمر يتداعى من سيئ الى أسوأ وسط شعارات قامت على تناقض سلبي: الأول ينعي النظام العربي القديم والثاني يبشر بالنظام الدولي الجديد.
أدى الفضاء الدولي - العربي الى الضغط على القيادة الفلسطينية وتغذية تيار التطبيع مع اسرائيل بذريعة ان الخيار الإسرائيلي، لا العربي، هو البديل المتوافر لانقاذ ما يمكن انقاذه.
وتم توقيع اتفاق أوسلو على خلفية فشل الدول العربية في توحيد جهودها المشتركة في مؤتمر مدريد بدءاً من خريف 1991.
آنذاك حاولت اسرائيل الاستفادة من المناخين الدولي والعربي فاتجهت نحو الضغط على الفلسطينيين داخلياً وعمدت الى بناء المزيد من المستوطنات وتوطين آلاف المهجرين القادمين من المعسكر الاشتراكي المنهار.
وكذلك حاولت تثمير الانقسام العربي باتجاه الضغط على الفلسطينيين في الخارج من خلال اسقاط الخيار العربي ووضع الحل على سكة الخيار الإسرائيلي.
وعلى رغم الخسائر العربية الفادحة مادياً وبشرياً وسياسياً وجدت اسرائيل نفسها أمام سؤال يتعلق بوجودها ومصيرها. فالإنزال الأميركي في المنطقة طرح عليها مجموعة أسئلة لها صلة بدورها الاقليمي وموقع وكالتها. فوجود الأصيل أضعف أهمية الوكيل.
ورداً على هذه الأسئلة اتبعت اسرائيل سياسة المماطلة وشراء الوقت ضاغطة دولياً لمنع تحديث السلاح العربي وابقاء الحصار والرقابة على العراق، في وقت نجحت هي في تطوير تعاونها التكنولوجي مع الولايات المتحدة لتحديث منظومة الدفاع الصاروخية والتقانة العسكرية.
الى ذلك حاولت تعديل دورها باتجاه توسيع أهميتها الاقليمية من خلال تمديد جغرافية دائرة الشرق الأوسط لتشمل تركية وايران والجمهوريات الإسلامية الخمس وباكتسان وأفغانستان، وأرفقت تلك الاستراتيجية بسياسة تطوير تعاونها التقني والنووي مع الهند للضغط جنوباً وشرقاً على الدول الإسلامية المتعاطفة مع العرب.
نجحت اسرائيل الى حد كبير في شراء الوقت إلا انها لم تقوَ على تجديد وظائفها السابقة، في فترة أخذت الروح العربية تدب من جديد معبرة عن نفسها في تحسن نبض الشارع العربي ووصول شعارات التوطين والتطبيع وتسويق الخيار الإسرائيلي الى آفاق مسدودة.
في هذا الفضاء اندلعت الانتفاضة الثانية في 28 أيلول سبتمبر 2000 بعد عجز الراعي الأميركي عن التوصل الى فرض وصاية اسرائيلية على القرار الفلسطيني في مفاوضات كامب ديفيد. وجاءت الانتفاضة الثانية لتثير أسئلة مختلفة فتحركت في سياقات دولية واقليمية وفلسطينية مغايرة للأولى. فالوضع الدولي استقر على غلبة أميركية من دون أن تتحول، تلك الغلبة، الى قانون كاسر لكل الممانعات الأوروبية والآسيوية والعربية. فالشعارات البراقة التي انتعشت في ظل انهيار الحرب الباردة لم تعد تستهوي مختلف القوى بعد أن طالت فترة السلم البارد، وأدت في بعض مناطق التوتر الدولي الى كوارث انسانية البلقان، الشيشان، الصومال، ودول حوض بحيرة فكتوريا.
