اهتزت القواعد التقليدية للعبة «العملية السلمية» هذا الأسبوع في نيويورك نتيجة مواقف للرئيس الفلسطيني محمود عباس اتخذت من عضوية فلسطين في الأممالمتحدة غطاء لها، فيما فحواها ارتكز على قرار قطع الطريق على استمرار «عملية السلام» كمجرد عملية تخديرية. دخلت العلاقة الفلسطينية - الأميركية مرحلة مختلفة عن السابق بعدما ثابر «أبو مازن» في تعهده طلب عضوية فلسطين عبر مجلس الأمن حيث كان الفيتو الأميركي في انتظاره. وارتفعت وتيرة الضغوط الغربية الى درجة التخويف من عدم توافر الأصوات التسعة اللازمة لتبني قرار العضوية والعمل على امتناع الأوروبيين عن التصويت كي لا يضطر الرئيس الأميركي باراك أوباما لاستخدام الفيتو ضد مشروع قرار العضوية. ارتباك الأوروبيين والإدارة الأميركية بعث رسائل متناقضة ومبعثرة، إنما الرئيس الفلسطيني لم يتراجع عن استراتيجية طلب «عضوية كاملة» لفلسطين مع إبقاء الباب مفتوحاً لمفاوضات على صيغ أخرى تضمن مرتبة «الدولة المراقبة غير العضو» في الأممالمتحدة عبر قرار في الجمعية العامة. وبعدما وصل «عض الأصابع» الى مرحلة متقدمة عند الأميركيين والفلسطينيين والأوروبيين والعرب على السواء، قرر أوباما أن يلتقي عباس بعدما كان برنامجه خالياً من ذلك اللقاء. فقد أدرك أوباما أن عباس لم يزجه في خانة الإحراج الشخصي أثناء وجوده في نيويورك للمشاركة في الدورة الى 66 للجمعية العامة، إذ انه تجنب تقديم طلب العضوية باكراً الى الأمين العام ومجلس الأمن، وتجنب التوجه الى الجمعية العامة ساعياً وراء مرتبة «دولة مراقبة» أثناء وجود الرؤساء في نيويورك. هكذا تجنب عباس إحراج أوباما شخصياً، ولربما أدرك الرئيس الأميركي أن توقيت تسليم الرئيس الفلسطيني طلب العضوية الكاملة الى الأمين العام بان كي مون اليوم الجمعة لم يكن من أجل المواجهة وإنما من أجل إعادة فرز «العملية السلمية» كي لا تبقى مجمّدة في مجرد «عملية» وعود. ولربما كانت استراتيجية عباس منذ البداية تحريك «التوقف التام» في العملية التفاوضية، عبر طرح مسألة عضوية فلسطين، لإبلاغ كل من يعنيه الأمر أن جديداً طرأ على تفكير القيادة الفلسطينية. هذا الجديد هو أن هناك وسيلة أخرى لتحصيل الحق الفلسطيني، ليس عبر انتفاضة مُسلّحة، وإنما عبر هيكليات العدالة الدولية التي يمكن للفلسطينيين الاحتكام إليها في مواجهة التجاوزات الإسرائيلية التي قد تدخل في خانة جرائم حرب أو إفرازات جماعية للاحتلال. هذا لا يعني الاستغناء عن مسار المفاوضات وإنما الاستغناء عن أمثال «اللجنة الرباعية» التي عيّنت طوني بلير مبعوثاً فاشلاً لها وباتت آلية لإصدار البيانات والمماطلة في معالجة الاستحقاقات على الأرض. ويعني أيضاً توقف استعداد القيادة الفلسطينية لأن تكون رهينة العملية الانتخابية في الولاياتالمتحدة. وربما يعني أن القيادة الفلسطينية بلغت حائطاً مسدوداً مع إدارة أوباما حيث عاطفة الرئيس مواسية وجيدة، إنما رئيس الطاقم الذي سلمه أوباما ملف «عملية السلام» ليس سوى «مستر عملية» نفسه دنيس روس الذي استخدم «عملية السلام» لمجرد «إدارة» النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي وليس لإيجاد حل صادق له على أساس حل الدولتين. المهم، إن ما حدث في نيويورك هو إعادة خلط للأوراق قد لا ينتهي بمواجهة، بل بتفاقم على صيغة «تؤجِّل» بتّ طلب العضوية المودع لدى مجلس الأمن مع تفعيل طلب «اللاعضوية» عبر «الدولة المراقبة غير العضو» مع العمل الدؤوب على أسس جديدة للمسيرة السلمية. وقد ينتهي في مواجهة جديدة نوعياً. الصيغة التي جرى تداولها هذا الأسبوع لا تنطلق من عدول الرئيس الفلسطيني عن تعهده طلب العضوية ولا من تراجع له عن السعي وراء تلك العضوية، إنما من الإقرار بأن عباس طرح معادلة جديدة لا عودة عنها وهي تسليم بان كي مون الطلب الرسمي لعضوية كاملة لفلسطين في الأممالمتحدة. بعد ذلك، يحيل الأمين العام الطلب على مجلس الأمن. ماذا عندئذ؟ بحسب عناصر الصيغة المتداولة، يُطلَب من مجلس الأمن «تأجيل» بتّ طلب «العضوية» الى وقت لاحق. في هذه الأثناء يتم التحرك في الجمعية العامة سعياً وراء رفع مستوى تمثيل فلسطين الى «دولة غير عضو» لها حقوق وامتيازات تشمل إيداع طلب الانضمام الى المحكمة الجنائية الدولية لدى الأمين العام للأمم المتحدة. وبهذا، يتم تجنب معركة الفيتو الأميركي أو الامتناعات الأوروبية عن التصويت في مجلس الأمن، ويتحرك جميع المعنيين في دفع المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية جدياً نحو الاستكمال في غضون سنة كي لا تبقى «العملية السلمية» مطاطة بلا أفق زمني. وهذا ما جاء عملياً في طروحات الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي من منصة الجمعية العامة في خطابه قبل يومين. إنما هناك اختلاف على تفسير قانوني للطلبين في مجلس الأمن والجمعية العامة، ذلك أن رأي الأممالمتحدة القانوني هو أنه لا يجوز طلب العضوية في كل من مجلس الأمن والأممالمتحدة في آن واحد. وبالتالي، لا بد من حسم مصير طلب العضوية في مجلس الأمن - حيث لا عودة عنه بعد أن يسلمه الرئيس الفلسطيني الى الأمين العام - وبعد ذلك، يمكن التحرك في الجمعية العامة. وبالتالي نتيجة هذا الرأي القانوني، يمكن تجنب الفيتو الأميركي أو الامتناعات الأوروبية. إلا أن هناك رأياً قانونياً آخر ينطلق من التدقيق في لغة الطلب الفلسطيني من كل من مجلس الأمن والجمعية العامة. بحسب هذا الرأي، يمكن الرئيس الفلسطيني أن يطلب أن تكون فلسطين «عضواً» كاملاً في الأممالمتحدة من خلال مجلس الأمن، وفي الوقت ذاته أن يطلب من الجمعية العامة أن تكون لفلسطين مكانة الدولة المراقبة «غير العضو» في الأممالمتحدة. أي أن صيغة كهذه تتجنب ما يمنعه ميثاق وقواعد الأممالمتحدة من طلب «العضوية» عبر مجلس الأمن والجمعية العامة في آن واحد. إذا سار مسار هذا التفسير القانوني بلا تحدٍ أو عرقلة، يمكن عندئذ «تأجيل» طلب العضوية في مجلس الأمن وليس تجميده بمجرد إيداعه في المجلس بلا تصويت عليه. في هذه الأثناء، يجوز التوجه الى الجمعية العامة حيث هناك ما يكفي من الأصوات لتبني قرار رفع مستوى تمثيل فلسطين من «مراقب» الى «دولة مراقبة». وحالما تصبح مكانة فلسطين «دولة»، يحق لها طلب الانضمام الى الوكالات الدولية، حتى وإن لم تكن دولة كاملة العضوية في الأممالمتحدة. هذا الإخراج، إذا لم يتعثر، لن يكون نهاية الطريق، بل بدايتها. ذلك أن الإطار الزمني الذي اقترحه ساركوزي لتفعيل المفاوضات في غضون شهر لاستكمالها في غضون سنة، هو الرد الذي سعى وراءه عباس عندما توجه الى الأممالمتحدة معلناً عدم تراجعه عن طلب العضوية الكاملة من مجلس الأمن. رسالته الأساسية كانت موجهة الى الرئيس الأميركي بأنه لن يتمكن من «صرف» عاطفته مهما كانت صادقة، في بنك إزالة الاحتلال وتحقيق دولة