الصندوق السعودي للتنمية ومجموعة البنك الأفريقي للتنمية يوقّعان مذكرة تفاهم لتعزيز التنمية الدولية المستدامة    تقرير رؤية المملكة 2030.. الأرقام تشهد    رئيس مجلس الوزراء العراقي يغادر الرياض    الخليج والصفا.. تحدٍّ جديد في دوري اليد    إدارة تعليم جدة تقرر تحويل الدراسة "عن بعد" غداً    «بنات ألفة» يقتحم أسوان للأفلام    قلق في مجلس الأمن من هجوم وشيك على الفاشر    برعاية محافظ الطائف.. انطلاق فعاليات مهرجان الورد الطائفي «قطاف 19»    عباس يحذر من التهجير: وضع غزة مؤسف    روسيا وأوكرانيا تتبادلان إسقاط المسيرات    «الخارجية»: المملكة تعرب عن بالغ قلقها جراء تصاعد التوترات العسكرية شمال دارفور    أسير فلسطيني يفوز بالبوكر عن «قناع بلون السماء»    سمو أمير منطقة الباحة يستقبل مدير عام فرع وزارة النقل والخدمات اللوجستية بالمنطقة ويتسلم تقرير عن الحالة المطرية    الوسطية والاعتدال أبرز قضايا مؤتمر "تعزيز قيم الانتماء الوطني والتعايش السلمي"    معلومات عن باستيان حَكَم مباراة الاتحاد والهلال    حتى لا نفقد هيبة الأخضر في آسيا    أولى رحلات خطوط شرق الصين الجوية تصل السعودية    وزير الخارجية يلتقي نائبة وزيرة خارجية المكسيك    ولي العهد وأمير الكويت يستعرضان أوجه العلاقات الأخوية بين البلدين الشقيقين    الاتفاق يفتح ملف الفيحاء    حفلات فنان العرب مؤجله حتى إشعار آخر    رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي: السعودية شهدت تطورا يعكس طموحها الاقتصادي    افتتاح الملتقى السنوي الثاني للأطباء السعوديين في إيرلندا    منتدى الرعاية الصحية السعودي الأمريكي يحتفي بالابتكار والتعاون في تكنولوجيا الرعاية الصحية    أشباح رقمية    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبدالرحمن بن فيصل بن معمر    نائب أمير منطقة مكة المكرمة يستقبل الرئيس التنفيذي لبنك التنمية الاجتماعية    أمير تبوك يواسي أبناء أحمد الغبان في وفاة والدهم    مؤتمر أورام الكبد يختتم فعالياته بالخبر بتوصياتً هامة    وكيل محافظة الزلفي يدشّن فعاليات أسبوع البيئة    ساعة أغنى رُكاب "تيتانيك" ب1.46 مليون دولار    رسمياً.. الزي الوطني إلزامي لموظفي الجهات الحكومية    صدور الموافقة السامية علي تكليف الأستاذ الدكتور عبدالله بن عبد العزيز التميم رئيساً لجامعة الأمير سطام    فرنسا تطرح مقترحات لمنع الحرب بين إسرائيل وحزب الله    أمطار تؤدي لجريان السيول بعدد من المناطق    وزير الدفاع يرعى تخريج الدفعة (82) حربية    «هندوراس»: إعفاء المواطنين السعوديين من تأشيرة الدخول    وفاة الأمير منصور بن بدر بن سعود بن عبدالعزيز آل سعود    طابة .. قرية تاريخية على فوهة بركان    مركز الملك سلمان يواصل مساعداته الإنسانية.. استمرار الجسر الإغاثي السعودي إلى غزة    فريق طبي سعودي يتفوق عالمياً في مسار السرطان    العرض الإخباري التلفزيوني    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    270 دقيقة.. ويهتف «الشقردية»: نحن الأبطال    مؤتمر دولي للطب المخبري في جدة    أخصائيان