أمير جازان يستقبل القنصل العام لجمهورية السودان    مؤتمر أبشر.. الابتكار والتحول الرقمي    زيلينسكي: مقترحات إنهاء الحرب في أوكرانيا قد تُعرض على روسيا خلال أيام    4658 حالة إسعافية بالجوف    مشكاة يشارك في جناح الطفل بمعرض جدة للكتاب 2025    الأمان المجتمعي يبدأ من الحوار    الإيمان يولد من المحبة لا من الخوف    اخطب لابنتك ولا تخطب لولدك    المنتخب السعودي يتوج بطلًا لكأس الخليج تحت 23 عاماً    القادسية يستنجد بخبير أيرلندي    السعودية تدين مصادقة الاحتلال على بناء 19 مستوطنة في الضفة    عبد العزيز بن سعد يطلع على خطط هيئة تطوير حائل    أبها يحافظ على الصدارة.. وسباق الهدافين يشتعل بين سيلا سو و نوانكو    أمير حائل يستقبل رئيس كتابة العدل بالمنطقة    تعليم الطائف يؤكد أهمية الشراكات في تطوير الأداء التعليمي وتحقيق الاستدامة    نائب أمير المنطقة الشرقية يطلع على برامج وجهود جمعية هداية للدعوة والإرشاد    غزة: وفاة رضيع بعمر أسبوعين نتيجة البرد الشديد    هيئة العقار تباشر إجراءات ضد 25 مطورا خالفوا أنظمة البيع على الخارطة    أمير المنطقة الشرقية يرعى حفل جائزة «نواة» 2025    تجمع القصيم الصحي ينال الاعتماد البرامجي للتخصص الدقيق في طب العناية الحرجة للكبار    القيادة تهنئ ملك مملكة البحرين بذكرى اليوم الوطني لبلاده    زين السعودية تطلق باقة صنع في السعودية لدعم التحول الرقمي للقطاع الصناعي    أمير جازان يستقبل مدير عام حرس الحدود    حقوق الإنسان ب"التعاون الإسلامي" تؤكد أولوية إشراك الشباب في العمل الإنساني وبناء السلام    القحطاني: المقاطع المتداولة عن غرق مواقع في الرياض غير صحيحة ولا تعكس واقع الحالة المطرية    تركيا تقول إنها أسقطت طائرة مسيرة غير خاضعة للرقابة    سعود بن طلال يكرّم الفائزين بجائزة الأحساء للتميّز    مؤشر الدولار ينخفض بنسبة 0.2 بالمئة    «الدارة» ترصد تاريخ العمل الخيري بمكة    المطر في الشرق والغرب    السكتيوي: بالانضباط التكتيكي هزمنا الإمارات    رئيس الوزراء الأسترالي يواجه ضغوطاً إسرائيليةً بعد هجوم بونداي    ورشة نقدية تقرأ الجمال في «كتاب جدة»    نجاح ترميم مجرى الدمع بالمنظار    أمير منطقة الرياض يوجه الجهات المعنية بسرعة رفع تقارير نتائج الحالة المطرية    38 مليون عملية إلكترونية عبر «أبشر» خلال شهر    إغلاق موقع مخبوزات مخالف في جدة    انطلاق تمرين مواجهة الكوارث البحرية الخميس    وزارة الخارجية تعرب عن تعازي المملكة ومواساتها للمملكة المغربية جرّاء الفيضانات في مدينة آسفي    قطع شرايين الإمداد الإنساني.. «الدعم السريع» يعمق الأزمة بالتصعيد في كردفان    «جوارديولا».. رقم تاريخي في الدوري الإنجليزي    (الرياضة… حين تتجاوز حدود الملعب)    شراكات في