مجمع الفقه الإسلامي الدولي يشيد ببيان هيئة كبار العلماء بالسعودية حول الإلزام بتصريح الحج    إحلال مجلس إدارة إنفاذ محل لجنة تصفية المساهمات العقارية    المنتخب السعودي للرياضيات يحصد 6 جوائز عالمية في أولمبياد البلقان للرياضيات 2024    الذهب يستقر بعد تثبيت المركزي الأمريكي للفائدة    مبادرة لرعاية المواهب الشابة وتعزيز صناعة السينما المحلية    الوسط الثقافي ينعي د.الصمعان    سماء غائمة بالجوف والحدود الشمالية وأمطار غزيرة على معظم المناطق    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان رئيس الإمارات في الشيخ طحنون آل نهيان    تيليس: ينتظرنا نهائي صعب أمام الهلال    برئاسة وزير الدفاع.. "الجيومكانية" تستعرض خططها    الذهب يستعيد بريقه عالمياً    محافظ سراة عبيدة يكرم المشاركين والمشاركات ب أجاويد2    الهلال يواجه النصر.. والاتحاد يلاقي أحد    «إيكونوميكس»: اقتصاد السعودية يحقق أداء أقوى من التوقعات    اَلسِّيَاسَاتُ اَلتَّعْلِيمِيَّةُ.. إِعَادَةُ اَلنَّظَرِ وَأَهَمِّيَّةُ اَلتَّطْوِيرِ    يجيب عن التساؤلات والملاحظات.. وزير التعليم تحت قبة «الشورى»    متحدث التعليم ل«عكاظ»: علّقنا الدراسة.. «الحساب» ينفي !    أشعة الشمس في بريطانيا خضراء.. ما القصة ؟    هذا هو شكل القرش قبل 93 مليون سنة !    رئيس الوزراء الباكستاني يثمِّن علاقات بلاده مع المملكة    حظر استخدام الحيوانات المهددة بالانقراض في التجارب    جميل ولكن..    أمي السبعينية في ذكرى ميلادها    الدراما السعودية.. من التجريب إلى التألق    سعود عبدالحميد «تخصص جديد» في شباك العميد    هكذا تكون التربية    ما أصبر هؤلاء    «العيسى»: بيان «كبار العلماء» يعالج سلوكيات فردية مؤسفة    زيادة لياقة القلب.. تقلل خطر الوفاة    «المظهر.. التزامات العمل.. مستقبل الأسرة والوزن» أكثر مجالات القلق    «عندي أَرَق» يا دكتور !    استشهاد ستة فلسطينيين في غارات إسرائيلية على وسط قطاع غزة    33 مليار ريال مصروفات المنافع التأمينية    لؤي ناظر يعلن عودته لرئاسة الاتحاد    النصر يتغلب على الخليج بثلاثية ويطير لمقابلة الهلال في نهائي كأس الملك    مدرب تشيلسي يتوقع مواجهة عاطفية أمام فريقه السابق توتنهام    وزير الصحة يلتقي المرشحة لمنصب المديرة العامة للمنظمة العالمية للصحة الحيوانيّة    «سلمان للإغاثة» ينتزع 797 لغماً عبر مشروع «مسام» في اليمن خلال أسبوع    إنستغرام تشعل المنافسة ب «الورقة الصغيرة»    في الجولة ال 30 من دوري روشن.. الهلال والنصر يواجهان التعاون والوحدة    دورتموند يهزم سان جيرمان بهدف في ذهاب قبل نهائي «أبطال أوروبا»    العثور على قطة في طرد ل«أمازون»    أشاد بدعم القيادة للتكافل والسلام.. أمير نجران يلتقي وفد الهلال الأحمر و"عطايا الخير"    تنمية مستدامة    تحت رعاية الأمير عبدالعزيز بن سعود.. حرس الحدود يدشن بوابة" زاول"    اطلع على المهام الأمنية والإنسانية.. نائب أمير مكة المكرمة يزور مركز العمليات الموحد    الفريق اليحيى يتفقد جوازات مطار نيوم    أمير الشرقية يثمن جهود «سند»    بمناسبة حصولها على جائزة "بروجكت".. محافظ جدة يشيد ببرامج جامعة الملك عبدالعزيز    تعزيز