يقترب العام من نهايته وسط مشاعر أكثرها غير طيب. لست متأكداً إن كانت مشاعر الكراهية للسياسات الخارجية الاميركية انحسرت، أو أنها تكثفت متراكمة لتفسح المجال أمام مشاعر أخرى عمقتها الحرب الاميركية ضد من اعتبرتهم الولاياتالمتحدة أول اعدائها في القرن الحادي والعشرين. يتصدر هذه المشاعر غضب وحزن وألم وحيرة، وإن اختفت من الصدارة، أو كادت تختفي، شماتة كانت عابرة ومحدودة. ففي غمرة الغضب السائد في الشارع العربي، ولا أجد غضاضة في استخدام هذا التعبير على رغم الحملة الموجهة ضد استخدامه، يتغلب رأي يقول إن التصعيد الاسرائيلي في عمليات اغتيال الفلسطينيين والمترافق بالاجراءات التعسفية الاقتصادية والأمنية والسياسية والحصار المفروض على تدفقات الأموال الى الاراضي الفلسطينية المحتلة من خارجها والملاحقة اليومية لبعض قيادات السلطة الفلسطينية، كلها وغيرها نماذج محلية للحرب الأوسع التي تشنها الولاياتالمتحدة على دول وجماعات ومذاهب وتيارات تعتبرها عقبات على طريق تأكيد المكانة الاميركية الجديدة في قرن جديد. ويجد أصحاب هذا الرأي سنداً لهم في هذه المواقف المتردية من جانب معظم الحكومات العربية والاسلامية منفردة أو مجتمعة كما حدث في مؤتمرها الشامل الذي انعقد في قطر، اذ أن كثيراً من المواقف ما كانت لتتخذ لو أن الدول صاحبة هذه المواقف كانت متأكدة من أنها خارج دائرة الحرب الاميركية، أو متأكدة من أن هذه الدائرة غير قابلة للاتساع. التوجه العام في هذه الدورة الاستثنائية يفضح رأياً خجولاً متردداً في دول عدة مشاركة يقول إن هذه الأمة تعاني من "مضاعفات هزيمة لم تقع". يختلف هذا الرأي، على الاقل من حيث الدرجة. عن رأي سائد في عدد آخر من الدول، ومنها الصينوروسيا ودول أوروبية، يعتقد أن مصلحتها القومية تفرض عليها الانزواء قليلاً طالما ظلت اميركا في حال الهياج، بشرط أن تصحب الانزواء يقظة شديدة فلا يتدهور الى سياسة دائمة أو الى وضع تعتبره شعوبها ضعفاً او انهزاما. ما زالت هذه الدول رغم كمونها الملحوظ حريصة على أن لا تعتبر أميركا هذا الكمون أو الانزواء تفويضاً لها للاستمرار في حملاتها وتصعيدها من دون رقيب أو حسيب. في اوروبا مثلاً، يعملون، وبصبر، على أمل النجاح في تهدئة الهياج الاميركي، تارة بالمشاركة في ازالة أسبابه، وتارة أخرى بالنصيحة، وتارة ثالثة بالتأييد وتأكيد أهداف التحالف الغربي مثل الموقف الأوروبي الأخير من الفلسطينيين. وفي أحيان كثيرة بدت هذه الدول كما لو كانت تشجع أجهزة الاعلام على تعبئة الرأي العام الغربي ضد المخاطر الرهيبة المحتملة نتيجة استمرار هيمنة تيار متطرف على عملية صنع السياسة الخارجية الاميركية وتحديد مساراتها. هذا الرأي السائد في الصينوروسيا وبعض دول أوروبا، ويتبلور احياناً في مواقف اوروبية متزايدة اليقظة والحذر. يعني أن معظم دول الاتحاد الاوروبي لم تفقد الأمل في أن تنتهي الحال "الطارئة" في اميركا. ولا