والوضع العربي المنقسم استفاق على ايقاع الانتفاضة فحاولت الأنظمة استلحاق نتائجها فأسقطت بعض الشروط السلبية وباتت تقبل ما رفضته قبل عشر سنوات، من دون ان تسقط في أوهام المهمات القومية العاجلة أو البعيدة المنال. فهي بعد أن وافقت على عودة القمة العربية الى الانعقاد في القاهرة باتت أقرب الى تخفيف التوتر بالتنسيق الثنائي أو الثلاثي. فالفضاء السياسي اليوم هو أميل الى تطبيع العلاقات العربية - العربية وليس تطبيع العلاقات مع اسرائيل. فالتطبيع العربي الآن في سلم الأولويات وهو يأتي في طليعة الخيارات الأخرى باستثناء اختراقات اسرائيلية طفيفة في دول الأطراف أو لا وزن سياسياً لها.
وأهم ما في الأمر هو تراجع "الخيار الإسرائيلي" الذي قاده خط التطبيع العشوائي وبأي ثمن، وظهور ملامح تيار يعيد ربط القضية الفلسطينية بمحيطها العربي، في وقت أخذ شعار التحرير يستعيد مكانته السابقة، بعد نجاح التجربة اللبنانية في هزيمة الاحتلال الإسرائيلي.
هذا التفاؤل لا يعني السقوط في فخ الأوهام. فالانتفاضة لا تصنع موازين القوى لكنها نجحت الى الآن في ترسيم حدود معادلات يمكن تحقيقها بعد عناء إذا نجحت في تجسير الصلة بين فلسطين والشارع العربي.
وإذا لم تتوصل الانتفاضة الى ذلك الهدف فإنها على الأقل نجحت في تحسين شروط التفاوض مع الحكومة الإسرائيلية التي أوصلت الحل النهائي الى مأزق سياسي في مفاوضات كامب ديفيد الثانية. فالتفاوض لم يعد على حدود تفسير بنود اتفاق أوسلو الغامض وتجاوز ثغراته بل انتقل الى محطة أعلى من السابق.
شارون وحربه
وبالعودة الى شارون واحتمال فوزه - الذي اكدته مختلف استطلاعات الرأي - وكيف يمكن ان يوظفه داخلياً واقليمياً؟ هناك فارق كبير بين كلام المعارضة أي معارضة وكلام الحكم. فالأول استهلاكي واستفزازي يهدف الى تجميع القوى واستقطاب كل الفئات المتضررة التي ليست بالضرورة متفقة على كل البرنامج، فالمعارضة عادة تتشكل من اطياف سياسة متحالفة يصعب المحافظة على وحدتها بعد وصولها الى السلطة وخصوصاً اذا كان هناك احتمال وجود مغامرة عسكرية غير محسوبة في خطة زعيم التحالف.
وهنا يأتي الكلام الثاني، وهو حسابات السلطة وتعقيدات الواقع. فإسرائيل مهددة بعزلة دولية تأتي من اطراف كبرى تؤيدها تقليدياً ولكنها ليست مضطرة الذهاب معها الى حرب لا يعرف مداها. والظاهر من المزاج الدولي، المؤيد لإسرائيل عادة، انه ليس في وارد تغطية مغامرة عسكرية باهظة الثمن ولا مبرر شرعياً لها. والأطراف المتعاطفة مع إسرائيل ليست في حال استعداد لتغطية معركة كبرى مبررها الوحيد هو تردد اسرائيل في تنفيذ قرارات الأمم المتحدة بسبب مخاوف لها صلة بطبيعة الدولة وتركيبها البشري القائم على الاحساس الدائم بالضعف وحاجتها الى تعويضة بجرعات التطرف وعقدة القوة التفوق. كذلك شارون ليس حراً في افتعال مناوشات جانبية تتداعى باتجاه دفع المنطقة نحو انفجار رهيب لن تكون دولته بعيدة من نتائجه المدمرة. فالحرب عادة تحتاج الى ذريعة شرعية وتغطية دولية والا افرزت معادلة سلبية تعيد انتاج الحل السياسي السابق نفسه. فتكون النتيجة الدمار من اجل الدمار وليس تعديل موازين القوى باتجاه تدوير القرارات الدولية والالتفاف على بنودها.