الصداقة البرلمانية السعودية – التركية    أغلفة الكتب الخضراء الأثرية.. قاتلة    مختصون: التوازن بين الضغوط والرفاهية يجنب«الاحتراق الوظيفي»    مناقشة بدائل العقوبات السالبة للحرية    أمن الدولة: الأوطان تُسلب بخطابات الخديعة والمكر    فرسان تبتهج بالحريد    نائب أمير مكة يقف على غرفة المتابعة الأمنية لمحافظات المنطقة والمشاعر    سمو محافظ الخرج يكرم المعلمة الدليمي بمناسبة فوزها بجائزة الأمير فيصل بن بندر للتميز والإبداع في دورتها الثانية 1445ه    وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة "37 بحرية"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حين يقرأ الآخر تاريخنا: الاستشراق الفرنسي نموذجاً . صورة الظاهر بيبرس ... بين هجاء غروسيه ومديح كاهين
نشر في الحياة يوم 12 - 02 - 2001

استرعت شخصية الظاهر يببرس البندقداري، رابع سلاطين المماليك توفي في 676ه/ 1277م، اهتمام المؤرخين المسلمين، فأفرد له بعضهم سيراً ودراسات مستقلة، أو عرضوا له في اطار تأريخهم للدولة الإسلامية. كما شغل السلطان بيبرس حيزاً وافراً في دراسات المستشرقين وأبحاثهم، نظراً لدوره المؤثر في العلاقات بين الشرق والغرب في فترة حروب الفرنجة.
وزاد في شهرة بيبرس اشادة المصادر الإسلامية بخصاله، وبمنجزاته في ميدان العمارة الدينية وأوقافه المنتشرة في أرجاء سلطنته المترامية الأطراف، الأمر الذي جعل للسلطان منزلة خاصة فاكتسبت صورته في الذاكرة الجماعية العربية والإسلامية طابعاً أسطورياً جعلته في مصاف أبطالهم الملهمين، مثل عنترة، والمهلهل، والناصر صلاح الدين، ويتبدى ذلك بوضوح في سيرته الشعبية التي تناقلها الرواة والقصاصون عبر الزمن.
ولعل من أبرز المصنفات الفرنسية في هذا المجال ما قام به ميشو، ودي ماس لاتري وهنري لامنس ورينيه غروسيه وكلود كاهين وغاستون فييت، ودومنيك سورديل وبول ديشان وجان ريشار. وعكست كتابات هؤلاء المستشرقين صوراً لبيبرس متباينة حيناً ومتناقضة احياناً، تبعاً لاختلاف أغراضها ومراميها، ولتأرجح قيمتها العلمية، بين الموضوعية الصارمة والانحياز التام.
في كتابه "تاريخ الحملات" والذي ظهر في ثلاثة مجلدات بين عامي 1934 و1936، يخصص غروسيه مساحة وافرة من المجلد الثالث للتأريخ لبيبرس، متخذاً منه موقفاً يتصف بالعداء. يظهر ذلك بوضوح في مستهل حديثه عنه، فيصفه ب"الحيوان المفترس" وب"الفظ" و"السلطان العبد"، صاباً حقده على حكم المماليك، معتبراً اياه مظهراً من مظاهر "التقهقر التاريخي"، وذلك في معرض "استنكاره" حادثة مقتل المظفر قطز على يده، معلقاً بقوله: ان "هذا المشهد الوحشي يختصر تاريخ سلطنة المماليك كله"، واصفاً حكم المماليك ب"النظام الدموي والبربري" في مقابل "الحكم الأيوبي الإنساني والليبرالي".
ويستخدم غروسيه مصطلح "الحجاج المسيحيين" ويقصد به الحجاج الأوروبيين، مقتبساً اياه من مؤرخي الحروب الصليبية اللاتين، أمثال: وليم الصوري، وجوانفيل، وروبرت داكس. وما خلق التباساً دلالياً بين هذا المصطلح وبين مصطلح "المسيحيين المحليين" الذين أطلق عليهم المؤرخون اللاتين اسم "السكان المحليين" وكذلك فعل مؤرخو حروب الفرنجة المحدثون، في مقابل السكان المسلمين الذين وسموهم ب"الكفار".