يكشفان ل«عكاظ».. عادات تؤدي لاضطراب النوم    وصمة عار حضارية    التشهير بالمتحرشين والمتحرشات    تجربة سعودية نوعية    (911) يتلقى 30 مليون مكالمة عام 2023    أمير الرياض يوجه بسرعة رفع نتائج الإجراءات حيال حالات التسمم الغذائي    الأرصاد تنذر مخالفي النظام ولوائحه    واشنطن: إرجاء قرار حظر سجائر المنثول    المسلسل    إطلاق برنامج للإرشاد السياحي البيئي بمحميتين ملكيتين    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدرسة الرأي أصحاب أبي حنيفة . الجذور التاريخية والتسمية والعلاقة بأهل الحديث والمذاهب والأخرى 1 من 2
نشر في الحياة يوم 21 - 04 - 2000

بين ظهراني الكوفية، سواد العراق، نشأ مذهب فقهي، عرف بالمذهب الحنفي، نسبة الى مؤسسة الإمام أبي حنيفة النعمان. واشتهر أيضاً باسم مذهب أهل العراق، وأهل الرأي، لكن التسميتين الأخيرتين ظلتا متداولتين في نطاق الرواية التاريخية فقط، وكذلك الحال بالنسبة للمذاهب الأخرى، بعد شيوعها بنسبتها المعروفة، وهي المذاهب الفقهية الخمسة السائدة منذ ظهورها وحتى الآن. وإذ اختصت البصرة بالكلام، وظهور المعتزلة والفرق الكلامية الأخرى، اختصت الكوفة بالفقه، فضلاً عن اختصاص المدينتين بمدرستين لغويتين، اقتسمتا إرث علوم العربية، واختلفتا في نحوها وصرفها، حتى انعكس هذا الاختلاف على البصريين والكوفيين، فقهاء وأدباء وشعراء، فمدوا الخلاف الى صفة المياه والبيئة والزروع، على رغم أن السواد والفرات جمعا بينهما.
تمتد جذور مدرسة الرأي الى عقود الاسلام الأولى، الى أيام الصحابي عبدالله بن مسعود ت 32 ه وولايته على بيت مال الكوفة، وكان قارئها وفقيهها الأول، ثم الفقيه التابعي ابراهيم النخعي ت 96 ه أصول المذهب. هؤلاء الأربعة عاشوا في الكوفة وتصدروا أمور الدين فيها، ومنذ إمامة النخعي ظهرت تسمية أهل الرأي. فما الذي جمع بينهم، وهل للمكان علاقة بالأمر؟ ولماذا الكوفة، من دون غيرها من الأمصار، تعزف عن الإكثار من رواية الحديث؟ كل هذه الأسئلة تأتي على البال عند البحث عن أصول جماعة الرأي. لكن الروايات لم تعن في الإجابة عن هذه الأسئلة، فما تناقله المؤرخون كان مجرد تراجم شخصية، إلا أن التصور العام حول ماضي الكوفة وحاضرتها الحيرة، وامتدادها البابلي ربما يفيد في تعيين بعض الأسباب التي دفعت الكوفيين الى التفكير بهذه الطريقة، المختلفة عن عواصم اسلامية أخرى، إذا أخذنا في الاعتبار أن معظم نصوص كتاب "نهج البلاغة"، القيم في لغته وأفكاره، قيلت من على منبر مسجد الكوفة، وكأن ماضيها الحضاري، واهتمامات ملوكها المناذرة، وانفتاحهم الاجتماعي لم تبرح المكان، إذا آمنا أن لحاضر الفكر والثقافة صلة بالماضي، وليس لنا التغاضي عن ذلك. فالاسلام ظهر علوماً وفنوناً وعمارة وفلسفة بعد عملية طويلة من التأثير والتأثر، وكل بيئة أضافت له ما تملك من مواهب، لهذا ظهر التنوع، داخل الاسلام الواحد الرحب، وكانت الاشارة الى التعدد والتنوع صريحة، وواضحة في القرآن الكريم. وإذا كان تأثير المكان أقل على ابن مسعود، فتأثيره أكبر على الثلاثة، ابراهيم وحماد والنعمان، الكوفيين ولادة ونشأة.
