القيادة تعزي رئيس روسيا في ضحايا حادث تحطم طائرة ركاب    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تباين    رئيس الوزراء الإسباني يرحّب بإعلان فرنسا أنها ستعترف بدولة فلسطين    وزير أمريكي: التجارة مع الصين في "وضع جيد"    32 لاعبًا يتأهلون إلى دور ال 16 في بطولة العالم للبلياردو بجدة    جمعية الإعاقة السمعية في منطقة جازان تزور مسنًا تجاوز التسعين من عمره    أكثر من 40 ميدالية في ختام بطولة المملكة البارالمبية لرفع الأثقال للرجال والسيدات    الوفد السعودي الاستثماري يختتم زيارته إلى سوريا    السعودية ترحب بإعلان الرئيس الفرنسي عزم بلاده على الاعتراف بدولة فلسطين الشقيقة    طحين الدم    «بيئة جازان» تنظم ورشة عمل عن طرق الاستفادة من الخدمات الإلكترونية الزراعية    هل مديرك معجزة؟    الأخضر الأولمبي يختتم مشاركته في دورة أوزبكستان الودية بمواجهة اليابان    قطار الرياض ينقل أكثر من 23.6 مليون راكب بالربع الثاني ل 2025    حرس الحدود بجازان ينقذ مواطنَيْن من الغرق أثناء ممارسة السباحة    وفد ثقافي وفني يزور هيئة التراث في جازان لتعزيز التعاون في مجالات الهوية والتراث    القمامة الإعلامية وتسميم وعي الجمهور    «هُما» القصيبي من جديد..    خطبة الجمعة تحذر من إساءة استغلال الذكاء الاصطناعي    القبض على يمني و4 سودانيين في عسير لترويجهم «الإمفيتامين»    الهلال الأحمر يفعل «المسار العاجل» وينقذ حياة مواطن بجدة    وزير الرياضة "الفيصل" : لحظة تاريخية لرياضة المملكة بتخصيص ثلاثة أندية    المملكة تشارك في مؤتمر الأطراف باتفاقية الأراضي الرطبة "رامسار"    أمير جازان من الدائر: البن ثروة وطنية والدعم مستمر    إيزاك يبلغ نيوكاسل برغبته في استكشاف خيارات أخرى    6300 ساعة تختتم أعمال الموهوبين في أبحاث الأولويات الوطنية بجامعة الإمام عبد الرحمن    هيئة الأدب تستعد لإطلاق النسخة الرابعة من معرض المدينة المنورة للكتاب2025    أمير تبوك يطمئن على صحة الشيخ عبدالعزيز الغريض    أمير منطقة جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأهالي محافظة الدائر    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يلتقي وزيري الخارجية والداخلية الأفغانيين في كابل    الشؤون الإسلامية في جازان تواصل تنفيذ الدورة العلمية الصيفية الثالثة    مستشفى المهد يعتمد تقنية تخدير الأعصاب لتقليل الألم    رسميًا.. فيرمينو ينضم إلى السد القطري    تحطم طائرة الركاب الروسية المفقودة    القادسية يختتم المرحلة الأولى من معسكره التحضيري في هولندا استعدادًا لموسم 2025/2026    الإحصاء: ارتفاع الصادرات غير البترولية بنسبة 6.0% في مايو 2025م    الأمير محمد بن عبدالعزيز يستقبل قائدَي قوة جازان السابق والمعيّن حديثًا    الإحسان الطبية تنفذ مشروع «الإستشاري الزائر» في مستشفى صامطة العام    منظمة الصحة العالمية تنفي انتهاك السيادة الأمريكية    أكثر من 7 آلاف زيارة منزلية خلال 6 أشهر بمستشفى الظهران    الوفد السعودي بدأ زيارته لدمشق.. اتفاقيات اقتصادية لدعم التنمية في سوريا    توجه رئاسي لحصر القوة بيد الدولة.. غضب على «حزب الله» في الداخل اللبناني    تعاون سعودي – سريلانكي في مجالات الإعلام    الشهري ينال الماجستير بامتياز    الصنهاج والزهراني يحتفلان بزواج ريان    بالتنسيق مع 5 وزارات تمهيداً لوضع الإجراءات.. "البلديات" تشترط عدم كشف مساكن العمالة للجيران    المفتي يطلع على أعمال "حياة"    أكدت تمكين الأشخاص ذوي الإعاقة.. "الموارد