أبالغ حين اقول إن كثيراً من قيادات الرأي في العالم العربي الاسلامي تعتقد - مثل الاوروبيين - ان الحال الاميركية الراهنة طارئة وستخف سريعاً او تنتهي تماماً. بل أكاد أجزم ان هذا القطاع من قيادات الرأي والسياسة في العالم العربي يتمنى - ايضاً مثل الاوروبيين - أن الحال الاميركية الراهنة طارئة وستخف سريعاً أو تنتهي تماماً. بل أكاد أجزم أن هذا القطاع من قيادات الرأي والسياسة في العالم العربي يتمنى - أيضاً مثل الاوروبيين - ان تخرج اميركا من هذه الحال الطارئة قوية، البعض يخشى أن تزوغ أبصار اميركا أو تفقد بعض الوعي والعقل او تقودها تيارات وقوى معينة نحو متاهات لا مخرج منها ومنزلقات لا صعود منها. وأستطيع ان أفهم دوافع هذه الخشية، أستطيع ان أفهم مثلا خوف هذا البعض من ان تحتل العظمة عقل عدد اكبر في قيادات النخبة الحاكمة في اميركا فتسرع الخطى نحو حالة تهور قصوى لا تنفع عندها النصيحة، لأن احداً في واشنطن لن ينتظر نصيحة وإن جاءت فلن يلتفت اليها، وأظن أن هناك شواهد كثيرة تدفع لهذه الخشية من جانب البعض من المشفقين على اميركا أو من المسؤولين عن مصالح شعوبهم وهوياتهم وسلامتها. يأتي في مقدمة هذه الشواهد اتجاه متصاعد في الخطاب السياسي والاعلامي الاميركي نحو الغوغائية، ونحو تشغيل عاطفة الشعب الاميركي على حساب الاتزان والرشد، والأمثلة متعددة أذكر واحداً منها. فقد راقبت باهتمام عدداً من المؤتمرات الصحافية ومناسبات تكلم فيها مسؤولون اميركيون كبار، لاحظت في اغلبها اصرار المسؤولين على استخدام كلمات تلهب المشاعر وتثير الرغبة في الانتقام، وبدا واضحاً اهتمام هؤلاء المسؤولين بالحصول على تصفيق الحاضرين وإعجابهم الى درجة لا تختلف كثيراً عن أساليب مستخدمة في مناطق أخرى دأب الاميركيون على انتقادها باعتبارها "خطابات غوغائية رخيصة" لكسب التأييد على حساب أساليب اخرى ديموقراطية وعصرية ورشيدة، وغالبا ما تؤدي، حسب انتقادات اميركية مألوفة، الى انفلات في القرارات والممارسات السياسية. أستطيع ان أفهم كذلك هذا الخوف من جانب بعض صانعي الرأي وبخاصة اولئك الذين يربطون بين استمرار اتهام اميركا بانتهاج سياسات متغطرسة أو "شبه امبراطورية"، وبين احتمال تعرضها لضرر شديد في الداخل او الخارج نتيجة الابتعاد عن الواقع المؤلم الذي يعيشه الاقتصاد الاميركي، والقلق الفظيع الذي يعيشه العالم الخارجي. هذا الفريق يعتقد ان الدول الكبرى، وربما كل الدول الفاعلة في النظام الدولي غير مستعدة بعد لعالم لا تقوده الولاياتالمتحدة كدولة فائقة القوة والتأثير والنفوذ. الشيء المؤكد في تطورات النظام الدولي منذ انفراط الاتحاد السوفياتي، اي منذ انفراط نظام القطبين، أن نظاماً آخر بديلا لم ينشأ، ومؤكد أيضاً أن اميركا استمرت دولة قوية تقود.. وإن غير منفردة تماما. تعودنا خلال العقد الاخير، وتعودت الدول الاخرى شرقاً وغربا، اصدقاء لأميركا أو خصوماً لها، على