صناعة السينما بمهرجان البحر الأحمر    اختتمت مشاركتها في المعرض بمدينة ميلانو الإيطالية.. السعودية تبهر زوار «أرتيجانو آن فييرا» بعمقها الحضاري    ضمن أعمال منتدى تحالف الحضارات.. مناقشات دولية في الرياض تعزز الحوار بين الثقافات    الأهلي ينهي خدمات رئيس الجهاز الطبي    لبنان عالق بين التفاوض واستمرار التصعيد العسكري    الأمير فيصل بن خالد يرعى توقيع 21 اتفاقية ومذكرة.. 40 ملياراً قيمة فرص استثمارية بمنتدى الشمالية    تعديل السلوك    موجز    القيادة تعزّي ملك المغرب في ضحايا فيضانات مدينة آسفي    دواء مناعي يعالج التهاب مفاصل الركبة    علامة مبكرة لتطور السكري الأول    أسعار تطعيم القطط مبالغة وفوضى بلا تنظيم    الدكتور علي مرزوق يسلّط الضوء على مفردات العمارة التقليدية بعسير في محايل    نائب أمير الشرقية يستقبل مجلس «مبرة دار الخير»    دور إدارة المنح في الأوقاف    «الحياة الفطرية» تطلق مبادرة تصحيح أوضاع الكائنات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسار الثورة الكوبية وصولاً الى الحائط المسدود . الفصام المطلق بين السلطة والمجتمع ، وبين السياسة والاقتصاد 3
نشر في الحياة يوم 26 - 01 - 2001

بعدما تناولت حلقة الأمس العلاقة بالسوفيات بين التمرد الايديولوجي والتبعيتين الاقتصادية والاستراتيجية، هنا التتمة الأخيرة.
كان لا بد من ابتداع طريقة جديدة لمواجهة الكارثة. وبدا، بوضوح لا يقبل الشك، ان التجريب الايديولوجي القديم لم يعد يصلح لتحديات التسعينات. هكذا اعلن كاسترو، في 1990، عن "دخول مرحلة خاصة لأزمنة السلم" التي تركت أعمق آثارها على حياة الكوبيين.
فهافانا التي كانت تستورد، من موسكو، سبعة اطنان من النفط بالمقايضة مع طن واحد من السكّر، بدت مدفوعةً لأن تعطي التوفير في الطاقة أولويتها المطلقة. وفعلاً أُغلقت المعامل والمكاتب وطغى تقنين متصاعد لها لا تزال آثاره باديةً حتى الآن في ضعف الاضاءة وانقطاعات التيار. كذلك قُلّصت خدمات النقل العام الى حدّها الأدنى، فأنزل الكوبيون الدواب الى الشوارع، واستنفروا عربات الخيل، واستوردوا الدراجات من الصين بكثافة مثلما ابدعوا "الكوكو" الصفراء: وهي تركيب دراجة نارية على جسم سيارة بالغة الصغر لا تتسع لاكثر من شخصين. وفي الحقول نابت الثيران والابقار مناب التراكتورات. لا بل بلغت حدة التقنين المتصاعد باستمرار ان صارت وجبة الطعام هدفاً نضالياً للفرد الكوبي.
وقد يكفي القول لفهم ما ألمّ بالجزيرة ان مبادلاتها الاقتصادية انهارت تماماً: فتراجعت الصادرات السنوية من 4،5 الى 1،1 بليون دولار، والواردات من 1،8 الى 1،2 بليون. وغدت البلاد مضطرة، ابتداء من 1991، الى ان تدفع مقابل وارداتها من النفط بالدولار، فارتفعت كلفته الفعلية الى اكثر من عشرة اضعاف ما كانته.
