أكثر من 5 آلاف سيارة أجرة لنقل الحجاج    النصر يرد على عرض بلباو لضم لاعبه    خادم الحرمين يتلقى رسالتين خطيتين من ملك الأردن ورئيس مصر    قدوم 935966 حاجا من خارج المملكة    هنري لم يضم مبابي في القائمة الأولية للمنتخب الأولمبي الفرنسي    أيمن يحي يخرج من حسابات مانشيني    الفضلي: المنتدى العربي للبيئة يؤسس منصة حوار لتوحيد الرؤى تجاه القضايا البيئية    أمير عسير يفتتح المقر الجديد لإدارة رعاية أسر الشهداء    جونيور أفضل لاعب في ال «UEFA»    «العقار»: تراخيص جديدة للبيع على الخارطة ب 6 مليارات ريال    مواطن يمكّن مقيماً من سجله بمعرض ستائر وديكورات    زراعة أكثر من 596 ألف شتلة من الزهور والشجيرات والأشجار خلال 4 أشهر الأولى    أمير الرياض يستقبل نائب وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية للعمل    أمير تبوك يقف على الجهود المبذولة لخدمة ضيوف الرحمن بمنفذ حالة عمار    بيئات واستعدادات هيأتها إدارات المدارس في الطائف    أمير تبوك يستقبل معالي مدير عام الجوازات    مستشفى أبها للولادة والأطفال يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للتصلب اللويحي المتعدد"    "الهلال" و"معهد إعداد القادة" يوقعان اتفاقية "مسار واعد"    كلاوديا تصبح أول سيدة تتولى رئاسة المكسيك    سفير المملكة لدى الأردن يودع قافلة حجاج بيت الله الحرام    سعود بن بندر يستقبل الرئيس التنفيذي لجمعية بناء ورئيس وأعضاء نادي القادسية    السيسي يكلف مدبولي تشكيل حكومة جديدة من ذوي الكفاءات    مفتي عام المملكة ونائبه للشؤون التنفيذية يستقبلان رئيس جمعية إحسان لحفظ النعمة بمنطقة جازان    "كفاءة الإنفاق" تطلق الحملة التوعوية بالدليل الوطني لإدارة الأصول والمرافق    بدء اكتتاب الأفراد في 154.5 مليون سهم بأرامكو    أسعار النفط تتراجع    طلائع حجاج إيطاليا تصل مكة المكرمة    نتنياهو يناقض بايدن: «الصفقة» لا تشمل وقف الحرب    فرصة لهطول أمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    بناءً على ما رفعه سمو ولي العهد خادم الحرمين يوجه بإطلاق اسم الأمير بدر بن عبدالمحسن على أحد طرق الرياض    الصمعاني: دعم ولي العهد مسؤولية لتحقيق التطلعات العدلية    جامعة "المؤسس" تعرض أزياء لذوات الإعاقة السمعية    "أكنان3" إبداع بالفن التشكيلي السعودي    كاميرات سيارات ترصد العوائق بسرعة فائقة    لأول مرة على أرض المملكة.. جدة تشهد اليوم انطلاق بطولة العالم للبلياردو    الطائرة ال51 السعودية تصل العريش لإغاثة الشعب الفلسطيني    دموع «رونالدو» و«الهلال» يشغلان صحف العالم    السفير بن زقر: علاقاتنا مع اليابان استثنائية والسنوات القادمة أكثر أهمية    محمد صالح القرق.. عاشق الخيّام والمترجم الأدق لرباعياته    نوبة «سعال» كسرت فخذه.. والسبب «الغازيات»    زلزال بقوة 5,9 درجات يضرب وسط اليابان    في بطولة غرب آسيا لألعاب القوى بالبصرة .. 14 ميدالية للمنتخب السعودي    بدء تطبيق عقوبة مخالفي أنظمة وتعليمات الحج    هذا ما نحن عليه    هنأ رئيس مؤسسة الري.. أمير الشرقية يدشن كلية البترجي الطبية    سائقو الدبَّابات المخصّصة لنقل الأطعمة    ..و يرعى حفل تخريج متدربي ومتدربات الكليات التقنية    نقل تحيات القيادة وأشاد بالجهود الأمنية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يدشن مشروعات «الداخلية» في عسير    الاحتلال يدمر 50 ألف وحدة سكنية شمال غزة    توبة حَجاج العجمي !    