واذا كان خيار الحرب مؤجل وأكبر من قدرة اسرائيل على اتخاذه منفردة، فإن هناك قرارات سياسية يمكن ان يلجأ اليها شارون، بقصد ارباك المنطقة وخلط اوراقها، تحاكي تصريحاته الأخيرة عن الخيار الأردني، أو تهديد مساعده بتدمير السد العالي، وتلميح جنرالاته بتخريب بيروت. ولكن تصريحات المعارضة كثيراً ما تلامس قرارات الدولة من دون ان تتحول الى خطوات تنفيذية في لحظة وصولها للسلطة. فشارون القوي شعبياً احتمال فوزه الساحق على خصمه ليس بالقوة نفسها في البرلمان الكنيست وحزبه حلقة ضعيفة في سلسة من التحالفات المتأرجحة بين الانتهازية ونزعة التطرف اللفظي. وفي هذا المعنى تصبح تصريحات شارون اقرب الى "الفزاعة" منها الى صورة "الجنرال". فزعيم التطرف لا بد ان يجد نفسه في دائرة ضيقة تمنعه من التصرف بحرية من دون قيود محلية ورقابة دولية. وتجربة شارون ليست الوحيدة في هذا المضمار، فقد سبقه مناحيم بيغن واضطر الى القبول بالقرارات الدولية والانسحاب من سيناء، وتكرر الأمر نفسه مع اسحق شامير الذي وافق بعد مكابرة على دخول مفاوضات مؤتمر مدريد، وجاء بنيامين نتانياهو وحاول كسر طوق العزلة بالمناورة والالتفاف حول مفاوضات الحل النهائي فاصطدم بادارة كلينتون وانسحب من الساحة السياسية بعد دعم واشنطن القوي لمنافسه ايهود باراك. واخيراً جاء دور باراك ولم يكن بيده من حيلة سوى الانسحاب من الجنوب اللبناني تنفيذاً لوعد انتخابي قطعه على نفسه. وشارون ليس افضل حالاً من اسلافه فهو ورقة مكشوفة دولياً ومن الصعب تصور صدور اشارة خضراء من واشنطن تجيز له اقحام المنطقة في دوامة من الصراعات وردود الفعل على أكثر من صعيد ومكان. فشارون المتطرف لا يستطيع ان يلعب الا ورقة "الاعتدال"، كما هو حال باراك "المعتدل" الذي لعب ورقة التطرف. وعادة يكون المعتدل أقرب الى خيار الحرب لأن مختلف المتطرفين معه، واحياناً يضطر المتطرف ان يختار طريق السلام لأن مختلف المعتدلين معه.
وضمن هذه المعادلة المتناقضة يمكن قراءة تاريخ اسرائيل في حالتي الحرب والسلم. فبيغن وشامير ونتانياهو اضطروا القبول بمبدأ التفاوض بدعم من حزب العمل. وحزب العمل قاد كل الحروب الاسرائيلية بدعم من احزاب التطرف والعنصرية.
وشارون ليس استثناءً للقاعدة فهو اذا وافق على خيار التفاوض توحدت خلفه مختلف الاطياف السياسية الاسرائيلية اما اذا قرر الحرب فإن الانقسام سيكون عنوان المرحلة المقبلة. وهذا بالضبط حصل معه خلال غزوه لبنان في 1982.
الخوف الفعلي ليس من شارون المتطرف بل من الادارة الأميركية الجديدة، التي قررت تقديم 24 طوافة متطورة و200 مليون دولار قبل أيام من الانتخابات، فهي اذا اخطأت حساباتها بتجديد الحرب التي لم تكتمل في العام 1991 تكون اضعفت المنطقة من حيث لا ينفع الضعف وزادت من قوة اسرائيل الى درجة باتت القوة غير مفيدة لمتابعة مفاوضات السلام أو "مؤتمر مدريد - 2". فالانتصارات في هذا المنحى مضرة ولا تخدم توازن المصالح وخصوصاً عندما يكون الطرف المهزوم في قاع سحيق لا تنفع معه الضربات العسكرية.
* كاتب من أسرة "الحياة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.