نائب أمير الرياض يرفع التهنئة للقيادة الرشيدة بمناسبة إنجازات مستهدفات رؤية المملكة 2030    أمين الرياض يحضر حفل السفارة الأميركية    تحول تاريخي    87 % من رؤية 2030 مكتملة    الأخضر تحت 23 عاماً يواجه أوزبكستان في ربع نهائي كأس آسيا    "أوبرا زرقاء اليمامة" تبدأ عروضها بحضور عالمي    الهمس الشاعري وتلمس المكنونات    تشجيع الصين لتكون الراعي لمفاوضات العرب وإسرائيل    خلط الأوراق.. و«الشرق الأوسط الجديد»    فلسطين دولة مستقلة    محمية الإمام تركي تعلن تفريخ 3 من صغار النعام ذو الرقبة الحمراء في شمال المملكة    الفيحاء يتجاوز الطائي بهدف في دوري روشن    الكشف عن مدة غياب سالم الدوسري    أرامكو السعودية و«الفيفا» يعلنان شراكة عالمية    ريال مدريد في مواجهة صعبة أمام سوسيداد    العين يكشف النصر والهلال!    الدوري نصراوي    اختتام فعاليات منتدى المحميات الطبيعية في المملكة العربية السعودية «حمى»    أمير جازان يُدشّن مهرجان المانجو والفواكه الاستوائية ال20 بمحافظة صبيا    تفكيك السياسة الغربية    القيم خط أحمر    لو ما فيه إسرائيل    نائب أمير الشرقية يستقبل نائب رئيس جمعية «قبس»    مقال «مقري عليه» !    الهجوم على رفح يلوح في الأفق    مانشستر سيتي يضرب برايتون برباعية نظيفة    النواب اللبناني يمدد ولاية المجالس البلدية والاختيارية    أمير القصيم يثمن دعم القيادة للمشروعات التنموية    حزمة الإنفاق لأوكرانيا تشكل أهمية لمصالح الأمن الأمريكي    وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة ال82 من طلبة كلية الملك عبدالعزيز الحربية    رئيس الشورى يرأس وفد المملكة في مؤتمر البرلمان العربي    سلمان بن سلطان يرأس لجنة الحج والزيارة بالمدينة    إطلاق برنامج تدريبي لطلبة تعليم الطائف في الاختبار التحصيلي    جائزة الامير فهد بن سلطان للتفوق العلمي والتميز تواصل استقبال المشاركات    مريض سرطان يؤجل «الكيماوي» لاستلام درع تخرجه من أمير الشرقية    "سلطان الطبية" تنفذ دورة لتدريب الجراحين الناشئين على أساسيات الجراحة    "ذكاء اصطناعي" يرفع دقة الفيديو 8 أضعاف    مستشفى ظهران الجنوب يُنفّذ فعالية "التوعية بالقولون العصبي"    «رؤية 2030»: انخفاض بطالة السعوديين إلى 7.7%.. و457 مليار ريال إيرادات حكومية غير نفطية في 2023    كاوست ونيوم تكشفان عن أكبر مشروع لإحياء الشعاب المرجانية في العالم    استمرار هطول أمطار رعدية مصحوبة برياح نشطة على المملكة    أمير عسير يعزي الشيخ ابن قحيصان في وفاة والدته    تراجع النشاط الأمريكي يدفع النفط للانخفاض    تسليم الفائزات بجائزة الأميرة نورة للتميُّز النسائي    أدوات الفكر في القرآن    «النقد الدولي» يدشن مكتبه الإقليمي في السعودية    إنشاء مركز لحماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا    اللي فاهمين الشُّهرة غلط !    النفع الصوري    إجراء أول عملية استبدال ركبة عبر «اليوم الواحد»    «سدايا» تطور مهارات قيادات 8 جهات حكومية    تحت رعاية الأمير عبد العزيز بن سعود.. قوات أمن المنشآت تحتفي بتخريج 1370 مجنداً    تجهيز السعوديين للجنائز «مجاناً» يعجب معتمري دول العالم    أسرة البخيتان تحتفل بزواج مهدي    انطلاق "التوجيه المهني" للخريجين والخريجات بالطائف    "أم التنانين" يزور نظامنا الشمسي    بعضها يربك نتائج تحاليل الدم.. مختصون يحذرون من التناول العشوائي للمكملات والفيتامينات    تجاهلت عضة كلب فماتت بعد شهرين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فقه العنف المسلح في الاسلام . قتال البغاة ... والتكليف بالأمر والنهي ومجالات استعمال العنف المسلح 2 من 3
نشر في الحياة يوم 02 - 11 - 2001

} بعد أن دقق الكاتب في مصطلح الجهاد ومجالاته وفي العنف ضد الأنظمة وضد الأجانب. يتابع البحث في اشكالات العنف المسلح وحدوده:
قتال البغاة: جريمة البغي في كلام الفقهاء عرفها البعض بأنها الخروج على الإمام صاحب السلطة الشرعية. ويمكن ان ينطبق عليها المصطلح الحديث جرائم أمن الدولة.