البشرية": تطوير برنامج الرعاية الاجتماعية المنزلية    وسط تحذيرات دولية وركود في مفاوضات الهدنة.. غزة على شفا مجاعة جماعية    "الداخلية" تعلن فتح تحقيق في انتهاكات السويداء.. لا إعدامات جماعية في سوريا    موجز    واست رئيس بنغلاديش في ضحايا سقوط الطائرة.. القيادة تهنئ الرئيس المصري بذكرى اليوم الوطني لبلاده    دوران يسجل في فوز فنربخشة برباعية على الاتحاد وديًا    «سلمان للإغاثة» يوزّع (840) حقيبة إيوائية في منطقتين بإقليم جامو وكشمير في باكستان    اختيار سلمان: هكذا أطلق صقره ليحلق بالوطن    «سوار الأمان».. حلول ذكية في المسجد الحرام    "الشعفي" يُرزق بمولودته الأولى "سما"    مفوض إفتاء جازان يستقبل منسوبي إدارة جمعية سقيا الماء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسار الثورة الكوبية وصولاً الى الحائط المسدود . البدايات التي طغت عليها الإرادة ، وزادها الحصار الأميركي احتداماً 1
نشر في الحياة يوم 24 - 01 - 2001

في مدخل احد الدكاكين السياحية ثُبّت ملصق اعلاني كبير يقول: زوروا كوبا بلد الSSS، أي الشمس Sun والبحر Sea والاشتراكية Socialism. ولئن بدت الفجاجة حادّة في الصورة التي أبدعها الملصق، الا ان الخطأ لم يكن اقل حضوراً. فمن ناحية رمزية على الأقل، يمكننا ان نقرأ أزمة كوبا بصفتها صراعاً بين البحر والشمس من جهة وبين الاشتراكية من جهة أخرى.
فاذا بالغ فولجينسيو باتيستا، قبل 1959، فجعل الكازينو سيد الشمس والبحر، بالغ كاسترو، بعد 1959، في اخضاعهما للحقل والمصنع ورسالات المصير.
لكن لم يُطلّ العقد التسعيني الا وكانت كوبا تستدير الى النقطة التي تركها عندها باتيستا.
التضحيات التي ذهبت هباءً كثيرة. والأهم منها ربما أن الجزيرة الصغيرة لم تعثر على طريق مختلف عن الطريق الباتيستي - الكاستروي الذي توحّد، في آخر المطاف، عند اثنين: السياحة والاستبداد.
فكما في بلدان عالمثالثية عدة، لم تظهر القاعدة القوية التي تسند حلاً يُنهي الاستبداد الفاسد من دون الوقوع في استبداد طهراني لن يلبث ان يرتد، هو نفسه، فاسداً.
ولأن الباب لم يُفتح للاصلاح السياسي والاجتماعي قبل الثورة كانت الكارثة التي تثقل وطأتها اليوم على صدور الكوبيين.
ذاك انه، قبل كاسترو وبقياس الدخل والغنى، كانت هناك طبقة وسطى تعد اقل من خُمس السكان بقليل وطبقة عليا في حدود ال4 في المئة. الا ان الأولى بدت مقموعة سياسياً وتعبيرياً، لا سيما مع تزايد اللجوء الى الاجراءات الاستثنائية والبوليسية قبيل سقوط النظام. وبعد الثورة، وقبل ازمة التسعينات بكثير، تقلّصت الوسطى الى اقل من 5 في المئة فيما اختفت العليا.
ويروي فيلم "هافانا"، حيث لعب روبرت ريدفورد دور المقامر الاميركي، اجواء تلك الحقبة التي شهدت قسوة متعاظمة من الطرفين، لخّصها الصحافي الهافاني بقوله: "انها مؤامرة على الطبقة الوسطى. الويل لهذه الطبقة".
فالحل الذي اتبعه ملتحو السييرا مايسترا منذ هبوطهم الاول على هافانا، لم يكن إحداث اصلاح سياسي بقدر ما كان استئصالاً راديكالياً لما يدبّ على الأرض من حياة وتفاوت. وكان تشي غيفارا، اكثر من كاسترو، رمز هذا الحل المحاط بنبل الأهداف السامية. ففي السنوات الأولى لعب الثائر الشهير دوراً مركزياً في رسم الفلسفة الاقتصادية للجزيرة. وقامت وجهة نظره على مركزية قصوى للادارة، وعلى اطلاق التصنيع والحوافز المعنوية على الطريقة الصينية. والمعنوي، هنا، هو شحذ الرغبة لبذل مزيد من العمل والجهد بدافع التسييس والولاء الايديولوجي، مما يتطلب "انساناً اشتراكياً جديداً" بالضرورة.