العيش في عالم لا تسوده الفوضى الشاملة وإن ساد في بعض اقاليمه ظلم رهيب وتعرضت بعض شعوبه لمعاناة صعبة بسبب سوء استخدام الدولة القائد لبعض نفوذها وسلطاتها. لم تقع الفوضى لأن اميركا تقود. ولكن وقع الظلم او بعضه لأن اميركا تقوده. وربما كان هذا الظلم الثمن الذي تدفعه شعوب مثل شعوبنا وشعوب افريقيا واميركا اللاتينية مقابل فترة او اكثر من الاستقرار النسبي، والأمن الاقليمي، أي فترات من سلام مفروض. أفهم أن يسود هذان الرأي والخشية القارة الاوروبية التي عانت معاناة هائلة في القرنين الاخيرين، ثم عانت من التقسيم والحرب الباردة في ظل نظام القطبين. في هذه الحال تكون أميركا القوية نعمة لأوروبا. أفهم ايضا أن يتقدم ويتغلغل هذا الرأي والخشية ايضا في منطقتي شرق آسيا وجنوبها. إذ حدث ذات مرة أن نهض عملاق آسيوي فذاقت المنطقتان عذاباً مارسته ضد شعوبهما عسكرية النخبة اليابانية وفاشيتها وعنصريتها. وما زالت الكوريتان والصين وكل شبه الجزر في جنوب آسيا من الهند غرباً الى فيتنام شرقاً تذكر تلك الايام السوداء حين لم يكن في آسيا من يردع العملاق الشرير. وينهض الآن عملاق جديد. لم يمارس عنفاً مشهوداً خارج حدوده التاريخية. ولكنه عملاق على أي حال، وكأي عملاق ناهض، لا أحد يستطيع التنبؤ بسلوكياته وطموحاته وخصوصا اذا حدث النهوض في غياب دولة أعظم تردعه بقوتها الفائقة أو تضبط حركته خارج حدوده. ولا أحد في هاتين المنطقتين، كما في غرب أوروبا، يأمل في قرب بزوغ هذا البديل الوحيد لهيمنة هذه القوة الاعظم، وهو نظام دولي آخر يقوم على التوازن بين القوى العظمى، أو يقوم على قطبين كل منهما رادع للآخر. أما وأن الامل بعيد في بزوغ هذا البديل، يصبح من الضروري في نظر تلك الدول حماية الوضع القائم، أي المحافظة على أن تظل أميركا قوية، ولكن غير متعجرفة ومتهورة.. إن أمكن. ورغم اعترافنا بوجاهة هذا المنطلق عند المدافعين عنه، إلا أننا في هذه المنطقة التعيسة نجد صعوبة في القبول به تبريراً وحيداً لتصرفات أميركا. نحن لا نستطيع الانزواء موقتاً كما فعلت الصين، وإن كان بعضنا حاول وفشل. ونحن لا نقدر على دفع كلفة المساومة بأساليب انتهازية للحصول على مزايا وتنازلات أميركية، ولو موقتة، كما فعلت روسيا. وإن كان بعضنا حاول وفوجئ بتفاهة العائد رغم الكلفة الباهظة. ولا نستطيع توجيه النصح الى اميركا كما تفعل بريطانيا واحيانا بقية اوروبا، لأنها قررت الاستهانة بكل ما يصدر عنا قولاً أو فعلاً. لا نستطيع شيئا من هذا، لأن اميركا بسياستها "المعادية" للفلسطينيين والمتقلبة تجاه العرب حكومات وشعوباً، وضعتنا في موقع "الشك أو الضد"، حتى وإن رفضت الحكومات العربية هذا الوضع. ولا أظن أن تغييراً جذرياً سيطرأ على هذه الحال من العلاقات الاميركية - العربية قبل ان تنتهي اسرائيل من تحقيق اهدافها، أو تتوقف الحكومات العربية عن ممارسة سلوكيات "منهزم في معركة لم تقع". * كاتب مصري.