ذاقت كوبا علقم القطيعة مع اميركا من دون رعاية روسيا. هكذا شرعت البروميثيوسية الأولى التي اختلّت النسبة بين قدراتها واهدافها المعلنة، تنتهي مأسوياً: لا نفط ولا اسمدة ولا قطع غيار فيما الهبوط في طاقة الانتاج نسبته 80 في المئة. حتى الرز، وهو من السلع الشعبية في الغذاء الكوبي، تراجع انتاجه بنسبة 75 في المئة. ولم تسلم المستشفيات والصيدليات التي غدا مشهدها متلازماً مع الطوابير، مثلها مثل مراكز التموين الشعبي. وامتد الامر، كما وصف لي مقيم اجنبي في كوبا، الى جوانب في القيم والسلوك، كالصداقة مع الكوبيين: ف"من هو محترم انكفأ مُحرَجاً لعجزه عن الوفاء بمستلزمات الصداقة، ومن هو عكس ذلك صار انتهازياً"
ولئن تعوّد كاسترو ان يكشف قدراته في الذهاب يساراً، إذا به يكشف قدرات لا حدود لها في الذهاب يميناً، من دون ان يكون بالضرورة انتهازياً. هكذا ردّ بأن تحول نحو مزيد من الرأسمالية، لا نحو الاشتراكية كما كانت الحال إبان مناكفاته مع السوفيات. اما الرأسمالية التي اختيرت، وما كان يمكن اختيار غيرها، فكان عماداها السياحة والدولرة. ذاك ان مؤتمر الحزب في 1991 الذي اعلن رفض تقليد الغورباتشوفية والبيريسترويكا هو نفسه الذي مهّد، بعد عامين، لانهاء تحريم الاستخدام للعملة الاميركية. وكان من نتائج هذه الخطوة الكبيرة ان طُردت البيزو المحلية من التداول، لا سيما وقد صار في وسع الكوبيين دخول الدكاكين التي تتداول الدولار بعدما اقتصر دخولها قبلاً على الاجانب وبعض كبار المتنفذين في الحزب والدولة.
وبعد ان عاشت السياحة طويلاً بصفتها لعنة وقذارة امبريالية، صارت رهان الحكومة التي ما لبثت ان اجازت للسكان التعاطي مع ذويهم في الولايات المتحدة وهو، بدوره، ما ظل ممنوعاً حتى 1993. فهناك اليوم 5،1 مليون كوبي من المهاجرين والمنفيين وذريّتهم يقيم معظمهم في الجارة الشمالية. وفي 1997، مثلا، بلغت مساعدات هؤلاء لاقاربهم في الجزيرة 800 مليون دولار، فيما لم يكن المبلغ، في 1987، يتعدى ال 100 مليون. وفي المقابل، فمن 300 الف سائح قدموا الى كوبا عام 1990 ارتفع العدد الى 600 الف عام 1994 والى مليون عام 1996 ثم الى مليون ونصف المليون عام 1998 والى قرابة مليونين هذا العام.
وقصارى القول ان كاسترو وسلطته تعززا ظاهرياً. فتحركات المعارضة وارتفاع نبرة التذمر، في 1993 و1994، والتي ادت الى صدامات في الشوارع وسقوط جرحى، لم تعد ملحوظة على سطح الحياة الكوبية اليوم. ولوهلة يبدو ان الزعيم الشيوعي نجح فعلاً في تجنب ورطته. فالدولة عادت تسيطر على عائدات مالية ليست بسيطة يوفّرها ما تدفعه لها شركات الاستثمار السياحي، وما تستقطعه لنفسها من الدولارات المحوّلة من اميركا ومن سائر عمليات التبادل الداخلي والخارجي.
لكن الجزيرة لن تحتمل طويلاً العيش باقتصادين: واحد محوره البيزو الذي لا يُستخدم عملياً الا في بعض مراكز التموين الحكومي والآخر، ومحوره الدولار، يستولي على سائر الفضاء، رافعاً اعلامه في السوق السوداء كما في المخازن الحكومية التي غدت تبيع بالعملة الخضراء. والوجه الآخر لحقيقة الاقتصادين ان ثلثي الكوبيين، واكثر من ثلاثة ارباع الهافانيين، صاروا يعيشون بمستويين: واحد، هو المساعدات الاولية البسيطة للسلع المدعومة، وهو ما ينتظم حول البيزو. والثاني، ومجاله الاستهلاك الاوسع، فيتحرك على ايقاع الدولار و"المهنة الأخرى" المتصلة به.