ويذكر غورسيه ان "الحجاج المسيحيين" كانوا، منذ أيام بيبرس، يتعرضون للاضطهاد والسلب على الطريق من عكا أو من يافا الى الأراضي المقدسة، وسكت عن الإشارة الى ان هؤلاء "الحجاج" كانوا في معظمهم يأتون الشرق حجاجاً محاربين، ما استدعى اتخاذ الاجراءات الأمنية اللازمة لمنعهم من تشكيل واقع عسكري أثناء وجودهم في الأماكن المقدسة. ومن ذلك: تنظيم السلطات المملوكية مسألة دخول الحجاج الى الديار المقدسة وخروجهم منها، وكان لا يسمح لهم بالدخول اليها الا في مجموعات صغيرة لا يتجاوز عدد كل منها عشرة أنفار. ووفر سلاطين المماليك الضمانات اللازمة لحركة الحج الأوروبي، وترجموا ذلك بتعهدات صريحة لا تحتمل اللبس تضمنتها نصوص اتفاقات الهدن المعقودة بين المماليك والافرنج. كان أولها الهدنة التي عقدها السلطان بيبرس مع أسياد عكا عام 670ه/1272م، كفل بموجبها توفير الأمن على الطريق الموصلة من عكا الى الناصرة. ثم ترسخت هذه الكفالة في عهد السلطان المنصور قلاوون ت 689/1289، في ما عرف باتفاق عكا، كان أكثر تفصيلاً لجهة تسهيل أمر الحج الأوروبي الى الناصرة.
ويثير مصطلح "المسيحيون" الذي يستخدمه غروسيه في كتابه التباسات عديدة. فخلال حديثه عن حصاره لعكا عام 665ه/ 1267م، يذكر ان السلطان عمد بعد ان عجز عن أخذ المدينة الى قتل "المسيحيين" الذين التقاهم خارج أسوارها، من دون أن يحدد هوية هؤلاء. وبالعودة الى مصادر كثيرة نرجح ان أولئك المسيحيين كانوا من الفرنج المكلفين بتأمين حماية المدينة من الخارج، ومن القادمين من المناطق الافرنجية المجاورة لنجدة عكا بعد ان فاجأها السلطان بحيلة حربية كي يأخذها على حين غرة. راجع ابن عبدالظاهر، وابن تغري بردي.
ويحاول غروسيه ان يظهر بيبرس بمظهر من لا يتورع عن قتل رعاياه الآمنين من دون أدنى مسوغ أو سبب موجب إلا لكونهم مسيحيين. ويمثل على ذلك بحادثة هجوم السلطان على قارا، وهي قرية قرب حمص، معظم أهلها نصارى، كانت، آنذاك، محطة للقوافل التجارية على الطريق بين حمص ودمشق. فيعلن دهشته للقسوة التي اعتمدها بيبرس مع أهل قارا، إذ قتل العديد منهم بلا رحمة أو شفقة، وسبى أطفالهم وساقهم الى مصر، بينما الواقع التاريخي يشير الى ان السبب في ذلك يعود الى تعاون سكان قارا مع المغول، حين غزوا البلاد، وان أولئك السكان اعتدوا على أهل الضياع المجاورة وباعوا من وقع في أيديهم الى الفرنج المقريزي. فقصدهم السلطان، عام 664ه/1266م، وقتل بعض سكانها ورهبانها وأعفى عن الباقين بعد أن شفع بهم كبير أعيانهم أبو العز النصراني، المعروف ب"ريس قارا" وفق ما ذكر المؤرخ المعاصر ابن شداد.
ويشوه المستشرق الفرنسي صورة بيبرس حين يعتبر ان مبادرة السلطان الى احياء الخلافة العباسية كانت شراً وبلاء على الإنسانية لأنها، في نظره، أمنت الشرعية الدينية لل"القاتل" و"أضحى العبد القديم سيداً للإمبراطورية الإسلامية".
ومن نافل القول ان احياء الخلافة العباسية في القاهرة أضفى على دولة بيبرس شرعية دينية ما كانت لتكسبها في أي مصدر آخر، مما عزز مكانته في وجه أعدائه في الداخل وفي الخارج، وأضحى المسلمون، في كل مكان، ينظرون اليه على انه حامي الإسلام. كما ان وجود الخليفة العباسي في القاهرة، وهو مصدر السلطات في العالم الإسلامي كله، جعل السلطان بيبرس في مرتبة أعلى من سلاطين البلاد الإسلامية الأخرى، لا سيما وان الخليفة الجديد الذي أعلن باسم "المستنصر بالله"، لم يتردد في تقليد سلطاته الدنيوية" وما سيفتحه من أيدي الكفار" ابن عبدالظاهر.