مزايا جديدة لواجهة «ثريدز»    حجب النتائج بين ضرر المدارس وحماس الأهالي    تقرير يكشف.. ملابس وإكسسوارات «شي إن» سامة ومسرطنة    أمير نجران يشيد بالتطور الصحي    11 مليون مشاهدة و40 جهة شريكة لمبادرة أوزن حياتك    الهلال الاحمر بمنطقة الباحة يشارك في التجمع الصحي لمكافحة التدخين    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    جامعة بيشة تحتفل بتخريج الدفعة العاشرة من طلابها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشرفة البحرية على كورنيش المنارة بيروت... احتفال مشاة يومي وائتلاف جماعات تساوم على قواسم مشتركة متجددة . كيانات وهيئات اجتماعية، ومراحل ومسارح، تحت موج أهل الشرفة المتصل وعلى الرصيف المستوي 1من3
نشر في الحياة يوم 12 - 02 - 2000

يقصد شرفةَ بيروت البحرية، بين فندق السان جورج و"الفنادق الكبرى" القديمة والجديدة في عين المريسة، وبين المسبح العسكري، بسفح الروشة الشمالي، منذ وقت العصر، مشاة أو مشاؤون ومتنزهون من كل صنف ونوع. فمنهم المشاة المتمهلون، ومنهم من يمشون بين المشي والركض، ويعدو صنف ثالث عدواً منتظماً ومتمادياً. ويقصد الشرفة البحرية هذه صنف رابع من "المشاة" هو صنف القاعدين. فهؤلاء يتكئ بعضهم على حاجز حديد يحجز بين الرصيف وبين صخور البحر القريبة ومياهه، بينما يجلس بعضهم الآخر على مقاعد حجرية صُُفَّت على حافة الطريق المعبدة. والمتكئون هم بين الجالسين والواقفين، ويدير معظمهم ظهره إلى البحر، ووجهه إلى أهل الرصيف، على أنواعهم، وإلى الطريق، ومن ورائها إلى هضبة رأس بيروت ومنحدرها الغربي. أما الجالسون فظهورهم إلى الطريق وسياراتها، ووجوههم الى أهل الرصيف، وإلى المتكئين على الحاجز الحديدي، قبالتهم، ومن وراء هؤلاء وأولئك إلى البحر والأفق.
ويخالط المشاة والراكضين المهرولين والمتكئين والقاعدين المستقرين متزلجون ومتزلجات انتعلوا زلاجات أقلها يجري على دواليب، وأكثرها ينساب على حد معدني مصقول على استدارة. ويصدِّع صفوف أهل الرصيف راكبو الدراجات الهوائية وراكباتها، وبعض سائقي دراجات نارية قليلة، تترك طريق السيارات إلى الرصيف إما هرباً من الإكتظاظ أو لعباً ونزهة واختلاطاً.
وعلى شاكلة المتكئين والقائمين بين منزلة الواقفين ومنزلة الجالسين، تنصرف فئة من قاصدي الكتف البحري إلى صيد الأسماك بواسطة السنارة، فيدير أهلها ظهورهم إلى أهل الرصيف، وإلى الطريق والهضبة، ويستقبلون بوجوههم وصدورهم ووقوفهم، أو جلوسهم على مقاعد واطئة يجلبونها معهم، البحرَ القريب وأمواجه المتكسرة على جدار الشرفة العريض. ويجمع الصيادون، وهم أشد رواد الشرفة البحرية ثباتاً في مواضعهم وأطولهم قياماً بهذه المواضع، الإنشغال باصطياد الأسماك، وبالبحر، إلى الوقوف أو الجلوس بين أهل البر من المتنزهين والمشاة. والشطر الأول من حالهم، أي اصطياد الأسماك، يقسرهم على موضع واحد من الشرفة الطويلة، يُدَلّون منه خيوط قصباتهم وسناراتهم فتصيب الماء. ويجتمع الصيادون في بعض الرصيف حيث لا يعجز بين موضع الوقوف أو الجلوس وبين الماء والسمك حاجز من أرض أو صخر يمنع الوصول بيسر إلى الماء وسمكه، ويقتصرون على بعض الرصيف هذا. وهو يقع في أول الشرفة، الى جهة عين المريسة، "قرية" الصيادين المحلية، وقبالة مسجدها وبعض فنادقها الجديدة و"أبراجها" العالية والجديدة كذلك.