وقد فضّل الكوبيون، بالطبع، الحوافز المادية ولو ان ذلك ابقاهم في عداد "القدامى". وهذا ما دل اليه تدني انتاجية العمل الذي حال تعطيل الحياة السياسية دون مناقشته، ناهيك عن الاعتراض عليه. وبإرادوية عُرف بها دوماً دافع غيفارا عن ان ما يستطيع الكوبيون انجازه لا يحدّه حدّ من اقتصاد او تعليم او معطى مادي، ما خلا الارادة.
هذا التحليق في فضاء الرغبات، وجد نقده عند الطرف الوحيد الذي كان يمكنه ان يتكلم وان يحمل الكوبيين، ولو نسبياً، على الانصات: الاتحاد السوفياتي. وفعلاً عارضت موسكو و"علماؤها" الايديولوجيون هذا النهج في مقالات نظرية مطوّلة وشهيرة، مثلما عارضوا بعد سنوات قليلة آراء غيفارا وكاسترو والفرنسي ريجيس دوبريه في حرب العصابات ونظرية "البؤرة".
بيد ان سطوة غيفارا على الاقتصاد انتهت مع مغادرته كوبا اواسط 1965 متحفظاً عن "البقرطة" و"السفيتة" الناشئتين. والحال ان النظام كان بدأ يتحول عن خطه منذ 1963 تحت ضغط موسكو والواقع سواء بسواء. وهذا علماً ان عواطف الزعيم الذي انتقد رفيقه ظلت اقرب اليه، لا سيما تفضيله المعنوي على المادي. فهو دعا الى مجتمع يكون فيه الجميع على مقربة من الأرض بما يمهّد للوعد الشيوعي في زوال الفارق بين الجهدين اليدوي والذهني. ذاك ان الكوبيين، بحسب الخرافة الثورية، سيتساوون في مستويات عيشهم بمعزل عن انتاجيتهم، وسوف ينعمون جميعاً بالرفاه كمجتمع غير طبقي وبلا مال. وكدليل على هذا، بين أدلّة أخرى، جُعلت الهواتف العامة كلها مجانية.
لكن في السنتين الأوليين من حكمه على الأقل، كانت العناصر السياسية ذات اليد العليا في تقرير الاتجاه الاقتصادي. وفي المعنى هذا اعطيت ل"المعهد الوطني للاصلاح الزراعي" سلطة اساسية في ادارة الاقتصاد بما فيه التصنيع. وأتى الحاق الحياة الاجتماعية والاقتصادية بالاصلاح الزراعي ليعلن مراتب أولويات النظام الجديد، ولكنْ أيضاً ليمعن في تفجير نزاعات كان يمكن تفادي بلوغها ما بلغته. فالاصلاح الزراعي وما بات يتصل به من قطاعات هو موضوع الصراع مع الملاكين السابقين ومع الولايات المتحدة من خلال مواطنيها ذوي الملكيات الزراعية والتجارية والمالية في كوبا. وكان ذاك الاصلاح بالغ الراديكالية بالفعل، مثله مثل توابعه وملحقاته: ففي ايار مايو 1959 حُوّل 40 في المئة من مجموع الاراضي الزراعية الى يد الدولة. وفي 1960 صودر 50 في المئة من الطاقة الانتاجية الصناعية وجزء ضخم من الملكيات التجارية بما في ذلك الاغلبية الساحقة مما يملكه مواطنون اميركيون. ثم في 1961، ومع اعتماد الماركسية - اللينينية "مرشد عمل"، خطا التخطيط المركزي والمصادرة خطوات ابعد. وترافق هذا، بطبيعة الحال، مع سيادة التقنين في استخدام الطاقة كما في تأمين الحاجات. وبينما بلغ الهاربون والمنفيون في سنوات الثورة الاولى 400 الف نسمة، تراجعت مستويات الحياة نوعياً في هافانا، وأمسك بالبلد حكم الحزب الشيوعي الواحد فتأكد ان تعهّد كاسترو التزام دستور 1940 الديموقراطي لم يكن غير كلام ليل.