وكبار المستفيدين من "العملة الجبّارة" هم عموم اقارب المقيمين في الولايات المتحدة والعاملون في القطاع السياحي والمشاريع المشتركة، وصولاً الى بائعي الهوى وبائعاته ممن يبدو، بعد تجارب روسيا واوروبا الشرقية، انها تركة اشتراكية اصيلة. وهؤلاء لئن طرحوا على الدولة واقتصادها تحديات صارخة، فقد استجابت بأن راحت توزّع على العاملين في القطاعات المنتجة للقطع النادر، اي السكّر والتبغ والسياحة، مكافآت تشجيعية بالدولار يصيب الفرد منها 45 دولاراً. بيد ان المبلغ هذا يبقى اقل من نصف في المئة من الانفاق السنوي للكوبيين بالعملة الاميركية، وهو يتجاوز البليون دولار. وهذا، بلغة أخرى، يعني ان ما تقدّمه الدولة للحد من تفاوت الاقتصادين لا يردم اية هوّة، بل يزيد في تظهير التبايُن.
وللمرء ان يلاحظ الفارق الهائل بين عالمي هذين الاقتصادين، حين يرى رجلاً مسناً وفقير الملمح يحاول بيع صحيفة "غرانما" الحزبية في سوق للسيّاح وللكوبيين المتجهين بابصارهم الى كل السلع ما عدا هذه. او حين يقارن سيارات "لادا" الروسية العتيقة التي كانت تستوردها كوبا بكثافة في الماضي بسيارات المرسيدس والبي. أم. دبليو الفارهة التي ادخلتها الشركات العاملة في الجزيرة اليها.
وهذا، من ناحية أخرى، ما يثير لدى شعب كثيراً ما افتخر بالمساواتية والكرامة الوطنية شعوراً مريراً بالاستلاب.
فالدولة لم تكتف بأن رفعت راية السياحة عالياً، بل منعت الكوبيين من دخول مراكزها ومنشآتها. ثم خففت المنع بقصره على استخدام بعض الاماكن والمرافق. وهي اقامت، بين ما اقامته، جزراً بأكملها هي حصر على السيّاح وحدهم.
وفي الاطار هذا صدر، في 1995، المرسوم الذي الغى القيود عن التوظيفات الخارجية، متيحاً للاستثمار الاجنبي ان يحضر بنسبة 100 في المئة، ومطلقاً حركة البناء وشراء الأراضي التي اثمرت انفجاراً عمرانياً، لا سيما في المراكز والمنشآت السياحية، في حي ميرامار الفخم كما في منطقة فاراديرو. والمشاريع الجديدة هذه، والتي تقتطع الدولة منها حصةً تتراوح بين 30 و50 في المئة من أرباحها، تتولى تحويل الاقتصاد الكوبي على نحو يجعل وصفه ب"الوطني" مبالغاً فيه جداً. فاذا كانت الشركات الاجنبية لا تزال تحس بالنفور لأن الدولة تفرض عليها اختيارها للعمال والعمالة، الا ان تلك الشركات غدت حاضرة في القطاعات الاكثر استراتيجية للاقتصاد الكوبي: من التقنيات البيولوجية والكيماوية الى تصنيع المواد الصيدلية، ومن استغلال النفط الى شحذ النيكل. ومن يظن ان السيجار الكوبي الشهير كوبي كلياً يخطىء، اذ تسيطر مؤسسة "تاباكاليرا" الاسبانية على عمليات تصنيعه. والشيء نفسه يصحّ في صناعة السكّر التي تضع "مرسيدس بنز" الالمانية للسيارات يدها عليها بعد إثقالها بالاستثمار. وعلى نطاق أصغر، وافقت "أديداس" للملابس الرياضية على "رعاية" النشاطات الرياضية الكوبية كلها، فيما تتعدد في البلاد مواقع "بنيتون" للألبسة، هو الذي يستقبلك اعلان ضخم له لدى دخولك مطار جوزيه مارتي.
ومن يسير في شوارع هافانا سيفاجئه عدد الذين يطرحون عليه أحد السؤالين اللذين هما مفتاح التسوّل: من أين أنت؟ أو: كم الساعة؟ فاذا اتى الجواب ايجابياً بدا كل شيء قابلاً للتفاوض والبيع بالدولار الذي يقارب سعر واحده نصف متوسط الاجر في كوبا.