ابن حزم يرى ان الحكام الخارجين على الشرع بغاة. وقال ابن حمزة الطوسي، وابن ادريس: إن قتال البغاة على ثلاثة أضرب: واجب، وجائز، ومحظور ....
والمعروف ان البغي في المصطلح الفقهي هو "خروج جماعة مسلحة على الحكومة الشرعية الإمام ومحاربتها". وبعبارة اخرى، هو: تمرد وعصيان مسلح ضد الحكومة الشرعية قد يكون هدفه قلب نظام الحكم بالقوة، وقد يكون هدفه اقتطاع جزء من البلاد، والاستقلال به عن الدولة.
ووسَّع بعض الفقهاء دائرة مفهوم البغي فلم يقصره على العصيان المسلح ضد الحكومة الشرعية، بل عممه لما يشمل قسماً من المجتمع الاهلي، ومنهم ابن البرّاج الذي قال: "... ولا فرق في وجوب قتال الباغية بين ان تكون باغية على طائفة من المؤمنين، وبين ان تكون بغت على الإمام...". ومقتضى إطلاق الآية الكريمة هو هذا التعميم، فإن قوله تعالى: وإن طائِفتان مِنَ المؤمنين اقتتلوا... الحجرات، الآية 9 يشمل باطلاق لفظ طائفتين وما اذا كان الخارجون في مقابل الحكومة الشرعية، وهي تمثل طائفة او مقابل فئة من المجتمع الأهلي.
والظاهر من الشروط التي ذكروها كون البغاة يمثلون ما يدعى الآن ثورة مضادة. فالشرط الاول يقتضي كونهم قوة انفصالية مسلحة. والشرط الثاني يتقضي كونهم أعلنوا الانفصال وخرجوا على السلطة الشرعية فعلاً. والشرط الثالث يقتضي كون الاطروحة السياسية التي استندوا اليها سائغة ومبررة من الناحية النظرية العقيدية عندهم، وأما اذا نفذوا عصيانهم استناداً الى اطروحة غير مبررة عندهم فإنهم يكونون مجرد مجرمين خارجين على القانون، ويعاملون بهذا الاعتبار، ولا يعتبرون حركة سياسية.
اما في حال اجتماع الشروط الثلاثة فهم حركة سياسية تعامل بالحوار والموعظة ما دامت لا تشهر السلاح ولا تقاتل، فإذا مارست العصيان المسلح جاز قتالها. ....
بعد بيان هذه الجوانب لقضية البغاة وقتالهم، نقول:
إن مفهوم البغي والبغاة في المصطلح الفقهي يتقوم بوجود جهة سياسية تتمتع بالشرعية الاسلامية سواء كانت حكومة او جماعة من المسلمين تخرج عليها جماعة سياسية لاشرعية وتستعمل ضدها العنف المسلح، فيجوز للجهة المعتدى عليها ان ترد على العدوان، وتكون حربها شرعية وعادلة.
وهذا اجنبي عن مجال بحثنا وهو استعمال الحركة الاسلامية للعنف المسلح ابتداء ضد خصومها السياسيين الأنظمة، الاحزاب المنافسة، الاجانب وضد المنكرات.
فلا يصدق على الاحزاب المنافسة انها باغية بالمعنى المصطلح سواء كانت هذه الاحزاب غير اسلامية او اسلامية، اذا لم تستعمل السلاح ضد الحركة الاسلامية. كما لا يصدق على الاجانب افراداً وهيئات وشركات انهم بغاة بالمعنى المصطلح اذا لم يقاتلوا الحركة الاسلامية.