وإذا كان انتقال الخلافة من العراق الى مصر اندرج في مصلحة بيبرس وخلفائه من بعده، أشاعت هذه الخطوة بالذات جواً من الاطمئنان في أوساط المسلمين بعد ان هالهم سقوط بغداد وتخريبها، وشغور مقام مرجعيتهم الروحية، وهو أمر غير مألوف منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ما خلق بلبلة واضطراباً في صفوفهم.
ومن الطبيعي ان يتسابق الحكام المسلمون على الفوز بشرف نقل مقر الخلافة الى بلادهم. ومن هؤلاء الملك الناصر يوسف الأيوبي، صاحب حلب ودمشق ت 658/1260، الذي سعى جاهداً لإقامة خليفة في بلاد الشام، لكن الأحداث الكبار التي عصفت بالشام، بسبب الهجوم المغولي عليها، أجهضت هذه المحاولة، وظل منصب الخلافة شاغراً ثلاث سنوات ونصف سنة الى حين توافرت لبيبرس فرصة احيائها في القاهرة، ليس لتأمين غطاء ديني تحتاج اليه دولته الفتية فحسب، بل أيضاً استجابة لمشاعر جمهور المسلمين، خصوصاً ان هؤلاء كانوا لا يزالون متعلقين بأهداب الخلافة، يترقبون، بفارغ الصبر، بروز من يعمل على تحقيق فكرة احياء الخلافة واعادة الشرعية الدينية الى نصابها، وهو أمر لم يدركه المستشرق الفرنسي.
ويشدد غروسيه على اجراء مقارنة بين بيبرس وخلفائه أو "قياصرة المماليك" - بحسب تعبيره - وأسياد الفرنج في الشام. فثمة "حيوانات مفترسة، ومتوحشة" في مقابل بارونات ينتسبون الى جماعة حضارية مرهفة المشاعر والأحاسيس. ويصف الأسياد الفرنج بأنهم "لبقون، شعراء، مولعين بالفنون، مشترعون، ليبراليون وفصحاء"، مفاضلاً بين نموذجين: احدهما هو "بيبرس هذا الحيوان المتوحش"، أما الآخر فهو "بوهيمند السادس كونت طرابلس الوقور العزيز النفس".
ويتابع غروسيه حملته على بيبرس، فيأخذ عليه عدم احترامه للعهود والحنث بالإيمان، متهماً اياه بأنه خاض ضد الفرنج "حرب ابادة"، مجارياً بذلك ما سبقه اليه ميشو الذي لم يتردد في قدح بيبرس بسيل من الشتائم أقلها "أنه بربري دعم حكمه بالرذائل، وأنه العدو الأكبر للمسيحيين الفرنج"، متجاهلاً ان حرب هؤلاء كانت دفاعية هدفت الى اخراج المحتل الأوروبي من بلاد الشام، وان الفرنج لم يترددوا في ارتكاب المجازر، ليس فقط في حق المسلمين واليهود في بيت المقدس، بل في حق مسيحيي البلقان والقسطنطينية نفسها، ما جعل المؤرخ اللاتيني المعاصر وليم الصوري يبدي استياءه واستنكاره لسياسة "القتل المنظم" التي انتهجها الفرنج، فوصفها ب"المذبحة المخيفة".
بيبرس عند كاهين
في مقابل صورة، المظلمة عند غروسيه، تحظى ببعض الانصاف والاعتدال في كتابات كلود كاهين، إذ اتسمت دراساته عن الإسلام بالاحترام والتقدير من قبل الباحثين في تاريخ العرب والمسلمين وتراثهم الحضاري. ومنذ 1955، أسهمت دراساته في لفت الأنظار الى ضرورة الاهتمام بدراسة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للعالم الإسلامي، بعد ان كان اهتمام الباحثين محصوراً بالتاريخ الوقائعي للمسلمين. ويعتبر كاهين من أكثر مستشرقي جيله معرفة بالإسلام ديناً ودنيا وأحد أغزر المستشرقين إنتاجاً في مجال الدراسات المتصلة بتاريخ العرب والمسلمين وحضارتهم. ولعل ذلك ما يميزه عن معاصره رينيه غروسيه الذي تعامل مع الإسلام وحضارته من خارج مناخه الفكري والثقافي.