ومن الطبيعي في وضع كهذا ان يكتسب الفساد والرشوة موقعاً لم يكن لهما سابق في بلد المساواتية. فتروح الصحف والتقارير الحزبية، منذ قرابة عامين، تتحدث عن "ضياع" كمية من الموارد، او تشير احتفالياً الى ان ما ضاع "أقل" مما ضاع في اعوام خلت.
ابعد من هذا ان التركيز السياحي فصل عن الثورة قاعدتها الاكثر ولاء في المناطق الشرقية والزراعية القليلة الاستفادة من السياحة، والتي تفتك بها اعلى معدلات البطالة في البلاد. والاهم، ربما، ان الظاهرات الاجتماعية الخطيرة شرعت تكشّر عن انيابها: فكوبا غدت بلداً كحولياً، بعدما عانت، اوائل التسعينات، ارتفاعاً مدهشاً في حالات الانتحار الناجمة عن تآكل حضن الدولة بعد تآكل حضن العائلة. واللافت للنظر اليوم استيقاظ الكوبيين على "اصولهم": فآلاف من ابناء المهاجرين الذين اتوا على دفعات من اسبانيا، او حتى من سورية ولبنان، بدأوا يبحثون عن اقاربهم هناك كأنهم يفكّرون في الالقاء بأنفسهم الى مرفأ آمن من مركب يغرق.
واذا تجرأت الكنيسة فطرحت على نفسها اداء بعض الوظائف التي انكمشت عنها الدولة، فالوجه الآخر للعملية تزايد التبرعات، من اسبانيا وبلدان اوروبا خصوصاً، لاعانة النشاطات الثقافية او تقديم الخدمات الصحية.
في وضع كهذا، هل يستطيع الخارج ان يحول دون معاناة الداخل، او ان يمدّ بعمر النظام الكاستروي؟
على رغم محاولات متعددة من ادارة كلينتون الديموقراطية لتخفيف الحظر، استمر الضغط الجمهوري في الكونغرس ومن ورائه اللوبي الكوبي في الولايات المتحدة لتشديد الحصار، كائنة ما كانت كلفته الانسانية. وفعلا صدر في 1992 و1995-1996 قانونا توريشيللي وبورتون - هيلمز: اولهما منع فروع الشركات الاميركية في الخارج من المتاجرة مع كوبا، واجاز للرئيس الاميركي ان يقطع العون الاقتصادي او التجاري عن كل بلد يساعدها. فيما الثاني زاد اجراءات الحصار وكثّف أسبابه الموجبة.
وفي هذه الغضون كان كاسترو قد "مزح"، في 1994، مزحته الاخيرة بشعبه وبالولايات المتحدة فيما كان اليمين المتشدد يحقق انتصاره الانتخابي الباهر في الشمال، والذي توّجه صعود نيوت غينغريش. ذلك أنه، ورغبةً في ارباك ادارة كلينتون وسياستها في استقبال الكوبيين، سمح لثلاثين الفاً بالسفر دفعة واحدة. وكان هؤلاء خليطاً من اصحاب السوابق والسرقات الصغيرة، فضلاً عن بضعة معارضين ومتذمرين. وفعلاً نجحت الخطوة الكوبية في ارباك كلينتون الذي نقض ما كان معمولاً به قبلاً في أميركا من قبول اوتوماتيكي لكل هارب او لاجىء كوبي.
بيد ان هذه "المزحة" جعلت الاميركيين الراغبين في الضغط لتخفيف الحصار اضعف موقعاً في مواجهة صقور اليمين المتشدد.
مع هذا تمكن الرئيس الاميركي من تقصير عمليات الحصول على اذن رسمي بالسفر، وهو اصلاً يقتصر على البحاثة والصحافيين وذوي الاصول الكوبية واصحاب الاوضاع الخاصة التي تُبحث حالةً حالةً.