ونظير المنشغلين بالصيد والمنصرفين إليه، وظهورهم إلى الرصيف وأهله، يقيم صنف من قاصدي الرصيف وطالبي النزهة في سياراتهم الراكنة بمحاذاة الرصيف، على طريق السيارات. فبعض هذا الصنف يتخذ من السيارات نفسها مقعداً ومجلساً. فيفتح المتنزهون بابَيْ السيارة اليمينين، على ما تستتبع وجهة السير على الرصيف، ويُخرجون بعض أجسامهم من المركبة، ويكلم بعضهم بعضاً، وهم يسمعون الراديو أو المسجلة ويُسمعونه أو يسمعونها، ويَشخصون إلى المارة المتنزهين والمتنزهات أو إلى المتكئين، قبالتهم، إلى الحاجز، وعلى مقربة شديدة من الجالسين على المقاعد الحجرية وصفها المتناثر والمتباعد. وبعض طالبي النزهة بالسيارة، ومقتعديها، يُبقون أبواب المركبة مغلقة، إذا اقتصر عددهم على اثنين في الأغلب ويجلسون جلوس الراكب المسافر، ويتحادثون. فايقاف سياراتهم بحذاء الشرفة على البحر إنما هو طلب للموضع، وللْحِدَة من غير مخالطة. وبعض ثالث من هذا الصنف يُخرج من السيارة الراكنة عُدَّة جلوس جاء بها في صندوق مركبته، ويبسطها على الرصيف بإزاء السيارة نفسها: الكراسي، والمقاعد، والطاولات، والنرجيلة، والموقد، والأكياس، والمسجلة في أحيان كثيرة. وهذا شأن الأُسَر بأجيالها الثلاثة التي تتصدرها الجدات، أو شأن أسر المصاهرة المجتمعة من عديلين أو سلْفين.
ولا يستبعد الرصيف من أفقه الكثير الآفاق جمهوراً يبقى بمنأى منه، لا يرسو على ضفته ولا يتخذه مطية إلى صيد أو إلى سباحة، هو جمهور المارين بسياراتهم، وعابري "الكورنيش"، أو الطريق العريضة، إلى طرق وجهات أخرى متصلة بهذه الجهة من بيروت. فالسيارات الكثيرة تخرج إلى النزهة، وتقصد كورنيش المنارة من جهتيه أو بوابتيه، عين المريسة إلى الشمال الشرقي والمسبح العسكري إلى الجنوب الغربي. ويتفق خروج السيارات إلى النزهة مع خروج أصناف المتنزهين الآخرين، أي مع وقت العصر ووشك الغروب. ويتفق، على قدر أو آخر، تواتر الجمهورَيْن، الماشي على اختلاف روافده والسيار، فكأنهما على موعد: فإذا ضاق الرصيف بأهله، وصفوفهم وكتلهم وأفرادهم، تزاحمت السيارات المتقاطرة على الطريق، وتباطأ سيرها وتقطع حتى قارب وقوفها وسكونها حركة بعض المتنزهين الغافرة والمتمهلة. ويقسِّم الجمهور السيار انتباهه على أهل الرصيف والبحر، وعلى راكبي السيارات الأخرى، المتقدمة والمتأخرة والقادمة من الجهة المقابلة والسائرة على شعبة الطريق الأخرى. فشطر من نزهة جمهور السيارات قوامه تفريح النظر إلى أهل الرصيف وأصنافهم وفئاتهم، وتنقيله فيهم، قبل الإنضمام إليهم، أو من غير انضمام.