في هذه الغضون كان يتأسس احد الاحقاد السياسية الأصلب في التاريخ الحديث. فاذا اعتُبر النزاع التركي - اليوناني اطول في الزمن، ظل تفاوت الطرفين المتنازعين احد العناصر "الباهرة" والمثيرة للعواطف في الخصومة الاميركية - الكوبية. فواشنطن، قبل مصادرة الاراضي والاملاك من دون تعويض، كان أخافها لجوء الثوار الى خطف بعض الاميركيين في هافانا، ومنهم منظّم سباقات رالي السيارات. ولئن حاول كاسترو، من خلال ذلك، ايصال "رسالة" تفيد ان باتيستا لا يمسك الوضع بيد من حديد، وهو ما حاول الديكتاتور ايحاءه لواشنطن، فإن الأخيرة لم تستسغ "اللعب" على هذا النحو المتمادي. والى ذلك بدا صعباً استساغته من جزيرة كوبا بالذات، هي التي تبعد عن شواطئها الجنوبية 90 ميلاً فحسب، والتي عاشت طويلاً كامتداد ملحق بها. مذّاك تحركت النزعة الثأرية لثقافة الشمال الحدودية التي لم يزدها سلوك هافانا وارتماؤها في الحضن السوفياتي الا هيجاناً.
وبين أبوّة حقودة أرادت ان تتملّك ابنتها، وبنوّة تنبثّ المراهقة في مسامّ مسامها، تداعت الاحداث التالية الكبرى وتتالت. هكذا دخلت الحرب الباردة من بوّابة هافانا الى اميركا اللاتينية.
فقد جاء غزو خليج الخنازير في نيسان ابريل 1961 بعيد تسلّم جون كينيدي الرئاسة، لينتهي بمذلة نزلت بال 1200 منفي ومهاجر كوبي مدعومين بضباط من المخابرات الاميركية. وفي اواخر 1962 نشأت أزمة الصواريخ التي كادت تصير مواجهة نووية، وانتهت بأن سحبها نيكيتا خروتشوف من كوبا من دون مراجعة كاسترو، فأحسّ الاخير بضرب من الاهانة التي طوّقها بمزيد من الحذر حيال موسكو، ومزيد من التصعيد الثوري والعدائي حيال واشنطن.
وفي اواسط الستينات، وفي ذروة احتدام التنافس التنموي بين النموذجين، اعلن كاسترو ان ثورته تُحدث اصلاحات اجتماعية لكوبا تفوق ما يفعله "التحالف لأجل التقدم" لأميركا اللاتينية. ويومها لم يكن الزعم هذا عديم الأساس، منظوراً اليه بمنظار التوزيع الاعدل للناتج الوطني. فقبل الثورة كانت شروط الحياة الريفية أسوأ كثيراً جداً من شروط المدن. اذ، في 1956 مثلاً، كان السكان الريفيون، وهم 40 في المئة من الكوبيين آنذاك، يحصلون على 10 في المئة من الدخل الوطني. وكان 1 في المئة، الذين هم ملاكو الارض، يمسكون ب47 في المئة من الاراضي الصالحة للزراعة وتربية المواشي. ومنذ 1959 بات الفلاح الغواجيرو يتمتع بتعليم أوّلي وخدمات صحية وإسكان. كذلك تحسنت التغذية مع انها عادت، منذ 1962، تخضع مجدداً للتقنين. وبدوره تلقى العمل النقابي غير المنظّم دعماً ومساعدات من الدولة، علماً ان مثيله المنظّم والماهر والمديني تراجعت مساهمته تبعاً لتعويل النظام الثوري على الارياف اكثر مما على العاصمة.
واطلق كاسترو برامج صحية موسعة. وانتشرت الخدمات الاستشفائية فيما تراجعت نسب الوفيات خصوصاً للاطفال الذين استفادوا من الحملات ضد الاوبئة المعوية التي قُلّصت بنسبة 30 في المئة في غضون سنوات ثلاث.
وهذا ما لم يمض من دون نقد مستمر حتى اليوم. فقد تردد ان الاطباء كان يُرمى بهم في الممارسة العيادية قبل اكمال تدريبهم، وان الكثير من المستشفيات ناقص الاعداد، بينما يُحشد في العيادات الريفية المعاونون الطبيون انصاف المدرّبين.