فلسطين. لربما غامر عباس عندما زج باراك أوباما في زاوية الإحراج، ولربما أفاده. فالجمهوريون يشنون حملة مخزية على المرشح الديموقراطي للرئاسة عنوانها إنه يخذل إسرائيل. استخدام أوباما الفيتو على دولة فلسطين في مجلس الأمن قد ينفعه ويسحب البساط من تحت أقدام منافسيه من الجمهوريين. بعد الانتخابات، لكل حادث حديث، لا سيما أن هناك ازدياد في الوعي بأن مفعول «العملية السلمية» زال، وحان وقت الخيارات الأخرى. هذا الوعي يزداد في صفوف الرأي العام العالمي لكنه يغيب تماماً عن معظم أعضاء الكونغرس الأميركي الذي يغرقون في جهل مكلف للمصلحة القومية الأميركية. رهان عباس ليس مضمون النجاح والتأثير والمفعول أولاً، لما قد يثيره من انتقام في الكونغرس بحجب الأموال، وثانياً، لما قد يستخدمه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو لغاياته الاستراتيجية والسياسية على السواء. ومن ناحية قطع المعونات المالية من الكونغرس للسلطة الفلسطينية، دخل التعويض عن إجراء كهذا أذهان القيادات العربية والإسلامية كما كان واضحاً في إقدام المملكة العربية السعودية على توفير 200 مليون دولار للسلطة الفلسطينية. أما إجراءات أو مغامرات نتانياهو فهي التي تُشغل البال. وقد يدرك الرجل أن لا مناص من الجدية في صنع السلام والتوصل حقاً الى حل الدولتين بعدما بات واضحاً انتهاء مفعول «عملية السلام» كمخدِّر يطيل الاحتلال ويؤجل ضرورة اتخاذ القرار الجريء والشجاع. وقد يستغل نتانياهو سعي فلسطين وراء عضوية في الأممالمتحدة - وهو حق طبيعي لها إذا كان حل الدولتين جدياً وصادقاً - لتفجير أمني يمكّنه من فرض واقع جديد في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة وداخل إسرائيل حيث يريد نتانياهو حلاً جذرياً للأزمة «الديموغرافية». هذا الحل في رأي بعض الإسرائيليين ليس ممكناً من دون الإبعاد القسري الجماعي للفلسطينيين داخل إسرائيل كي تكون إسرائيل «دولة يهودية» محضة في نوع من «التنظيف العرقي». رهان العقلاء يقع على الضمير العالمي، إنما لا أحد يعرف كيف تصطف الدول والحكومات عندما يُفرَض واقع على الأرض يتحدى الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية من حيث تلقائية دعمها إسرائيل. لن تكون مغامرة كهذه سهلة على الإسرائيليين أنفسهم. فهناك شطر مهم من الرأي العام الإسرائيلي يتفهم الإحباط الذي وصل إليه الفلسطينيون ويطالب بجدية العمل على حل الدولتين بدلاً من ارتهانه في «عملية» باتت بائسة. قد تتنحى الولاياتالمتحدة، موقتاً أو مرحلياً، عن جهود صنع السلام الفلسطيني - الإسرائيلي لا كونها حليفاً قاطعاً لأحد طرفي النزاع لن يمكنها من لعب دور الوسيط العادل. ولربما من المفيد أن يلعب الأوروبيون دوراً فاعلاً في هذه الأثناء، إنما ذلك يتطلب منهم الجدية في التعامل مع كل من طرفي النزاع بكل الأدوات المتاحة. إنها لمرحلة صعبة آتية، قد تكون ضرورية، وقد تكون مسيئة أو مفيدة. إنها في أي حال مرحلة إعادة خلط أوراق وقواعد العملية التفاوضية السلمية. الرئيس الفلسطيني أوضح دائماً أنه يعارض انتفاضة عسكرية مسلحة ثالثة لأنها في رأيه ستؤدي الى الفتك بالفلسطينيين. وما فعله هذا الأسبوع في نيويورك يكاد يكون انتفاضة مدنية، عبر هيكليات وآليات دولية، على «عملية السلام» كمخدر وراعٍ لاستمرار الاحتلال، انتفاضة مدنية ضد الاحتلال عبر قنوات العدالة، نتيجتها مجهولة.