ويمخر موج أهل الرصيف وماءهم، وهما الموج والماء قد يجفان ويشفَّان عن إسفلت الرصيف العاري، باعة الكعك بسمسم، والذرة المشوية والمسلوقة، وغزل البنات تتقدمهم عرباتهم الملونة بالأزرق البحري ورذاذ الأحمر والأبيض. وتضفي إحاطة المشاة والمارة المتنزهين بالعربات البطيئة والمتثاقلة، على العربات مسحةَ مهابة قلما يحظى بها غيرها في هذا الموضع الفسيح والمشرَّع. ويتخلل المشاة والجالسين والمتكئين باعةُ المشروبات المبردة، الغازية والمائية، المدللون على سلعتهم الصيفية. وعلى خلاف باعة العربات، يبدو التعب على باعة المشروبات المبرَّدة، وهم يحملون سلعتهم الثقيلة أوقات طويلة، وتعلن دلالتهم التعب هذا، وفي أعقابه الضجر والبرم. والباعة هؤلاء قلة قليلة، وقلما ينتبه إليهم المتنزه والماشي في غير أيام الإحتشاد والكثرة، وهي الجمعة والسبت والأحد. وفي وسع الشرطة البلدية، أو غيرها من قوى الأمن الداخلي، ملاحقتهم وحجز عرباتهم. وأقل منهم الشحاذون والمستعطون وباعة أوراق السحب وموزعو قصاصات الإعلان الملونة وماسحو الأحذية. والجماعتان هاتان، باعة أوراق الحظ وموزعو القصاصات، لا تستقران على اجتماع أو جمع. فالباعة والموزعون، إلى عددهما القليل، وانبثاثهما في مواضع متفرقة من طريق المتنزهين والمشاة والخابّين الراكضين خَبَباً والجالسين وجمعهم، يتقطع وقوفهم بحسب تقطِّع عملهم الموكول إليهم. والقلة والتقطع قرينتان على ضعف انتباه المعلنين إلى أهل الرصيف البحري، وعلى ضعف اعتبارهم مرتاديه جمهوراً مستهلكاً يُتوجه عليه بالإعلان والترويج.
أما المستعطون فجماعة تكاد تكون ثابتة، أشخاصاً وطريقاً. وهي اقتصرت وقتاً طويلاً على مستعطٍ واحد" وهذا كسيحٌ، تنقِّل يداه جذعاً من غير قدمين ولا ساقين، وُضعَ على بساط من الكرتون المقوّى والمنزلق" وجعل أصحاب المستعطي الكسيح بين يديه علبة معدنية، كانت وعاء سمنة نباتية، يسوقها أمامه في كل مرة ترفع ذراعاه ويداه، الممسكتان بقبقابين خشبيين، جذعه الضامر ورأسه الكبير والأغبر والمحروق شمساً. ولا يحيد المستعطي الكسيح هذا، منذ سنوات قد ترقى الى فوق الثلاث، عن طريق واحدة تبدأ، بعد الظهيرة وقبيل وقت العصر، في موضع من الرصيف يقع قبالة بوابة الجامعة الأميركية ببيروت وعلى شرفة تطل على مسبحها ويسمى الموضع عمود الجامعة الأميركية، دلالة على عمود إرسال لاسلكي نصب فوق صخرة المسبح وفي وسط الرصيف وتنتهي حيث تحمله يداه وذراعاه، ويحمله قبقاباه، قبيل غشيان الظلمة الرصيف، ولو مضاءً بمصابيح الطريق اللصيقة. فإذاآذنت الظلمة بالغشيان نزل من سيارة قديمة وبالية رجل قوي الذراعين، فحمل الكسيح إلى السيارة المتوقفة، وقد زاد وجهه المتعب شحوباً، وأسنان فكه الأعلى بروزاً وتقدماً، وزادت عيناه تيهاً وانكفاءً.
وانضم الى المستعطي الكسيح والفتي، في صيف عام 1999، مستعطون ثلاثة، كلهم كسيحون، هم، تباعاً، امرأة في سن الكهولة، ورجل ما زال شاباً، وآخر أسن منه بقليل. وتنزل المرأة من عربة يقتعدها مُقعدون، وتتنقل على ركبتيها في موضع قريب من موضع الصيادين، حيث تضيق الشرفة، ويخرج أهل الرصيف من الساحة الفسيحة، في الطرف الشمالي الشرقي، وهي مرسح المتزلجين ومعرضهم، إلى موضع أقل عرضاً. والمستعطية المتنقلة على ركبتيها، المنتعلتين مسندين جلديين ومحشيين، تكاد لا تغادر هذا الممر الكثير الناس. ويقتعد المُقعد الشاب موضعاً يلي شرفة عمود الجامعة الأميركية، جنوباً، بقليل. وهو كذلك ثابت بموضعه أو ضعيف الرحلة. أما ثالث المستعطين الجدد وآخرهم، فيقتعد عربة يسوقها بيديه، ويتخذ من الشطر الجنوبي من الرصيف، بين مسبح اوتيل الريفييرا وبين عمود الجامعة، سرحاً.