التقى أعمدة الرأي الثلاثة في موقفهم المتقارب إزاء رواية الحديث النبوي، وهذا يعطي مؤشراً في الميل الى الرأي، إلا أنه لا يعني بمكان موقفاً من الحديث، بقدر ما يعني موقفاً من الرواية، ومواجهة المستجد من أمور الدنيا، مع النظر في روح الأثر والتجارب السابقة، وهذا ما عرف بالقياس، الذي حاول العديد من الخصوم استخدامه ضد أبي حنيفة وأصحابه، في أثناء المواجهات الحامية بين الطرفين. عرف عبدالله بن مسعود بقلة رواية الحديث، فبسبب كثرة الرواية، ظهر ما يعرف بالجرح والتعديل، وظهرت أحاديث الوقاية من الكذب في النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ما عدا ما أجازه أهل العلم لفائدة في الدين، أي الأحاديث الموضوعة المبررة. فالصحابي أبو هريرة، وهو أحد المكثرين من الرواية ولعل ذلك كان ميلاً من ميول المعرفة والاهتمام لديه، قال مدافعاً عن نفسه: "أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا أعرفه بنفسي، فأنا أبو هريرة، أيها الناس: اني سمعت رسول الله يقول: من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، فدعوا أبو هريرة يتبوأ مقعده من النار إن كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم" ابن عدي، الكامل، 1/34. وهناك من قال عنه: "لم يكن من فقهاء الصحابة، وقد أنكر عليه عمر بن الخطاب أشياء" سبط بن الجوزي، مرآة الزمان، 8/1/23. والنظر الى ظاهرة الإكثار من الرواية عن الرسول بواقعية، بعيداً عن التجريح، أن أبا هريرة كان يمتلك ذاكرة قوية، وشغله الشاغل أن يتتبع الحديث النبوي ويرويه، فإذا كان للشعراء والخطباء رواة يتبعونهم ويحفظون عنهم، ولولا هذه الميول ما وصلت لنا قصيدة شعر ولا خطبة من الخطب، فكيف والحديث حديث الرسول والفعل فعله، فلماذا يحسد أبو هريرة على رصيده من الرواية، وفضله فيها.
كان عبدالله بن مسعود مقلاً في الرواية، يروى أنه قال: "والله الذي لا إله إلا هو! ما على ظهر الأرض أحوج الى طول سجن من لسان" الأصبهاني، حلية الأولياء، 1/134. وقال عن الإمام علي بن أبي طالب: "قرأ القرآن ثم وقف عنده، وكفى به" المصدر نفسه/129. وكل رصيده من الحديث في الصحيحين أربعة وستين حديثاً الذهبي، سير أعلام النبلاء، 1/462. وفي رواية، أن له 840 حديثاً، مفرقة في كتب الحديث الأخرى. ويقابل الرواية الآنفة قول عمرو بن ميمون: "صحبت عبدالله ثمانية عشر شهراً، فما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديثاً واحداً، فرأيته يفرق غشية بهر، ثم قال: نحوه أو شبهه" المصدر نفسه، 494. وقوله: "كان عبدالله بن مسعود يأتي عليه الحول قبل أن يحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحديث" الكامل، 1/18. لكن المؤرخ نفسه ينقل الرواية الآتية: "بعث عمر بن الخطاب الى عبدالله بن مسعود وإلى أبي الدرداء، وإلى أبي مسعود الأنصاري، ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحبسهم في المدنية حتى استشهد". ولعل ما يوجب الشك في الرواية الآنفة وجود ابن مسعود بالكوفة حتى خلافة عثمان بن عفان. والمشهور عن ابن مسعود أنه أول من جهر بقراءة القرآن الكريم، وحفظ عن الرسول صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، ودخل قلبه حزن حينما لم يكلف بجمع القرآن، والرسول أوصى بقراءة ابن أم عبد، أي ابن مسعود، وهو قاتل أبي جهل في معركة بدر.