ففي هاتين الحالين لا يمكن الحكم بجواز استعمال الحركة الاسلامية للعنف المسلح ابتداء بعنوان قتال البغاة.
كما لا معنى للحكم بجواز استعمال العنف المسلح ابتداء ضد المنكرات الشرعية وأماكن الاتجار بها وممارستها، بعنوان قتال البغاة وهذا واضح. وهو لا ينافي جواز استعمال العنف ضدها بعنوان آخر.
وأما الانظمة فيتوقف الحكم بجواز استعمال العنف ضدها على صدق البغي بالمعنى المصطلح عليها من الناحية الموضوعية، حيث يكون النظام اللاإسلامي باغياً على الحركة الاسلامية، ويتوقف على ان يواجه النظام الحركة الاسلامية بالقتال. فإذا لم يصدق عنوان الباغي من الناحية الموضوعية على النظام، او صدق، ولكن النظام لم يقاتل الحركة الاسلامية، فلا يمكن الحكم بمشروعية استعمال العنف المسلح ضد الانظمة باعتبارها باغية بالمعنى المصطلح.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
1- موضوع الأمر والنهي:
للمأمور والمنهي حالان:
احداهما: ان يكون متلبساً بالمعصية فعلاً بأن يكون تاركاً للمعروف، وفاعلاً للمنكر.
ثانيهما: ان لا يكون متلبساً بالمعصية فعلاً. ولكن يعلم منه عزمه على ارتكاب المعصية بترك المعروف وفعل المنكر.
والحال الاولى هي القدر المتيقن من ادلة وجوب الامر والنهي.
وأما الحال الثانية فقد يقال: إن الأدلة لا تشملها بعدم وقوع المعصية في الخارج.
ويمكن الرد على ذلك بأن الادلة شاملة لهذه الحال من جهة العلم بأن مراد الشارع هو إعدام جميع منافذ الوجود على المعصية التي يطلب ابقاؤها في حال العدم. وهذا المعني تدل عليه مطلقات وجوب الأمر والنهي، حيث إن الظاهر منها ليس الرفع فقط وإنما طلب الدفع أيضاً. ....
ولكن تمكن المناقشة في ذلك بأن المكلف اذا لم يكن متلبساً امتنع امره ونهيه بالفعل وعنه لعدم تلبسه، فلا بد من ان يتوجه الامر والنهي الى نيته وعزمه بأن يقال لا ينوي ترك المعروف وفعل المنكر او لا تعزم عقلاً على ذلك، وهذا لا تشمله ادلة الامر والنهي قطعاً وصدق المعصية على صرف النية - ما لم تتجسد في فعل خارجي - أول الكلام، والروايات دالة على عدم المؤاخذة على نية المعصية ما لم تقع، هذا من جهة. ومن جهة اخرى، فإن الامر والنهي قد يكونان في بعض الحالات مما فيه نحو تصرف في الغير وإعمال ولاية عليه، فلا يكون مشروعاً لاندراجه في الأصل الأولي في باب الولاية وهو عدم ولاية احد على احد، وعلم الخروج عن هذا الاصل في موارد التلبس الفعلي بالمعصية بمقتضى ادلة الامر والنهي، اما موارد عدم التلبس الفعلي فتبقى مندرجة في الاصل الاولي، وان كانت نية المعصية موجودة. والله اعلم فتأمل.
2- مورد البحث في هذا الفصل أمران:
الأول: في صدق أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الموارد المتعلقة بالقضية السياسية للمجتمع والدولة، وهي الانظمة الحاكمة والاحزاب السياسية المنافسة، وغيرهما وهذا بحث عن الموضوع.
الثاني: في انه - على تقدير كون هذه الموارد من مصاديق الامر بالمعروف والنهي عن المنكر - هل يجوز شرعاً استعمال اسلوب العنف المسلح ابتداء في الامر والنهي في هذه الموارد ام انه غير مشروع في الاسلام؟
وهذا بحث عن الحكم.
الأمر الأول: انطباق الأدلة على الشأن السياسي وعدمه
لم يرد في الأدلة من الآيات والروايات تحديد للمراد من المعروف والمنكر، وانما وردت في بيان اصل التشريع او في بيان الشروط والكيفيات، او في الحث على امتثال هذا التكليف والتحذير من تركه او التهاون فيه.