المسارح والمراحل
والرصيف، بين حديه البارزين: عين المريسة إلى الشمال والمسبح العسكري إلى الجنوب، إلى توزعه وتقطعه جماعات، مسارحُ ومواضع كثيرة، قبل أن يجمعه المتنزهون والمشاة وراكضو الخبب في كل متصل وواحد، أو من يجمعه منهم على هذه الشاكلة ويوحده. فهو، في الموضع الذي يتصل بعين المريسة، ويطل عليه مسجدها، وتحوطه الفنادق الكبرى الجديدة وماكدونالدز وهارد روك كافيه، ساحة فسيحة ومستديرة تكاد تقوم وبناسها وبنابها. وهذه السّاحة، من وجه أول، ممر يتوسله القادمون من جهة "الفنادق الكبرى" القديمة، السان جورج والفينيسيا والهوليداي إن والبالم بيتش وغيرها، والمتقاطرون من وادي أبو جميل وتلفظ بتسكين الجيم والمرفأ، شرقاً، والقنطاري وزقاق البلاط والصنائع، غرباً، كان قدومهم بسياراتهم، التي يوقفونها بشوارع الجهة، مشياً على أقدامهم. والساحة، من وجه آخر، مقر يَقرُّ به بعض القادمين هؤلاء وهم، القارون بالساحة، جماعات: فمنهم الصيادون، القائمون والقاعدون، وأصحابهم ونساؤهم وأولادهم" ومنهم جماعة المنتجعين النجعة إما على مقربة من الماء والحاجز الحديدي، وعلى المقاعد الحجرية المنتشر دائرة حول الساحة، بهذا الموضع، دون غيره" ومنهم المتزلجون على نعالهم الزلاجة.
وهؤلاء المتزلجون، جماعة تغلب على هذا الموضع غلبة ظاهرة. فهم، ولو لم يتخطَّ عددهم العشرات، يجولون بأرجاء الساحة، ويدورون فيها مسرعين. فلا يخلو موضع من الساحة منهم، في كل الأوقات. وقلما يقصرون تزلجهم على الدوران الخالص جماعات أو فرادى. بل هم، في معظم أوقاتهم، يتسابقون جماعات، ويتبارون على القفز فوق حواجز خشبية أو معدنية، ويتخذون من زوايا منفرجة مدارج ترفعهم وتبعد محطّهم إذا هم أتوها مسرعين ولم يتعثروا. وهذه الجماعة معظمها من الفتيان والفتيات سناً، وقد يدخل فيها بعض الأولاد" وهي مختلطة، جنساً، على نحو ظاهر" وينحو أصحابها نحو ملبس متشابه بعض الشيء، فيغلب عليهم، وعليهن، ارتداء بنطلون "الجينز"، أو البنطلون القصير في أيام الدفء، ولباس القمصان الملونة واللصيقة بالجسم التِّي شيرت، واعتمار القبعات المقلوبة الواقي الأمامي الى الخلف. ويتشارك المتزلجون والمتزلجات في أمور كثيرة، الى تزلجهم ولباسهم واختصاصهم بالساحة وببعض الآلات، لعل أولها مباراتهم الدائمة بعضهم بعضاً، واختبارهم مهاراتهم ورَوْزها، وإظهارها وعرضها بعضهم على بعض، وامتحان ثباتها أو تغيرها وانقلابها مع وفود وافد جديد وافتتاح موسم جديد، بعد الأيام الماطرة أو العودة من الصيف أو من سفر" وهم يكلم بعضهم بعضاً بكلام الجماعة المنفصلة وبمصطلحها، وللعبارة الجسمانية في "لغتهم" مكانة عالية. وهم يتخللون جماعات الرصيف وساحته الأخرى تخللاً لا يهدأ، ويمرقون بين المشاة والقاعدين مروق السهم، حيناً، أو مروق السابح، حيناً آخر، ولكنهم، في كل أحوالهم، يتصلون بعضهم ببعض، ويردون بعضهم الى بعض، ويتنصلون من المشاة والخابين والجالسين الذين يتخللونهم، إلا من كان منهم في ابتداء أمره وتزلجه ومحتاجاً الى مساندة أصحابه ومساعدتهم في كل لحظة.