وقال المعارضون وما زالوا يقولون ان التعليم والصحة ورقة توت النظام. اما الانجازات التي تمت فكان من المؤكد بلوغها خلال العقود الممتدة منذ 1959 باستبداد اقل وكلفة انسانية أضأل. وربما كان التحفظ الأوجه ان التعليم التكراري الذي يخلق الروبوت ولا يخلق المبدع، لم يهيئ البلد للحاق بسيولة الاسواق وتنافسها، وبالعولمة ومستلزماتها. فالسنوات الاشتراكية والسوفياتية ال42 انجزت محواً للأمية لا تعليماً، وهو محو أُرفق بمحو قدرات الجزيرة على استقبال المستقبل.
في مطلق الحالات رفع النظام الثوري منذ نشأته أجندة غنية واجه عناوينها بكثير من الحركة القابلة للنقاش والتأويل. ففي الاسكان مثلاً عانت كوبا، مثل جيرانها الكاريبيين، نقصاً في إيواء الطبقات والفئات الشعبية. فسارعت مع كاسترو إلى بناء وحدات جديدة. ومنذ عامها الاول خفضت السلطة الجديدة معظم الايجارات بنسبة 50 في المئة. وفي 1960 حوّلت المستأجرين مالكين لشققهم على ان يُسدّد ما كان في السابق ايجاراً على شكل قروض للحكومة، وعلى ان تُمدد فترة السداد الى ما بين 5 و20 سنة.
وعلى المدى البعيد عملت الاجراءات التي ادخلتها الثورة على اخضاع العائلة الريفية التي عاشت طويلاً مؤسسةً قوية، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً. فالنظام استأصل سلطة الآباء عن طريق تشجيع او اجبار الصغار على ممارسة عمل ما خارج العائلة ونطاقها. وأضحت الصبايا الصغيرات، الخاضعات قبلاً لسيطرة أبوية صارمة، يُرسلن مدة أسابيع للعمل في حقول قصب السكّر. الا ان سطوة الدولة حلّت محلها مثلما حلّت في اوساط الشبيبة عموماً. وهؤلاء الاخيرون ممن تحمّسوا لها، سهوا آنذاك عن الابوية المفرطة مأخوذين بنشوة المثالية الرومانسية والحريات المسلكية والجنسية.
لكن الوضع غير السيئ للمرأة قبل الثورة، بالمعايير الكاريبية، تحسّن اكثر. فالنساء بتن يُعيّنن ضابطات في الجيش، كما شُجّعن على اختيار مهنهن. ووفّرت الحكومة مراكز لحضانة الاطفال لم تتنام اعدادها كثيراً. كما قُدّمت للامهات المنجبات خدمات وفوائد. فالاجازة تمتد الى ستة اشهر، تعقبها ستة اشهر يمكن المنجبة فيها التغيّب من دون ان تفقد عملها.
بيد ان النظام شجّع ايضاً الزواج لا سيما بين افراد الفئات الشعبية، خصوصاً اولئك الذين تجمعهم مجالات مشتركة قطاعية وفي العمل. وبدورها وُفّرت مهن اخرى للخادمات وبائعات الهوى. وأولى الاتحاد الوطني للنساء الكوبيات، وفيه يومها 400 الف عضو، دوراً سياسياً اكبر للمرأة، وهو أيضاً ما فعلته "لجان الدفاع الشعبي عن الثورة" التي بلغت عضويتها مليونين.
وتميّز النظام الاشتراكي الكاريبي عن اقرانه في اوروبا الشرقية بدرجة بعيدة نسبياً من المساواتية في الاجور نجمت عن التفضيل الأصلي للمعنوي على المادي. وأدى هذا الى الحؤول دون ظهور طبقة شيوعية جديدة وفاسدة، ودون امتيازات يتمتع بها المديرون والكوادر الشيوعية بالمعنى الذي اطنب اليوغوسلافي ميلوفان دجيلاس في وصفه.