وما كان هذا شأنه من الموضوعات الشرعية فإن العرف العام للمتشرعة هو المرجع فيه، مع ما يستفاد من مشخصات الموضوع من الأدلة الواردة في الشروط والكيفيات. ....
ذهب بعض الفقهاء الى اعتبار الجهاد الابتدائي جهاد الدعوة من مصاديق الأمر والنهي وهذا يقتضي كون الشأن السياسي بالنسبة الى الانظمة الحاكمة والأحزاب السياسية من مصاديق التكليف بالأمر والنهي من وجه اولي. ويظهر من بعضهم دخول الحكومات الاسلامية المنحرفة أمراء التغلب والجور في باب الأمر والنهي، وان اختلفوا في الاسلوب، وهل يقتصر الأمر على الأمر والنهي باللسان او يجب الأمر والنهي باستعمال القوة وإن بلغت حدَّ الحرب واستعمال السلاح. وذهب بعض الفقهاء المعاصرين الى تعميم التكليف بالأمر والنهي الى ما يشمل جهاد الدفاع وبهذا الملاك الدفاع عمموا الحكم لمقاومة الحكومات الاسلامية المنحرفة والحكومات غير الاسلامية. ....
إن هذه المسألة لم تحرر في كلام الفقهاء من القدماء والمتأخرين، ولم يبحثوا في المنكر السياسي العام من قبيل الحكومات غير الاسلامية التي يتولاها مسلمون والاحزاب غير الاسلامية، لعدم وجود هذه الاشكال السياسية التنظيمية في الحياة العامة للمسلمين. وما كان موجوداً هو حكومات التغلب وأمراء وحكام الجور وهي سلطات اسلامية تتولى الحكم باسم الشرع الاسلامي وتسيء تطبيقه في الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي قضية الحرية السياسية.
والظاهر من جمهور الفقهاء انهم فهموا من الادلة ارادة خصوص الواجبات والمحرمات العينية على آحاد المكلفين، من دون القضايا السياسية العامة.
ويدل على هذا الفهم التبويب الفقهي الذي اتبعه معظم المؤلفين، فقد خصوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بباب فقهي مستقل في مقابل ابواب الجهاد، وأحكام البغاة، والحدود، والحرابة... وغيرها، وهي ابواب ذات صلة بالتكوين السياسي للمجتمع والدولة.
كما يظهر ذلك من الامثلة التي ذكروها في ابحاثهم، واقتصروا فيها على التكاليف العينية الفردية، ولم يتعرضوا لأمثلة من الحياة السياسية مما يتعلق بالدولة وتكوينها .... ولعل هذا الفهم الفقهي ناشئ من أمرين:
الأول: الشروط التي وردت في الروايات الخاصة، فإن بعض هذه الشروط يقتضي اختصاص تكليف الامر والنهي بالمنكر والمعروف الفرديين، فأجمع الفقهاء - استناداً الى الروايات الخاصة - على اشتراط الأمن من الضرر في الحال وفي الاستقبال على الآمر والناهي وعلى غيره من الناس وصرحوا بأن الضرر يشمل المعنوي والمادي الشخصي والمالي. ولا يخفى ان اعتبار هذا الشرط لا يتناسب مع جعل المسألة السياسية مورداً للأمر والنهي، لأن الأمر والنهي فيها - خصوصاً استعمال العنف المسلح - يلازمان وقوع الضرر على الآمر والناهي وعلى غيرهما غالباً.
الثاني: بعض الروايات التي يستفاد منها اختصاص التكليف بما ذكرنا، منها رواية يحيى الطويل عن الإمام الصادق، قال: "إنما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن فيتَّعظ أو جاهل فيتعلم، وأمّا صاحب سوط أو سيف، فلا". ....
وذهب ابن حزم الظاهري الى ان التكليف بالأمر والنهي يشمل القضية السياسية، وردّ بقوة على من ذهب الى ان آية قتال البغاة وأخبار الأمر والنهي انما هما في اللصوص دون السلطان فقال: "وهذا باطل متيقن...".