ومنتجعو الساحة، على خلاف مقتعدي المقاعد الحجرية بمواضع أخرى من الرصيف، ينزعون الى الاستقرار جماعة ثابتة أو قريبة من الثبات. فهم، في جلوسهم وتحلقهم وشرابهم وطعامهم، وكراسيهم ومقاعدهم المجلوبة، وفي رعايتهم أولادهم السارحين حولهم، واستقبال قاعدهم قادمهم، وتبادلهم التحية تقبيلاً ومصافحة طويلة وانتحاءً، جمع متشابه ومتجانس. وقد يكون جلبهم النارجيلة والطعام والشراب، ماءً أو شاياً في معظم الأوقات، الى تحلقهم ورعايتهم الأولاد، قرينة على سكنهم غير بعيد من الساحة، وفي جوارها القريب. ولكن حلقات أسرية أخرى، على مقاعد حجرية قريبة من السيارات الراكنة بحذاء رصيف الطريق، ترتدي نساؤها العباءة السوداء الإيرانية، ويتكلم أهلها بلكنة لا تخطىء الأذن بلادها وبلدا أصحابها - تنم بسكن أحياء بعيدة. وعلى رغم تفرق بلاد أهل الحلقات هذه، فهم، أهل الحلقات، يتشاركون في طلبهم الترويح والنزهة أسراً وعائلات، ويقدمون الجلوس والقعود على المشي، ويخلطون بالكلام والمسامرة الأكل والشرب والتدخين.
والساحة، أخيراً، مكان مختار يقع عليه، لا محالة، أصحاب مسارح الأولاد والأطفال، وأهل الفرق الموسيقية، المحلية والزائرة، وفرق الرقص، وأهل الألعاب البهلوانية. فهؤلاء كلهم ينصبون خشباتهم العالية، على مرأى من الجمهور وحشوده، والواطئة، ويعتلونها، هم وآلاتهم وكلماتهم وتصاويرهم وأنغامهم وألوانهم وأجسامهم، ويبسطون أمام أنظارِ وأسماعِ مارةٍ غير مستعجلين ومتحلقين، ما يستوقفهم ويجمعهم، مختارين، الوقت الذي يرتأون ويقدرون. فينشأ عن التحلق جمهور يأتلف من جماعات الساحة، جماعات الشرفة البحرية، المختلفة. فينضم الى الجمهور المحتشد والمجتمع، وهو يبين من غيره باحتشاده واجتماعه وثباته بعض الوقت على خلاف الجماهير أو الجماعات الأخرى، فينضم اليه بعض المارة، وبعض الجالسين على المقاعد، وبعض المتكئين على المتكأ الحديد، وبعض المتفرجين على الصيادين أو أصحابهم، وبعض حلقات السيارات بحذاء الرصيف" وربما انضم الى الجمهور المحتشد في وسط الساحة بعض أهل السيارات المارة.
ولكن هذا الجمهور، على رغم نازعه الى جمع أطراف أهل الساحة كلهم اليه ولمِّهم، يترك أجزاء من الجماعات التي مر إحصاؤها خارجه، ولا ينتظمها فلكه أو دائرته المتقلبة. فيبقى الصيادون منصرفين الى صيدهم، وان عروا من معظم حلقاتهم القريبة وصحبهم، ووجههم الى البحر والماء" وتحتفظ المقاعد الحجرية، شأن المصاطب بحذاء السيارات، بنواة من الناس القاعدين والعازفين عن إلقاء نظرة فاحصة، وغير متبرمة، الى الجلبة والجمع الذي يلفظ أمواجه على شواطىء القاعدين القريبة" ويمر بالساحة، الظاهرة الصفحة والبادية الإسفلت الأملس والناعم بعد انحسار معظم المتنزهين المنتشرين، المشاة والخابون والمتزلجون المنصرفون الى رياضتهم أو الى مواعيدهم.