غير ان هذا كله، بجيده وسيئه، ما لم يُسأل فيه الكوبيون رأياً. وقد اطلق كاسترو في 1962 شعاراً معبّراً عن البيئة المغلقة للسلطة الثورية: "من ضمن الثورة كل شيء، من خارجها لا شيء". والى ذلك فالنزاهة على قاعدة الفقر المعمم لا تحلّ مشكلة، وإن عزّزت الصورة الطفلية المحببة لأصحابها. هكذا راحت موجات التطرف تتلاحق فلا تظهر واحدة الا لتتجاوز أختها، ولا تحلّ الاخرى الا لتتسبب في مزيد من البؤس. وفعلاً ما لبث ان صدر، في 1963، قانون ثان للاصلاح الزراعي دوّل الاراضي التي تتعدى مساحتها ال65 هكتاراً، مُرغماً 180 الفاً من الملاك الذين حوفظ على املاكهم حتى ذاك الحين على بيع انتاجهم للدولة. ولم يمرّ عامان آخران حتى شُكّلت "وحدات عسكرية لمساعدة الانتاج" هي بمثابة معسكرات عمل تعيد تربية "الهامشيين" و"الكسالى" وسائر "الطفيليات الاجتماعية". وطاول عقد المشمولين بهذا النبذ المعارضين والمشتبه في معارضتهم، ورجال الكنيسة خصوصاً ذوي الرتب الاعلى بينهم. لكن المثليين الجنسيين هم الذين وُفّرت لهم الحصة الاكبر من القسوة والتنكيل.
واستمرت الحال التصاعدية هكذا على امتداد الستينات، لا يحدّ منها، ولو قليلاً، الا التدخّل السوفياتي. لكن موسكو عجزت، في 1968، عن ردع كاسترو الذي محضها التأييد في تشيكوسلوفاكيا وهو ما يعنيها اكثر كثيراً مما يعنيها نهجه الاقتصادي. فتحت طبقة كثيفة من الدخان الايديولوجي و"النظري"، أنهي الاقتصاد الحرّ بتاتاً إذ تمت مصادرة المخازن الصغرى ومكاتب الخدمات ومُنعت تجارة الباعة الجوالين وأُممت ورشات الصناعة اليدوية. ومن دون غيفارا الذي كان قضى قبل أشهر في بوليفيا، مضى الهذيان يعمل ويتضخّم: فأعلن كاسترو، في خطاب شهير له عامذاك، ان جزيرته الصغيرة ستبلغ المرحلة الشيوعية قبل اي بلد اشتراكي آخر. وزمّ السوفيات شفاههم بخليط من الانزعاج والسخرية والتعالي، لكنهم تظاهروا بالتفهّم لأن الأولوية دائماً لاعتبارات الحرب الباردة المتفاقمة كونياً حينذاك.
ثم كان العام 1970 عام الذروة الثورية. فقد رقص تطرف العزلة والتحدي مع اميركا وتحقيق طوبى "الانسان الجديد" والمزايدة على السوفيات و"ترهّلهم البيروقراطي"، رقصته المشهدية الاسطع. وكالعادة ترافق الاعلان عن هذه السياسة مع خطاب لكاسترو دام ست ساعات ونصف الساعة، فلم يفقه طولاً الا خطابه لحظة الوصول الى هافانا عام 1959 والذي بلغ سبع ساعات بأمّها وأبيها.
فتكراراً لما فعله الصينيون في "القفزة الكبرى الى الامام"، أحكمت السلطة قبضتها على الاقتصاد الزراعي كله. وكما في الصين كان الفشل حليف كاسترو في طموحه الى رفع محصول قصب السكّر، العماد التقليدي للاقتصاد، الى 10 ملايين طن. وبنتيجة فعلته هذه أصيب الاقتصاد بشلل عالجته القيادة باعتماد المزيد من الاجراءات الراديكالية. وعلى هذا النحو "عُسكر الانتاج" في 1971 وصدر "قانون الكسل" الذي استهدف "المتبطّلين" ولاحق اكثر من 50 الف شخص متهمين بالاستنكاف عن العمل. وثقافياً اعتُمد، في الوقت نفسه، مفهوم متزمّت ل"الواقعية الاشتراكية" في صيغة جدانوفية. فعصفت بالمثقفين ونشاطهم حملة لم تهدأ نسبياً الا في 1982.
في تلك الغضون راحت المسافة تتسع بين قسوة الحكم ورومانسية مؤيديه من المحكومين، خصوصاً صغار السن ممن عوّلت عليهم قبلاً. فكيف وأن القسوة هذه كفّت عن ان تلبّي ما تعد به فيما طغت قسماتها المحافظة طغياناً بعيداً على شبابيتها الأولى. فهي ربّ عمل كبير معاد للحياة والمتعة، للشمس والبحر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.