اذا تم ما ذكرنا كانت جميع موارد مجال البحث غير مشمولة لأدلة الأمر والنهي، الا مورد استعمال العنف المسلح ضد اماكن الفساد والمعاصي، وضد المتجاهرين بفعل المنكرات وترك الواجبات. وسيأتي ان مشروعية استعمال العنف المسلح في هذا المورد تتوقف على شروط لا يكون استعمال العنف المسلح مشروعاً عند فقدها. وأما غير هذا المورد فلا يجوز استعمال العنف المسلح ابتداء فيها لعدم شمول الأدلة المشرّعة للأمر والنهي لها.
ولو فرضنا اجمال الأدلة في دلالتها على كون القضية السياسية المتعلقة بالدولة والحكم من المنكر والمعروف الذين ورد التكليف بالنهي والأمر فيهما ام لا، فإن هذه القضية تكون من موارد الشك في تحقق الموضوع، فتجري البراءة من التكليف في موردها، ويقتصر في العمل على القدر المتيقن، ومجال البحث ليس منه، فلا يشمله التكليف ولا يشرع استعمال العنف المسلح فيه.
إشكال ودفع
وإذا جادل احد في هذه الدعوى بأن الحكم على غير اساس الاسلام وإهمال تنفيذ شريعة الاسلام من قبل الحكومة هما من اعظم المنكرات في الشريعة. وأي منكر أعظم من ترك الاسلام في الحياة السياسية والتنظيمية للمسلمين والعمل بغيره؟
وإذا وجب الأمر بفعل الصلاة وأداء الزكاة وغيرهما من الواجبات، ووجب النهي عن شرب الخمر والزنى وغيرهما من المحرمات، وجب بوجه اولي النهي عن المنكر الذي يؤدي الى ما هو اعظم من ذلك، وهو تعطيل الشريعة في حياة المجتمع السياسية. ....
وعدم شمول أدلة الأمر والنهي لمجال بحثنا لا يلزم منه عدم شمولها لما يترتب على تعطيل الحكم السياسي الاسلامي من تروك وفعل للمنكرات من قبل آحاد المكلفين، فيجب على سائر المسلمين الأمر بالمعروف لتاركيه والنهي عن المنكر لفاعليه، بسبب عدم إقامة الحكم الاسلامي السياسي، على ما قرره الفقهاء من الشروط والمراتب.
فتشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو لأجل حماية الشريعة في الأمة وضبط سلوك الأمة على مقتضى الشريعة من قبل الأمة نفسها بصرف النظر عن وجود الدولة الاسلامية والحكم السياسي الاسلامي او عدم وجودهما. وهدف الشارع المقدس هو عدم جعل مصير الشريعة من جهة وإسلامية الأمة من جهة اخرى مرتبطين بشكل النظام السياسي الذي تقيمه المجتمعات السياسية الاسلامية، من دون ان يعني ذلك الامتناع عن العمل لتصحيح النظام السياسي على نحو يكون فيه اسلامياً. ....
الأمر الثاني: مشروعية استعمال العنف المسلح
اتفقت كلمة الفقهاء على ان للأمر والنهي ثلاث مراتب: الإنكار بالقلب، والإنكار باللسان، والإنكار باليد. وكذلك الحال في الأمر بالمعروف. ومرادهم من الأمر والنهي باليد استعمال العنف. واتفقوا على ان هذه المراتب متدرجة في المشروعية. ... واتفقوا على ان لكل مرتبة من هذه المراتب درجات، لا يصار الى الدرجة العالية الشديدة الا في حالة عدم تأثير الدرجة الخفيفة.
واتفقوا على انه لا يجوز الشروع بمرتبة اليد العنف ابتداء، بل لا بد من استعمال مرتبة اللسان وإحراز عدم تأثيرها، ومن دون ذلك لا يجوز الانتقال الى مرتبة اليد.
قضية إحراز عدم التأثير
وينبغي التنبه هنا الى ان قضية احراز عدم التأثير ليست قضية استنسابية ذوقية، وإنما هي قضية موضوعية يرتبط تقديرها بجملة من العوامل التي تقتضيها طبيعة المأمور به والمنهي عنه، فقد يكون مما يقتضي زمناً طويلاً نسبياً لظهور التأثير او إحراز عدم التأثير، كما هو الشأن في قضايا التحويل الاجتماعي، وتغيير نظام الحكم، وتعديل القوانين الأساسية.