في كتابه "سوريا الشمالية في عصر الصليبيين وإمارة أنطاكية"، الصادر في باريس عام 1942، لا يكتفي كاهين برسم صورة بيبرس في مظهرها الخارجي فحسب، بل تراه يحرص على التوغل في كنه شخصية السلطات وخفاياها، والوقوف على الدوافع العميقة لمواقف السلطان من الفرنج، معللاً إصراره على قتالهم، "لا بوصفهم مسيحيين أو أجانب، بل لأنهم مذنبون، جذبوا بسياستهم وبوجودهم في الشام جحافل المغول الذين كادوا ان يقضوا على العالم الإسلامي".
يشيد كاهين بما أظهره بيبرس من شجاعة وبطولة في عين جالوت، متابعاً بإعجاب إنجازاته العسكرية في شمال الشام الاستيلاء على أنطاكية وإخضاع بلاد الأرمن.
وتبرز موضوعية كاهين ورصانته العلمية بابتعاده عن المحاباة والانحياز عندما يشرع في رسم صورة متكاملة لشخصية بيبرس، قلما وقعنا عليها في كتابات المستشرقين عموماً والفرنسيين منهم خصوصاً. فيرى أن بيبرس حظي بمكانة مرموقة بين رجالات عصره، على رغم اعتلائه سدة الحكم إثر ارتكابه جريمة في وضح النهار يقصد قتل السلطان قطز، و"أنه شخصية نادرة في تاريخ الإسلام المتأخر ارتقت الى عالم الأسطورة".
ولئن لحظ كاهين جوانب سلبية في شخصية بيبرس، آخذاً عليه شوائب خلقية عدة، افتقار الى الذمة، وقاحة فظة، عجرفة لا تعرف الرحمة، وجرأة تكاد تلامس الجنون، فهو يرى أن هذه الشوائب لا تقلل من شأن السطان، فهو صاحب قرار سريع وحذر في آن، وصاحب حس ديبلوماسي حاد، ومعرفة تامة بالأمور العسكرية. وهو "رجل دولة كبير، نظم دولة لعلها كانت الأفضل بناء وأحكاماً مما عرفه الإسلام في تاريخه الغابر"، مشيداً بإنجازاته وبسياسته الحكيمة في عقد الاتفاقات وإقامة الأحلاف والاستفراد بالأعداء.
وتبدو نظرة كاهين الى بيبرس متأثرة، في جوانب أساسية منها، بنظرة سلفه دي ماس لاتري، من مؤرخي القرن التاسع عشر. ف دي ماس لاتري كان أكثر إنصافاً لبيبرس من غروسيه وميشو. إنه يقدم لنا صورة مختلفة، فيصفه بالحكيم الذي يعرف كيف يتدبر أموره في الكر والفر، ويعرف متى يعقد الهدن ومتى ينقضها. ولا يخفي دي ماس لاتري إعجابه ببيبرس عندما يتبنى ما ذكره عنه وليم الطرابلسي، أحد رجال الدين الدومنيكان في عكا، قائلاً: "إن السلطان كان باستطاعته، إذا ما أراد، أن يجعل حالنا أكثر تعاسة مما نحن فيه، والله وحده الذي يرحمنا، أمسك يده عنا. ولا أحد يقدر على منعه من أن يجتاح، وبقليل من الجهد، ما تبقى بأيدينا من مدن وقلاع، مثل صيدا وبيروت وجبيل والمرقب وحتى صور وطرابلس".