الأصل الثاني في مدرسة الرأي ابراهيم بن زيد النخعي، ولعله العربي الوحيد بين مجايليه من بين فقهاء الأمصار، فكان معظمهم من الموالي، هذا ما أخبر به ابن عطاء هشام بن عبد الملك، كما سيأتي ذكر ذلك. وقيل إنه رأى عائشة أم المؤمنين، يوم كان صبياً يرافق عمه وخاله الى الحج ابن سعد، الطبقات الكبرى، 6/270، لكنه لم ينقل عنها ابن خلكان، وفيات الأعيان، 1/6. ويذكر أنه كان مقلاً في رواية الحديث، على رغم أنه تابعي وعاصر عدد من الصحابة فترة طويلة. وحين سأل عن ذلك قال: "أقول: قال عمر، وقال عبدالله، وقال علقمة، وقال الأسود، أجد ذلك أهون علي" الطبقات الكبرى، 6/272. كما روي، أنه كره السؤال والكتابة والرواية، وكثيراً ما كان يشير الى الحديث بالمعنى لا بالنص المصدر نفسه، 271/272. ومن علاقته بسياسي عصره، كان يبغض الحجاج بن يوسف الثقفي، فهو القائل: "كفى عمي أن يعمى الرجل عن أمر الحجاج" المصدر نفسه، 279. وقال تلميذه حماد: "بشرت إبراهيم بموت الحجاج فسجد... وما كنت أرى أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت ابراهيم يبكي من الفرح" المصدر نفسه.
الأصل الثالث في مدرسة الرأي هو حماد بن أبي سليمان ت 120 ه، مولى الأشعريين، من برخوار من نواحي أصبهان المزي، تهذيب الكمال، 5/187. "وكان قاضياً، وعنه أخذ أبو حنيفة النعمان الفقه والحديث" النديم، الفهرست، 285. ومثل سلفيه كان حماد قليل رواية الحديث، بل وصف بالضعيف فيها الطبقات الكبرى، 6/332، والعقيلي، الضعفاء الكبير، 1/301، وقال عنه العقيلي: غير ثقة، لا يصدق. وقيل إنه كان مصاباً بمرض الصرع، قال أحد معاصريه: "رأيت حماد يصرع"، ويتوضأ بعد النوبة الكامل، 2/654. وقيل إنه لا يحفظ الحديث المصدر نفسه، 655. وفي غمرة الخلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي، قال مالك بن أنس: "كان أهل البصرة عندنا أهل العراق، وهم الناس، ولقد كان باهلكوفة رجال: علقمة، والأسود، وشريح، حتى وثب إنسان يقال له حماد، فاعترض هذا الدين، فقال فيه برأيه، ثم رهق رجل يقال له أبو حنيفة، ففسد الناس" المصدر نفسه. وقد يُشك في هذا، فمالك قال عن أبي حنيفة برواية الشافعي: "رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته" الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، 13/ 338. وخلاف ما ورد في أخباره من أنه قليل الرواية، قال ابن عدي عنه: "كثير الرواية، عن ابراهيم فقط، ويحدث عن أبي وائل، وعن غيرهما بحديث صالح، ويقع في أحاديثه افرادات وغرائب، وهو متماسك في الحديث لا بأس به" الكامل، 2/656. وأسانيده في رواية الحديث على قلتهم ثقات، مثل: إبراهيم النخعي، وأنس بن مالك، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وعكرمة مولى عبدالله بن عباس تهذيب الكمال 5/187. تتلمذ أبو حنيفة على حماد بن أبي سليمان، وظل ملتصقاً به حتى مماته، قال في ذلك: "لزمت حماداً لزوماً ما أعلم أن أحداً لزم أحداً مثلما لزمته، وكنت أكثر السؤال، فربما تبرم مني، ويقول: يا أبا حنيفة، قد انتفخ جنبين وضاق صدري" المكي، مناقب ابي حنيفة، 1/48. ومن اعتزاز ابو حنيفة بأستاذه سمى ابنه حماداً.