فمرتبة اللسان في مجال بحثنا هي طريقة الدعوة السلمية، والعمل السياسي السلمي على المستوى الشعبي، والحوار مع الخصوم والمنافسين، وتعبئة الشعب للمطالبة السلمية بتطبيق الاسلام. .... بعد هذا التمهيد يقع البحث في مقامين:
المقام الأول: هل استعمال العنف المسلح مشروع من حيث كونه درجة في المرتبة الثالثة اليد او انه غير مشروع بهذا الاعتبار من حيث ان المرتبة الثالثة لا تبلغ درجة استعمال العنف المقتضى للقتل والجرح وإتلاف الأموال؟
المقام الثاني: على تقدير كون العنف المسلح درجة في المرتبة الثالثة، فما هي الشروط المعتبرة في جواز ممارسة العنف غير المسلح، والعنف المسلح باعتباره الدرجة القصوى في المرتبة الثالثة؟ ....
فخروج العنف المسلح المؤدي الى القتل والجرح عن دلالة الأدلة خروج موضوعي تخصصي لا بالتخصيص، وما أفاده في الجواهر كاف في الدلالة على ذلك، مضافاً الى التعبير بالأمر والنهي نفسه في الأدلة يقتضي خروج القتل والجرح عن دلالتهما ماهية وعرفاً، فهما ليسا أمراً ونهياً، بل عقوبة على ارتكاب المعصية فيدخلان في باب الحدود، بل يمكن القول في الضرب غير الجارح ايضاً انه بباب التعزيز اشبه لولا صراحة الأدلة في دخوله، والاتفاق على اعتباره داخلاً في الأمر والنهي.
ولو سلمنا جدلاً ان الجرح والقتل داخلان في اطلاق ادلة الأمر والنهي، فلا شك في انصراف هذه الأدلة عنهما في مقام الدلالة التصديقية، والأمر فيهما من قبيل ادلة حرمة الصلاة فيما لا يؤكل لحمه المنصرف عن الانسان، بل الانصراف هنا أولى لما عرفت من الاختلاف الماهوي بين القتل والجرح وبين الأمر والنهي ....
ولو سلمنا جدلاً دخول العنف الذي يلزم منه القتل والجرح في الأدلة على مستوى الدلالة التصديقية، فلا بد من الحكم بعدم مشروعيتهما للأدلة الدالة على تخصيص ادلة الأمر والنهي بما لا يلزم منه ذلك.
فإن الدليل الأعلى بالنسبة الى القتل والجرح دال على حرمتهما بغير الأسباب التي نص عليها الشارع في الكتاب والسنّة ...
والخلاصة ان استعمال العنف المسلح غير مشروع بعنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بوجه من الوجوه. اما لخروجه عن هذا العنوان بالتخصص وعدم دلالة الأدلة عليه، او لانصراف الأدلة عنه، او لاندراجه - بعد تساقط الدليلين بالنسبة اليه - في الأصل الأولي لعدم ولاية احد على احد.
وبهذا يجاب من ذهب الى مشروعية استعمال العنف المسلح بعنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد عرفت ان صريح مشهور الفقهاء على ان الأمر والنهي باليد بنحو يستلزم القتل والجرح هو الحرمة وعدم المشروعية ....
اختلاف آراء المذاهب
وقع الخلاف في المسألة بين فقهاء المذاهب، فذهب بعضهم الى عدم مشروعية العنف المسلح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذهب آخرون الى مشروعيته، والمشهور عدم المشروعية.
فممن ذهب الى عدم مشروعية ذلك ابو الحسن الأشعري، حيث قال: "واختلفوا في انكار المنكر والأمر بالمعروف بغير السيف، فقال قائلون: تغير بقلبك، فإن امكنك فبلسانك، فإن امكنك فبيدك. وأما السيف فلا يجوز. وقال قائلون: يجوز تغيير ذلك باللسان والقلب، فأما باليد فلا". وممن ذهب الى مشروعية ذلك الإمام ابن حزم الظاهري ت: 456ه قال: "اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من احد منهم ... ثم اختلفوا في كيفيته".