وفي النهاية أدّت الضغوط المتواصلة لبعض الديموقراطيين وللوبي الزراعي وبعض الشركات الاميركية الطامحة الى تأسيس موقع قدم لها في كوبا، الى تصويت الكونغرس لمصلحة تحرير بيع السلع الغذائية والطبية من مشمولات الحصار. الا ان التصويت، تبعاً لتوازنات القوى، جاء أعرج: فقد ترافق، بفعل ضغط الجمهوريين واللوبي الكوبي، مع منع تمويل المبيعات الى الجزيرة، سواء جاء التمويل من القطاع الخاص او الرسمي. وبينما تحرك كاسترو مجدداً فقاد تظاهرة معارضة للقرار الاميركي ومنددة به من دون تمييز، عاد الى الواجهة الصراع المرّ بين النظريتين اللتين تتنافسان في عنادهما: تلك الأميركية التي تقول أنْ لا رفع للحصار قبل اقامة تعددية سياسية وتحرير المساجين، وتلك الكوبية التي تقول برفع الحصار أولاً ومن دون شروط. ولئن كان جورج بوش، ابان حملته الانتخابية، قد برهن على حماسته في تطبيق النظرية التقليدية لبلده، فان الصلات الوطيدة بين شقيقه جيب، حاكم فلوريدا، وبين كوبييها لن تسمح بتوقع انفراجات تُذكر.
ثم ان السجال الاميركي - الكوبي بدأ يتأثّر بعنصر آخر. فغالباً ما ظهرت الولايات المتحدة في معركتها الدعاوية والسياسية في مظهر ثأري وانتقامي لا ينسى جروح الحرب الباردة، بعدما انهار الاتحاد السوفياتي نفسه. وهذا مع العلم انها صالحت الصين وفيتنام وانفتحت على كوريا الشمالية التي زارتها مادلين أولبرايت مؤخراً. وهكذا فبدل ان تسقط سياسة الحصار والمقاطعة كاسترو، قوّته واثارت خلافات لا تنتهي بين واشنطن وشريكاتها الغربيات، وبينها وبين بعض لوبيات المصالح في الولايات المتحدة نفسها.
الا ان العنصر هذا بدأ يتعادل مع عنصر يوازنه، مصدره التحول الاجمالي في سياسة واشنطن في اميركا الوسطى عما كانته ابان الحرب الباردة: فقد حل محل نهج التدخل اللاديموقراطي في بلدان كغواتيمالا عام 1954 أو تشيلي عام 1973، نهج ينتصر للديموقراطية ويعادي خصومها. وهذا ما اتخذ، في هايتي مثلاً، شكل التدخل العسكري المباشر لاعادة رئيسها ارستيد الى الحكم.
واذا كان "خير هذا بشرّ ذا" يختصر وضع الولايات المتحدة حيال كوبا، فان ذلك ما يترك لسلوك كاسترو هامشاً بعيداً من القدرة على التأثير. هذا نظرياً فقط:
فالمذكور، ولأنه في آخر المطاف ايديولوجي ومغامر اكثر منه انتهازياً، لم يساعد نفسه حيال الذين ارادوا مساعدته: فهو لم يكفّ عن التأكيد على ان اجراءات الانفتاح اضطرارية، مُحرجاً الدول التي خاضت مواجهات فعلية ضد سياسة الحصار. وهو، بدل استكمال الانفتاح الاقتصادي بآخر سياسي، مضى يجدد ايمانه المطلق بالاقتصاد الاشتراكي والتدخلي الذي سيعود اليه "بمجرد ان تسنح الظروف".
والاطراف الاكثر استثماراً في كوبا ودعماً لها، بل رغبةً في فك الحصار عنها، ككندا واسبانيا والمجموعة الاوروبية، تلقّت كلُ واحدة منها لكمة كاستروية. ففي مؤتمر باناما، قبل اسابيع، رفض ادانة "إيتا" الباسكية كمنظمة ارهابية. وكان اثار غيظ رئيس الحكومة الكندي جان كريتيان برفضه اطلاق سراح منشقين سعت كندا الى حمله على اطلاقهم. اما الوفود الاوروبية التي تطالبه باجراءات تتعلق بحقوق الانسان، فيعطيها بسمة موناليزية لا تُفهم مقاصدها، ثم يتبيّن انه عازف عن كل تغيير. والآن تأتي أزمته مع تشيخيا، بسبب اعتقال هافانا نائباً ووزيراً سابقاً وقائداً طلابياً اتُهما بالضلوع في نشاطات منشقّيها، لتزيد صعوبات القائد الكوبي حيال الرأي العام العالمي.