ويوافق المستشرق غاستون فييت على معالم الصورة التي رسمها كاهين لشخصية السلطان. ففي مقالة كتبها في "دائرة المعارف الإسلامية"، تحت عنوان "بيبرس الأول"، يميز بين الظاهر بيبرس البندقداري عن سميه السلطان المظفر بيبرس الجاشنكير ت 709/1310م ويشير فييت بتنظيم الظاهر للدولة على قاعدتي الأحكام والتوازن، منوهاً بنظام البريد في أيامه، وهو أمر تنبه إليه أيضاً المستشرق الفرنسي جان سوفاجيه. وأفصح عن إعجابه الشديد بقدرة بيبرس على الإمساك بالأحداث بثقة تامة، على رغم فداحة الأخطار التي كانت تواجهها دولته، فذكر أن بيبرس قام ب28 حملة عسكرية، مقدراً له إقدامه على إحياء الخلافة، وتكريس سيادته على الأماكن الإسلامية المقدسة في الحجاز. وتفرد فييت بالحديث عن خاصيتين تميز بهما السلطان، قلما ورد ذكرهما عند الباحثين العرب والمسلمين ممن أرخوا لبيبرس، ولم يجتمعا إلا في شخص صلاح الدين الأيوبي، وهما: تحقيق وحدة قيادة المسلمين، والحرب الظافرة ضد الفرنج. ويتابع أن عبقرية بيبرس تجلت بتحقيقه فكرة إحياء الخلافة بعد سقوطها في بغداد على يد المغول 656/ 1258 وتكريس سيادته على المدن المقدسة في الحجاز. ويستخلص قائلاً: "إن الإنجازات الكبيرة التي حققها هذا المحارب الخارق أدخلته بحياته الغنية بالمغامرات، في عالم الأسطورة".
في ضوء ما تقدم، يمكننا ان نرسم خطاً منحنياً لصورة بيبرس، يقترب من الموضوعية حيناً، ويبتعد عنها حيناً آخر، إذا استثنينا الخطابات التاريخية لقلة من المستشرقين الفرنسيين المتفلتين من عقدة الآخر المسلم ككلود كاهين وغاستون فييت ومكسيم رودنسون، يمكننا القول إن الخطاب التاريخي الاستشراقي الأوروبي عموماً، والفرنسي منه خصوصاً، ما يزال متأثراً الى حد بعيد بعبء الذاكرة التاريخية المثقلة بهواجس الصراع بين الشرق الإسلامي والغرب الأوروبي منذ العصور الوسطى خصوصاً في فترة "حروب الفرنجة" و"حركة الاسترداد في إسبانيا" وصولاً الى نجاح الاستعمار الأوروبي في الاستيلاء على مناطق شاسعة من العالمين العربي والإسلامي.
وعليه، فإن الطابع الأيديولوجي يحتل حيزاً وافراً في الخطاب التاريخي الاستشراقي عموماً، وتأتي فرنسا في طليعة هذه الدول. ذلك ان الخطاب التاريخي الايديولوجي هو نص في التاريخ وليس نصاً تاريخياً. إنه خطاب يعمد فيه المؤرخ الأيديولوجي الى قراءة انتقائية للوقائع التاريخية، معيداً تكييف ما انتقاه وفق رؤيته المنهجية، ما يترك المجال رحباً للتدخل الأيديولوجي المبني، غالباً، على حد هزيل من المعلومات التاريخية التي يختارها المؤرخ بدقة، تغدو قراءة التاريخ قراءة ايديولوجية سياسية الطابع، وأداة لتسويغ التسلط والنفي.
ولدى معاينتنا لصورة بيبرس المظلمة في خطابات بعض كبار مؤرخي الحروب الصليبية الفرنسيين المحدثين، مثل: م.ميشو، ورينية غروسيه، وبول ديشان، ونيكيتا اليسييف، ودومنيك سورديل، وبدرجة أقل ظلامية لدى كل من دي ماس لاتري، وهنري لامنس، وجان ريشار، وبول روسيه، فإننا نقع على نظرة انتقائية مجتزأة ووحيدة الجانب. فالقراءة الأولىة للنصوص المتعلقة ببيبرس عند المؤرخين السالف ذكرهم، تنم، بما لا يحتمل اللبس، عن حال من التحيز، بحيث تبدو صورة السلطان في كتاباتهم مشوهة تشويهاً يجعلها أقرب الى صورة الوحش المفترس منها الى الوصف الدقيق.
ونشير الى أن صورة بيبرس - بما هي نموذج عن صورة الآخر - تكشف عن ثقافة بعينها لا ترى أن لهذا الآخر حيزاً من التقدير والثناء إلا في ما ندر... نقول ذلك من دون أن نسحب مقولتنا على عموم المستشرقين.
* أستاذ جامعي وكاتب في التاريخ الإسلامي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.