فذهب بعض اهل السنّة من القدماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم، وهو قول احمد بن حنبل وغيره، وهو قول سعد بن ابي وقاص، وأسامة بن زيد، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة وغيرهم، الى ان الغرض من ذلك انما هو بالقلب فقط ولا بد. أو باللسان إن قدر على ذلك. ولا يكون باليد ولا بسل السيوف ووضع السلاح اصلاً. وهو قول ابي بكر بن كيسان الأصم. وبه قالت الروافض كلهم، ولو قتلوا كلهم. إلا انها لم ترَ ذلك إلا ما لم يخرج الناطق، فإذا خرج وجب سل السيوف حينئذ معه، وإلا فلا. "واقتدى اهل السنة في هذا بعثمان رضي الله عنه وبمن ذكرنا من الصحابة وبمن رأى العقود منهم". "إلا ان جميع القائلين بهذه المقالة من اهل السنّة إنما اراد ذلك ما لم يكن عدلاً، فإن كان عدلاً وقام عليه فاسق، وجب عندهم بلا خلاف سل السيوف مع الإمام العدل...".
"وذهبت طوائف من اهل السنّة، وجميع المعتزلة، وجميع الخوارج والزيدية، الى ان سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب اذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك".
وقد رد ابن حزم على المانعين بقوة، وذهب الى مشروعية استعمال العنف المسلح، وسيأتي نقل كلامه وكلام غيره من الفقهاء المجوزين والمانعين في ملاحق الكتاب.
المقام الثاني: مشروعية العنف باعتباره المرتبة الثالثة، والعنف المسلح باعتباره الدرجة القصوى في المرتبة الثالثة
لو تنازلنا وسلمنا ان العنف المسلح المستلزم للقتل والجرح في أدلة الأمر والنهي باعتباره الدرجة القصوى في المرتبة الثالثة، وهي اليد، فلا بد من معرفة مدى انطباق ذلك على مجال بحثنا. وهذا يتوقف على ذكر شرطين من الشروط العامة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهما علاقة وثيقة بهذا البحث.
1- إمكانية التأثير
من الشروط العامة التي ذكر الفقهاء لوجوب الأمر والنهي، وهو ان تكون ثمة امكانية للتأثير في المأمور والمنهي. ويقابل إمكان التأثير حالتان:
احداهما: العلم بعدم التأثير. وفي هذه الحالة اتفق الفقهاء على عدم وجوب الأمر والنهي.
ثانيهما: غلبة الظن بعدم التأثير. وفي هذه الحالة المشهور بين الفقهاء عدم الوجوب.
وعدم الوجوب في حالة غلبة الظن بعدم التأثير انما هو للأمر والنهي باللسان، حيث ان الأمر والنهي في هذه الحالة يقعان لغواً بلا اثر. وأما الأمر والنهي باليد واستعمال العنف بجميع مراتبه، وخاصة العنف المسلح، فإنه يكون محرماً في نفسه او لما يستلزمه، حيث ان الضرب او الجرح او القتل يكون مندرجاً في الأدلة الدالة على حرمة ايذاء المسلم وجرحه وقتله وإذلاله وتخويفه وإهانته وما الى ذلك، بعد فرض عدم مشروعية العنف بعنوان الأمر والنهي من جهة عدم شمول الأدلة له لعدم توافر شرط امكانية التأثير بتحقق الغرض المطلوب من الأمر والنهي وهو فعل المعروف وترك المنكر.
الدليل على اعتبار هذا الشرط:
والدليل على هذا الشرط من وجهين:
الأول: من السنّة، وهو عدة روايات....
الثاني: الاعتبار الفعلي.
ان التكاليف الشرعية تنقسم من حيث الغرض منها والأثر المترتب على امتثالها الى قسمين:
احدهما: ما يكون الغرض من التكليف به مجرد ايقاع الامتثال في الخارج، من قبيل التكليف بسائر العبادات، فإن امتثال التكليف بالصلاة والصوم والحج وغيرها يتحقق بمجرد ايقاع العمل من قبل المكلف به في الخارج وفقاً لشروطه التي حددها الشارع.
