من المذهل مشاهدة التغير في دور القدس. فقد أصر جميع الاسرائيليين تقريباً، ومعهم اصدقاؤهم الأميركيون الكثر، منذ اكثر من ثلاثين سنة على أن قضية القدس "من الصعوبة بحيث علينا، اذا أردنا التقدم في المفاوضات، تركها الى الأخير". لنا ان نلاحظ ان القائلين لم يبدوا حماسة كبيرة للتقدم في أي من القضايا الأخرى. وفيما استمر الاسرائيليون، عقداً بعد عقد، على رفض مجرد الاعتراف بإمكان التحادث في قضية القدس، فقد استغلوا سيطرتهم على المدينة لكي يحيطوا قسمها الشرقي ويتخللوه، في شكل لا قانوني تماماً، بقلاع كبرى يسكنها مستوطنوهم. لكنهم بدأوا بالقول لنا فجأة هذا الصيف إن القدس يمكن ان تكون "المفتاح" لكل المفاوضات! وكما حصل مراراً في الماضي لم يشعروا بأن عليهم ايضاح السبب في هذا الانقلاب، خصوصاً الى لأولئك الذين كانوا يناشدونهم طوال هذه السنوات البدء بمفاوضات جدية على القدس. نتذكر انقلاب موقفهم من منظمة التحرير الفلسطينية، من اعتبارها منظمة ارهابية لا غير الى وصفها بأنها صديقة ومنقذة اسرائيل، وكل ذلك في يوم واحد! لم تكن هناك ايضاحات. فقد قررت القوة قرارها ولا حاجة إلى إيضاحات. وكان كثيرون منا، كل على مستواه المتواضع، واصل مطالبة الاسرائيليين بالتخلي عن تلك ال"لا" الطفولية حول القدس والتفاوض بجدية على مستقبلها، وان ليس من اتفاق نهائي مع الفلسطينيين من دون الاتفاق على القدس. والآن ليس لنا سوى ان نشكر لكم، ايها الاصدقاء، تغييركم المفاجىء لموقفكم، وان كان الأفضل لو تكرمتم احياناً بالاعتراف العلني بأنكم كنتم على خطأ وتكشف لكم الصواب الآن. هناك سؤال آخر مهم: اذا كانت القدس الآن "المفتاح" الى التسوية، كما تخبرنا أوساط حزب العمل، الا يحتمل انها كانت "مفتاحاً" أكثر فاعلية في الماضي، قبل ثلاثين سنة مثلاً، عندما كان لا يزال في قسمها الشرقي مجتمع متكامل، وقبل كل الألم والقتل والاضطهاد والسلب والتشريد، وقبل زرع ألوف المستوطنين نعلم انهم وضعوا هناك بناء على خطط أرييل شارون وأمثاله من المتشددين بهدف جعل أية تسوية أصعب مئة مرة مما كان يمكن ان تكون عليه؟ ما الذي حول القدس فجأة الى "مفتاح"؟ انهم لا يقولون. ولكن كم أحب أن أسمع توضيحهم. هل هناك الآن خطر الانبهار بادخال القدس في المفاوضات؟ هل تعتقد الأطراف - من يينها ذلك الشيخ العاطفي ياسر عرفات - انها حققت بذلك "اختراقاً" فتسارع الى اتفاق لا يقدم حلاً مرضياً للقضايا الأخرى المعلقة؟ اعتقد، كما كتبت سابقاً، أن اتفاقاً لا يلبي كل حقوق الفلسطينيين قد يستحق تأييدهم اذا قدّم إليهم سلاماً حقيقياً وأيضاً ما يكفي من تلك المادة الثمينة - "الأمل بالمستقبل". لكن هناك حاجة الى تفحص ومناقشة كل بنود اتفاق كهذا، وعلى كل القضايا. عندها فقط يمكنا الفلسطينيين أن يقرروا صلاحيته لهم. "السيادة الالهية". ما معنى العبارة؟ اعتقد أن فريقاً كبيراً من المؤمنين المخلصين يرون انها لا تعني الكثير، لأن السيادة الالهية بالنسبة إلى المؤمن تنبسط على كل الخليقة، أي ان هذا الحائط أو ذلك المسجد لا يمكن ان يكون خارج تلك السيادة لكي نعود ونضعه تحتها! الفكرة بالطبع ليست جديدة. فقد ساد في أوروبا العصر الوسيط معتقد أطّرته قوانين الكنيسة الكاثوليكية في أن أوروبا تقع تحت "السيادة الالهية". ولنا أن نتذكر أن ذلك العصر السعيد كان أيضاً عصر محاولات توسيع رقعة "السلطة الالهية" تلك بطرق مثل الحروب الصليبية واستعادة الأندلس ومحاكم التفتيش. واذا كانت هناك نتائج بشعة لذلك على الشعوب المحيطة بالامبراطورية الرومانية الكاثوليكية المقدسة، فان النتائج لم تكن أفضل للشعوب في الداخل. فمن بين مشاكل مفهوم "السيادة الآلهية" ان السلطة الفعلية على الأرض تبقى بلا تحديد مثلا. وفي ما يخص موضوعنا، من ستكون الجهة التي لها ان تعطي أو تمنع الترخيص بإقامة المباني أو شق الطرق أو انشاء شبكات الصرف... الخ؟ بكلمة أخرى، لا بد من ان تكون هناك جهة أرضية تمارس تلك السيادة. والا فهل نتصور ان قادة فلسطين واسرائيل والولايات المتحدة سيجتمعون للصلاة وانتظار الوحي كلما أرادوا بت طلب للبناء؟ اعتقد هذا يعيدنا الى نقطة البداية، اذ لا بد من أن يكون القرار بيد شخص على الأرض أو مؤسسة دنيوية. ملاحظة تاريخية اضافية: في أوروبا أوائل القرن السابع عشر قادت الفوضى الداخلية المتزايدة، وهي النتيجة الطبيعية لمفهوم "السيادة الالهية"، الى "حرب الثلاثين سنة" التي نشرت الدمار في القارة. في النهاية اجتمع امراء اوروبا في وستفاليا في المانيا عام 1648 واتفقوا على ضرورة انهاء هذا المفهوم للسيادة والاستعاضة عنه بالمفهوم السياسي الدنيوي. واقتسموا بناء على ذلك أراضي القارة في ما بينهم تاركين قطعة صغيرة من الأرض حول فيينا ل"الامبراطور الروماني المقدس". واتفقوا على عدم تحدي السيادة والسلطة لأي منهم على اراضيه. لم يكن هذا حلاً ديموقراطياً، لكنه كان أفضل بكثير للأوروبيين من الحروب الدائمة ومحاولات الفرض الأيديولوجي البابوي السائدة قبل ذلك. وبعد معاهدة وستفاليا، تمكن الملوك والأمراء مالكو السيادة من تطوير مختلف النظم السياسية والدينية في أراضيهم. وفتح السلام الذي عم أوروبا بعد ذلك وما رافقه من تنوع سياسي، الطريق الى الازدهار الاقتصادي والسياسي والثقافي العظيم في القارة خلال الحقبة التالية. هذه كانت ولادة النظام الحديث للدول السيدة الذي انتشر بعد ذلك ليشمل العالم - النظام الذي يحاول الفلسطينيون الانضمام اليه من خلال دولة حائزة على كامل الاعتراف. يذكرنا المؤرخ المرموق ستانلي هوفمان بأن معاهدة وستفاليا سعت الى حل عدد من المشاكل الرئيسية في نظام ما قبل 1648، من بينها مشكلتا "تداخل السيادة وتشتت الممتلكات". واذا كان هذا النوع من المشاكل هو ما يجري حله تحت نظام سيادة الدولة، هل ستنجح السيادة التي يحصل عليها الفسلطينيون من خلال المفاوضات في تخطيها؟ علينا الانتظار لكي نرى. وأياً كان الأمر فان المنظور التاريخي يرينا أن الوضوح الجغرافي والقانوني عنصران مهمان في أي اتفاق ناجح. * كاتبة بريطانية متخصصة في شؤون الشرق الأوسط.