حُسب الثلاثة: ابراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان، وأبو حنيفة على المرجئة، وذلك بسبب رأيهم في الإيمان: أن يكون في الجوارح، ولا ينقصه الذنب ولا تزيده الفضيلة. كان ذلك، مع أن ابن سعد في طبقاته يذكر موقف ابراهيم السلبي من الارجاء عموماً. كما تلازم الثلاثة الأوائل في مسند أبي حنيفة، فكان ابن مسعود، وابراهيم، وحماد أسانيد أغلب الأحاديث، والمسند الذي جمعه وشرحه القاري الحنفي ت 1014 ه، هو واحد من مسانيد عدة، من غير الأحاديث السبعة التي وردت في المناقب، وكان أولها: "طلب العلم فريضة على كل مسلم". وعدد من الأحاديث الواردة في المسند تتفق ووجهة نظر المرجئة. كتب المؤلفون الحنفيون بقوة رداً على توظيف الخصوم انحدار أبي حنيفة غير العربي، وجاء في هذا المعنى: أن عثمان بن عطاء نقل عن والده، أن هشام بن عبد الملك سأله عن علماء الأمصار، فعد له من الموالي فقهاء المدينة ومكة واليمن واليمامة والشام والجزيرة وخراسان والبصرة، ما عدا ابراهيم النخعي كان عربياً، ولكثرة ما ذكر عطاء من فقهاء الموالي، قال الخليفة: "كادت تخرج نفسي ولا تقول واحد عربي" مناقب أبي حنيفة، 1/12.
وقال أحد الحنفيين، خلف بن أيوب، متحدياً الآخرين: "صار العلم من الله تعالى الى محمد، ثم صار الى أصحابه، ثم صار الى التابعين، ثم صار الى أبي حنيفة، فمن شاء فليرضى ومن شاء فليسخط" المصدر نفسه، 1279. وجعلت الحمية العربية والقرشية أصحاب المذهب الشافعي يقدمون مذهبهم على المذهب الحنفي، وفقاً للحديث: "الأئمة من قريش". وإجمالاً قالوا: "لا نجد إماماً من قريش سوى الشافعي، رضي الله عنه، ولأنه بن عمّ النبي" المصدر نفسه، 1/396. أجاب الحنفيون على ذلك بنصوص كثيرة، اعترفوا فيها بحصر الخلافة في قريش، من دون الإمامة الدينية والفقهية. قال المكي: "النسب لا تأثير له في علم الرجل وفقهه، وفقده لا يوجب نقصاً في ذلك. ألا ترى أنه جاء في التفسير أن لقمان كان عبداً حبشياً عظيم المشافر، مشفق الساقين، فقال تعالى: ولقد آتينا لقمان الحكمة" المصدر نفسه.
وخلاف ما يُشاع، بأن الدولة العثمانية تبنت المذهب الحنفي لأنه لا يقر حصر الولاية بيد قريش، كان رأي الحنفيين واضحاً في إقرار الولاية في هذه القبيلة فقط. وكتب علي الوردي، من دون العودة الى أصول المذهب الحنفي وأدبه، قائلاً: "الشائع أن السبب الذي جعل الدولة العثمانية شديدة التمسك بالمذهب الحنفي، هو أن أبا حنيفة كان لا يأخذ بهذا الحديث، ويرى من الجائز أن تكون الخلافة في غير قريش" لمحات اجتماعية، 1/49. ليس لدينا ما يكشف سبب اتخاذ العثمانيين للمذهب الحنفي إلا القول: أن المذهب كان انتشر بين المسلمين بإيران وما بعد النهر، وحيث انحدر العثمانيون، وانهم ظلوا على ما هم عليه، وليس من المعقول أنهم ظلوا الى تاريخ ظهورهم خلفاء بلا مذهب فقهي، ومما ساعد على ذلك أن المذهب الحنفي كان سهلاً مع أهل الذمة، والدولة العثمانية المترامية الأطراف ضمت العديد من الأديان، كما أن قاعدة المذهب في الدولة العباسية كانت قوية حتى مجيء السلاجقة، الذين مالوا بقوة الى المذهب الشافعي. وفي الإمامة لقريش قال أبو حنيفة وسائر المرجئة: "لا تصلح الإمامة إلا في قريش، كل من دعا منها الى الكتاب والسنّة، والعمل بالعدل، وحيث إمامته ووجب الخروج معه، وذلك للخبر الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: "الأئمة من قريش" النوبختي، فرق الشيعة، 