ثانيهما: ما يكون الغرض من التكليف به ليس مجرد ايقاعه في الخارج، بل يكون الغرض تحقق اثر خارجي مطلوب للشارع، من قبيل التكليف بوجوب العمل لتحصيل الرزق، فلو انحصر العمل في صنف معين، وعلم المكلف ان عمله فيه لا يترتب عليه الأثر الخارجي المطلوب وهو كسب المال، فلا معنى لأن يقال انه يجب عليه ان يعمل وإن لم يحصل الأثر المطلوب. وهكذا الحال في مقامنا، فإن الأمر والنهي واجبان لأجل تحقق اثرهما في الخارج وهو فعل المعروف وترك المنكر، فإذا علم عدم التأثير او غلب الظن بذلك، فلا معنى لأن يقال انه مع ذلك يجب الأمر والنهي، لأن التكليف بهما، مع العلم او غلبة الظن بعدم ترتب الأثر، يكون لغواً.
نعم لا يبعد القول هنا بأن الأمر والنهي باللسان والدعوة بالحسنى يجبان على الأمة مع العلم او غلبة الظن بعدم التأثير، وذلك لأجل إبقاء شعار الاسلام والشرع حياً متداولاً بين الناس، ولو على مستوى الثقافة العامة، وإن لم يحصل التأثير على المستوى العلمي.
ولا يشرع في هذه الحالة الأمر والنهي باليد لما يستلزمه من ارتكاب الأعمال المحرمة بأدلة عدم جواز إيذاء المؤمن والإضرار به، وللأصل الأولي بعدم ولاية احد على احد، ولما دل على عدم مشروعية التسبب في الهرج والمرج والفتنة. ولعل هذا هو الوجه في ما ذهب اليه بعض الفقهاء من وجوب الأمر والنهي مع غلبة الظن بعدم التأثير، واستدل على ذلك بإطلاق ادلة الأمر والنهي.
ومن دون هذا التوجيه لا يمكن الذهاب الى مشروعيتهما، لأن اطلاق الأدلة مقيّد بالأدلة المقيدة، على ان المطلقات بنفسها منصرفة عن حالة غلبة الظن بعدم التأثير.
2- عدم ترتب مفسدة وضرر
ومن الشروط العامة التي ذكرها الفقهاء لوجوب الأمر والنهي ان يثق المكلف بعدم ترتب مفسدة وضرر على الآمر والناهي يصيبه في خاصة نفسه وماله او يصيب غيره من الناس او يصيب المجتمع، في الحال او الاستقبال.
فلو علم او ظن استلزام الأمر والنهي شيئاً من ذلك، وخاصة في ما يتعلق بالغير، وبصورة اخص في ما يتعلق بالمجتمع، فلا شك في عدم المشروعية في الأصل فضلاً عن دعم الوجوب.
والظاهر ان اعتبار هذا الشرط موضوع وفاق بين فقهاء المسلمين ....
وكلام الفقهاء صريح في عدم الاقتصاد على الضرر الذي قد يصيب الآمر والناهي، بل يشمل الشرط الضرر الواقع على الغير ايضاً.
ولا شك في ان ما يستلزم الضرر المعنوي والسياسي على سمعة المسلمين، وما يستلزم الفتنة الصغيرة المحدودة فضلاً عن الكبيرة العامة، وما يسبب الاخلال بالنظام العام لحياة المجتمع في مساحة محدودة فضلاً عما يسبب ذلك في مساحة واسعة، مشمولان لهذا الشرط من باب أولى. وهما محرمان بأدلتهما الخاصة الحاكمة على ادلة الاحكام الاولية، ومنها ادلة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والدليل على اعتبار هذا الشرط أمران:
الأول: الروايات الواردة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي اشتملت على هذا الشرط، وهي روايات عدة ....
الثاني: قاعدة لا ضرر ولا ضرار. وورد النص الصحيح بل المتواتر بها عند جميع المسلمين، وقد عمل بها جميع الفقهاء، فلا كلام في اعتبارها.
فإن هذه القاعدة حاكمة على ادلة جميع الاحكام الاولية المتعلقة بعناوين غير ضررية بحسب اصل طبعها ووضعها، ودليل التكليف فيها مطلق لحالتي ترتب وعدم ترتب الضرر على امتثالها، ففي حال ترتب الضرر على امتثال هذه التكاليف تكون ادلتها محكومة لقاعدة الضرر، ومقتضى ذلك انتفاء التكليف في هذه الحال.
* الرئيس السابق للمجلس الاسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، وكان وضع قبل وفاته مخطوطة كتابه التي انتخبنا منها هذه الحلقات - يصدر الكتاب هذا الشهر عن المؤسسة الدولية للدراسات والنشر في بيروت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.