عندما أقرأ كتابات بعض المثقفين العرب والموجودين منهم في أوروبا خاصة العفيف الأخضر مثلاً تتبادر الى ذهني صورة منحوتة تمثال الرجل المفكر الذي يحمل الكرة الأرضية على كتفيه. وأقول لنفسي لمَ لا يرخي هذا المثقف هذا الحمل الوهمي عن كتفيه؟ لمَ لا يتواضع قليلاً ويعرف حدود دوره ومحدوديته؟ لمَ لا يترك الانتفاضة والمنتفضين يؤدون دورهم من دون نصائح المتفرجين عن بعد والمتعجلين عقد اتفاقات قبل أن يغيّر الاسرائيليون عروضهم السخية ويتراجعون عنها؟ لمَ لا يتركون صبية الحجارة يرشقون حجارتهم كما يريدون من دون تنظير ويتركون جانباً التحليل النفسي وعلاقة هذا الصبي بوالده الفعلي وخلطها مع صورة الأب الرمزي ومثال الأب؟ لقد أعادت أوروبا قراءة تاريخها وأعادت تأويل الانجيل ولم يبق محرماً الا تم التعامل معه بحس نقدي وبحرية نسبية. الماركسية أصبحت نسبية، والآن يحاول بعض المسلمين فتح باب الاجتهاد وإعادة قراءة النصوص المقدسة قراءة تاريخية وإعادة تأويلها بما يتلاءم مع التحديات المعاصرة. ما عدا بعض العرب الذين، وبعد أن تعرفوا على نظرية التحليل النفسي وبعد أن تعرفوا على عقدة أوديب وفكرة الأنا والأنا الأعلى ومثال الأنا، ارتاح وجدانهم وحملوا عدّتهم ومشوا يدبون في الأرض لا يلوون على شيء ولا يريدون فتح أعينهم أو آذانهم ووعيهم أو لا وعيهم كي يستوعبوا المستجدات من حولهم وكي ينظروا الى الفلسطيني، أباً وابناً، بعيون جديدة. ألاحظ دائماً سهولة انتقال المنظرين العرب من المستوى التحليلي الفردي الى المستوى العام والجماعي والاجتماعي. وسهولة وصف الشعب العربي بالبارانويا أو الهستيريا أو العصاب، من دون تدقيق أو تمحيص في معنى هذه النعوت وفي مغزى رميها في وجه شعوب بكاملها؟ هل هذا موقف مقبول علمياً؟ أو أن نظرية التحليل النفسي العلمية تتحول على أيديهم الى أداة سحرية والى سلاح ايديولوجي نرميه في وجه كل من لا يتبع تمنياتهم ورغباتهم؟ يعرف الفيزيائيون والكيميائيون أن التفاعل الذي يحصل في مكان فارغ يختلف عنه في مكان مكتظ. أليس من الأفضل الحذر على هذا المستوى وعدم التسرع في الانتقال من أواليات العصاب الفردي الى العصاب الجماعي وخاصة عندما نلصقه بالشعوب العربية؟ وأن عقدة أوديب قد تساعد في بعض الظروف فهي موضع نقاش وجدل ليس هنا موضوعه... تكفي الاشارة الى كتاب جيفري ماسون على تفهم نفسية الفرد لكنها لا تنجح بالضرورة في تحليل نفسية "الانتفاضة الفلسطينية" بأجمعها؟ أو نفسية المنتفضين؟ ان نظرية التحليل النفسي ذاتها تشير الى أن الجماعة هي أكثر من مجموع أفرادها انظر لوبون وأن اجتماعهم يؤدي الى تفاعل وتعبير نفسي مختلف عن وضعية كل فرد على حدة. ثم ماذا لو أن النظرية تتعرض للتعديل؟ ماذا لو أنها غير صحيحة هذه المرة؟ ماذا لو أن على مثقفينا تبديل عدتهم الجاهزة لأن الأدوات التقليدية لم تعد تصلح؟ هل نكذّب الوقائع من أجل الآراء المسبقة التي تعشش في بعض الرؤوس؟ ماذا لو أن صورة العنف المصوّر والمبثوث على الشاشات الفلسطينية غذّت الانتفاضة في قراءة مختلفة على عكس قراءة "احدى ناشطات حقوق الانسان في فلسطين" عندما تحدثت عن: "الآثار النفسية الوخيمة" للعنف الاسرائيلي ولصوره في الفضائيات على نفسية الأطفال الفلسطينيين، مثل عرض مشهد قتل الطفل محمد الدرة وهو في أحضان أبيه على مدار الساعة في التلفزيون الفلسطيني بما أطاح صورة الأب في مخيال الأطفال الفلسطينيين بما هو رمز الحماية الذي لا يقهر؟ الأمر الذي ترتبت عليه نتائج وبيلة على عملية التماهي بالأب الذي يلعب دوراً مهماً في تكوين الأنا الوعي ومثال الأنا الأعلى، أي الأب الرمزي الذي سيهتدي به المرء فكراً وممارسة طوال حياته". هل لا يزال الأب الرمزي العربي فاعلاً في المخيال العربي هذا بعد كل الهزائم التي مررنا بها؟ وهل نبحث عن هذا الأب الرمزي عند "أي أب" واقعي نصادفه حولنا؟ أم هو أبعد من ذلك وأعمق؟ أوَلم تهتز صورة الأب ومثاله منذ ما قبل قتل محمد الدرة في حضن والده الذي لم يستطع حمايته ربما لأنه لم يصدّق أن تصل همجية القرن العشرين المتحضرة الى حد اغتيال الأطفال خلسة عن حماية الأب وبالرغم منها؟ ولماذا اشتعلت الانتفاضة مجدداً، هل لأن الفلسطيني نسي تاريخ الهزائم العربية أم لأنه تذكرها على العكس واعتقد بامكانية تخطيها، خاصة النموذج الارشادي الذي تمثل في تحرير الجنوب بقوة المقاوة والذي لعب دور المحفز والمثير في إشعال الانتفاضة مجدداً بعد أن خمدت؟ يستدعي هذا التساؤل حول من لعب دور الأب الرمزي للمقاتلين اللبنانيين والجنوبيين منهم خاصة هذا كي نتجنب ذكر مقاتلي حزب الله ورموزه حفاظاً على أعصاب البعض كي لا تشتعل؟ أم أن الجنوب تحرر لأن الاسرائيليين أقاموا اتفاقات سرية مع حزب الله كما كتب البعض؟ أم انهم أرادوا تقديم هدية للبنانيين والعرب بمناسبة الألفية الثالثة؟ عقدة أوديب ورمز الأب ومثال الأب وقتل الأب؟ لم لا نتساءل ماذا لو أن الأسطورة هي نفسها موضع تساؤل؟ ماذا لو أن التأويل كان مقلوباً؟ ماذا لو أن مرشدنا في هذا العالم أسطورة أخرى غيرها؟ ماذا لو أن الأساطير تنفي بعضها البعض؟ أوديب قتل أباه؟ يكتب آرييس أن للمؤرخ قراءة مختلفة عن قراءة فرويد، الذي يجدها ساذجة، وأن فرويد قرأ التاريخ بالمقلوب. فليس أوديب هو الذي اعتدى على أبيه، بل العكس: الأب هو الذي أرسل أوديب بعيداً كي يُقتل. الأهل هم المذنبون بحسب هذه الأسطورة وليس الطفل؟ فماذا يصبح رمز الأب ومثاله عند ذلك؟ وبهذا المعنى ربما حرر ضعف الآباء العرب الأبناء من ثقلهم ومن عجزهم وجعلهم يثورون ويتأثرون لأنفسهم من آبائهم ولهم كما هو حاصل فعلاً؟ نترك الواقع ونترك المكاسب الفعلية الممكنة من أجل تحليل نفسي؟ ونهمل كل ما قد يحققه الفلسطينيون حقاً، فقط لو أننا نعطيهم الفرصة وندعمهم معنوياً ومادياً ونؤمن بانتصارهم المرتقب ونساعدهم على احتمال وضعهم، غير المحتمل، كي نوطد ثقتهم بأنفسهم وبطريقهم الذي اختاروه بدل تثبيط همتهم وتخويفهم؟ هل من قاع أعمق ويأس أكبر مما وصل اليه الفلسطينيون؟ وعلى أي مكسب عليهم أن يحافظوا إذا ما أوقفوا دورة العنف؟ فأي تبجح هو أكبر من تبجح وغرور وتسلط وعنصرية الاسرائيلي؟ الاسرائيلي هنا بمعنى الصفة الغالبة ولا أرغب أن أقوّل أنا نفسي ما لم أقله، نعم هناك اسرائيليون أصدقاء وديموقراطيون ومتعاطفون، ولكنهم أقلية تكاد لا تظهر. ومع ذلك علينا أن لا ننسى تذكير أطفال الانتفاضة بهشاشة الاسرائيلي وضعفه ورفضه التضحية في الوقت نفسه. على كل حال ليست المشكلة في فرويد أو في النظرية الفرويدية. فرويد نتاج مرحلة تاريخية معينة استخدم المعارف التي كانت في حقبته وعرف ذلك وقرأ مجتمعه الذي عاش فيه قراءة في منتهى الذكاء واستطاع اعطاء هديته الرائعة للانسانية المتمثلة في اكتشافه للاوعي. المشكلة تمكن في التحجر والتوقف عند رؤية جامدة من ناحية وفي نقل التحليل الذي ينطبق على فرد من أجل تعميمه على شعب بكامله أو على مجتمعات بشموليتها. ومن معالم الفقر النفسي وضعف الخيال تعميم ترسيمة نفسية تنطبق على فرد مريض أو عصابي وتطبيقها على شعوب ومجتمعات من دون أي رادع للنشاط اللفظي المتفلت من عقاله، والذي يصبح أشبه بالهذيان نفسه الذي يحاول التحليل المزعوم الاشارة اليه وادانته. المشكلة تكمن في قصر النَّفَس عند المثقف وفي تبجحه.