10، الأشعري، مقالات الإسلاميين، 8. وقال أبو حنيفة: "لا يجوز أن يكون الإمام إلا رجلاً من قريش" الناشئ الأكير، مقتطفات من الكتاب الأوسط، 62 - 63. ولعل الحنفيين، من بعد أبي حنيفة، صرحوا بذلك دفاعاً عن مذهبهم، الذي أسسه مولى، في ذلك قال المكي معبراً عن الحنفية عموماً، وهو أحد شيوخها في القرن السادس الهجري: "قولهم الأئمة من قريش، فلا يخلو ما يريد به الأئمة في الصلاة، أو في العلم، أو الخلافة، لا وجه يريد في الصلاة، لأن مخالفة السنّة والجماعة... فتعين أن يريد به التقديم في الخلافة" مناقب أبي حنيفة، 1/399. وفي السياق نفسه قال الكردري، من أعيان الحنفيين في القرن السادس والسابع الهجريين: "رجع الكل الى هذا الحديث، دل أن المراد بالإمامة الخلافة الكبرى بالإجماع، فلا يراد غيره. وأما قولهم: قوله عليه السلام: تعلموا من قريش ولا تعلموها، فلا أصل له" مناقب أبي حنيفة، 2/65. كان الكردري عرف الشعوبية، وما يعنيه هذا المصطلح من العداوة بين العرب والموالي، قال مدافعاً عن مذهبه الحنفي المتهم بالشعوبية: "الشعوبية لتعلقهم فيها بقوله تعالى: وجعلناكم شعوباً وقبائل وهي ليست من ذكرت، إنما قوم يعادون العرب، وعبارته شعوبية، بضم الشين، لقب لقبيلة غير محمودة عادت العرب، فتصغر شأنهم، ولا ترى لهم فضلاً على غيرهم" المصدر نفسه، 71 - 72.
اختلف في موالاة ابي حنيفة، فالغالب من الروايات أشار الى أنه عراقي الأصل. قال الخطيب البغدادي ت 463 ه كان نبطياً، أي من فلاحي سواد العراق، وأنه من أهل بابل "وربما قال في قول البابلي كذا" تاريخ بغداد، 13/325. والبابلي هو النبطي، في ذلك يفيدنا النبطي أحمد بن علي المعروف بابن وحشية القرن الثالث الهجري، الذي قال مستهلاً ترجمة كتاب "الفلاحة النبطية": "فوالله أن الغيرة على الناس تحملني على إظهار علومنا لهم، لعلهم ينتهون عن ثلب النبط" 1/7، والكتاب المترجم كان عن الزراعة في بابل. وفي رواية أخرى انحدر أبو حنيفة من الأنبار في غرب العراق. وفي رواية مرفوعة الى حفيده القاضي اسماعيل بن حماد، قال: نحن "من أبناء فارس الأحرار" تاريخ بغداد، 13/326، والمعروف عن الأبناء أنهم من أبناء الفرس القاطنين في بلدان اخرى مثل اليمن والعراق، أي أثناء السيطرة الفارسية. ورواية أنه كان مسيحياً واسمه عتيق بن زوطرة أو زوطى قد تؤكد نسبه العراقي غير الفارسي، فزواطى مع زيادة الألف بلدة عراقية بين واسط والبصرة القاموس المحيط، وهي مكان النبط والزط. وقال الكردري أنه من أهل بغداد، قبل تأسيس المدينة المدورة، وقال: "فبغداد تسمى ببابل" مناقب أبي حنيفة، 2/73. والروايات الآنفة تؤكد تصحيف بابل الى كابل كما وردت عند النديم الفهرست، 284 - 285. وروايات أخرى، أحادية، أشارت الى أصله من نسأ في خراسان، أو من ترمذ، وهي غير مشهورة. واللافت للنظر أن معظم الباحثين المصريين لا يأتون بغير رواية انحداره الفارسي، مثل أبي زهرة في "أبو حنيفة حياته و عصره - آراؤه الفقهية"، وشوقي ضيف في "العصر العباسي الأول"، وبهذا تعاملوا مع أبي نواس، الشامي الأب والبصري الأم. ولعل استخدام الخصوم في الحرب المعلنة على أبي حنيفة ومذهبه جعلت الحنفيين يزرعون شجرة نسب لإمامهم، أصلها النبي ابراهيم وفرعها النعمان، ويسقطون اسم زوطرة أو زوطى منها الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية، 1/53.
* كاتب عراقي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.