ولوهلة ظُن ان الترياق قد يأتي مجدداً من موسكو. وفعلاً قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزيارة الجزيرة نهاية العام الماضي ليتكشّف اللقاء مع كاسترو عن سوء تفاهم ضخم. صحيح ان الزعيم الروسي اعلن في طريقه الى اميركا الوسطى ان "كوبا شريكنا التقليدي" وانها "كانت عظيمة وبالغة الأهمية لنا لأنها امتلكت دائماً موقفاً مستقلاً". وردّ كاسترو على التحية بأحسن منها ليتفاجأ بمطالبة زميله الروسي بتسديد 70 في المئة من ديون الحقبة السوفياتية على كوبا. وردّ كاسترو بأن الانسحاب العشوائي للسوفيات عام 1989 هو الذي ورّط الاقتصاد الكوبي بخسائر بالبلايين لا يزال يبحث عن تعويضها.
اما المشروع الامبراطوري الذي عوّل الزعيم الكوبي على الاستفادة منه، هذه المرة، فهو الذي يرعاه الرئيس الفنزويلي شافيز. ذلك ان الاخير استقبل كاسترو بالترحاب في كراكاس، وتوصّل معه الى اتفاقات مناسبة جداً للكوبيين يدور أهمها حول النفط. فقد ابدت فنزويلا استعدادها لتزويد الجزيرة ثلث حاجتها النفطية بسعر 20 دولاراً للبرميل. وابعد من هذا ان السعر المخفّض يمكن سداده بخليط من النقد والمقايضة وتأجير الأطباء والممرضين والفنيين الكوبيين العاطلين عن العمل.
بيد ان الاعتراض على ما فعله شافيز امتد الى دوائر في سلطته تعرف ان الاقتصاد الفنزويلي لا يحتمل هذا السخاء كله كرمى لرغبة التحول زعامة اقليمية على الطراز القذافي. وعلى رغم العلاقات الوثيقة بين كوبا والمكسيك، تحفظت الأخيرة عن سلوك فنزويلا لأن "كوبا لا تدفع ديونها". أما أهمية الموقف الأخير فتنبع من ان المكسيك شريكة فنزويلا في سياسة الاعانة لبلدان اميركا الوسطى. ثم ان الأسوأ هو ما يمكن توقّعه مع قدوم الادارة المحافظة لفنسنتي فوكس الشديدة الممالأة لواشنطن.
ما الذي يبقى؟ تبقى شعارات الثورة وأصواتها العالية، وهي ما يمرّ الناس في محاذاتها غير مكترثين فيما هم يسعون الى تحصيل الدولار. ذلك اننا حيال ايديولوجيا هرمة وشرعية مفقودة لم يعد يديمها الا اثنان: خوف الناس من بطشها ومن تغيير طريقة في الحياة دامت 42 عاماً، وسياسة الولايات المتحدة. فحماقة هذه الاخيرة ما سمح لكاسترو بأن يحوّل دراما اليان غونزاليس مناسبة لتحريك المشاعر الوطنية المؤازرة للنظام.
بيد ان هذه المشاعر لن تلبث ان تنفضّ. فالمشكلة لا تُحلّ بهذا الاجراء او ذاك. انها تُحل، في النهاية، بمواجهة السبب "والسبب، كما قال كوبي ناقم، هو الاشتراكية. فهي نظام مفلس اخلاقياً. مفلس سياسياً. مفلس اقتصادياً. وآن له ان يسقط".
لكن الكوبي هذا، وبشيء من المداعبة الساخرة التي تستعيد اللغة الرسمية، اضاف خاتماً حديثه: "يا رفيق".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.