فإذا ضاقت ساحة الرصيف بعد انفراج، وهي تضيق جنوباً ونظير مسجد عين المريسة الذي تقوم بجواره ساحة، أو منعطف طرق ثلاث، يتوسطها نصب أهدي الى جمال عبدالناصر، أفضت الى شطر ثان من الرصيف. وهذا الشطر أو الجزء من الرصيف يتشارك والأول في محاذاته البحر، واغتسال قدم جداره العالي في مائه. وتستمر المحاذاة الى موضع ينعطف فيه الرصيف يميناً بعض الإنعطاف الرفيق، وينحدر انحداراً قليلاً يقرِّب الشرفة من الماء" وكانت تقوم السفارة الأميركية قبالة هذا الموضع، على باب عين المريسة الجنوبي والظَّهر الى حرم الجامعة الأميركية ببيروت، الى ربيع 1983، حين بادر "مجاهد إسلامي" الى تدميرها. وعند المنعطف هذا غُرست نخلات في مربعات من التراب، على طرف الرصيف الآخر، في مقابلة المتكأ المعدني.
ويتصل بموازاة صفّ النخلات هذا، صفان: واحد في وسط طريق السير، وثان على الرصيف المحاذي مباني السكن، ويرافق صف النخلات الرصيف، المتسع بعد ضيقه، حين خروجه من الساحة، الى آخره وحَطِّه رحالَه بحذاء المسبح العسكري. وبالموضع نفسه، قبالة مبنى السفارة الأميركية قبل تدميرها، وعند ابتداء صف النخلات، والانعطاف الخفيف، أقيمت مصطبة ينزل منها درج حجري الى البحر، وإلى مائه وصخره. وذلك أن رأساً صخرياً ينتىء بهذا الموضع من الشاطىء، ويبعد ماء البحر من الشرفة، ويحرم صيادي السمك إدلاء قصباتهم في البحر، ولكنه يمنح السابحين في أيام الدفء الربيعية والصيفية شاطئاً ومقيلاً. ولا يطول الرأس الصخري هذا إلا بضع عشرات من الأمتار يعود الماء بعدها ليغسل جدار الشرفة. فيدلّي الصيادون صناراتهم من جديد، ويقدم السابحون الفتيان، من "أبناء المحلة"، عروضاً في القفز، ويختلطون، عراة إلا من سراويل داخلية بيتية، بأنواع المشاة، صنيعَ أصحابهم وأمثالهم، قبلهم، في شطر الشرفة نفسه قبل انحداره الى حيث المصطبة والمنعطف وابتداء النخل.
فإذا تركت الشرفة جوار البحر ومؤاخاته برز رأس صخري يشبه الرأس السابق، ويتقدم في البحر أبعد من تقدم شبيهه وقرينه، ويدور حول منعطف ثان، الى اليسار هذه المرة. وأقامت الجامعة الأميركية على صخر المنعطف مسبح طلابها وطالباتها. فلم يحمل ذلك الصيادين على قبض خيوطهم وصناراتهم وحسب، بل ارتدت أنظار المتنزهين وأهل الشرفة عن المسبح، والسابحين والسابحات، جراء خيمة صفيقة تحجب المسبح وأهله عن أعين أهل الشرفة. ويدوم الحجاب ما دام موسم السباحة.
وينتهي شطر الشرفة الثاني عند مسبح الجامعة الأميركية، وانعطاف الرصيف، والطريق معه، الى اليسار. ويتفق الأمران مع ارتفاع عمود ارسال عالٍ في طرف المسبح، واتساع الرصيف على شاكلة ساحة صغيرة يتخذها بعض متريضي أهل الشرفة مضماراً.
وإلى جماعات الساحة، من مشاة وقاعدين ومتكئين وخابين وصيادين، ينبغي زيادة أهل القفز في الماء، بموضعين ماؤهما عميقة، وقاعهما بعيدة. وهؤلاء، على ما مر، يتصلون ب"أهل المحلة"، وهم من "أبنائها"، ويدلون إدلالاً جلياً باتصالهم، وبمهارة تعود الى هذا الاتصال، والى احتراف بعض أهل المحلة، عين المريسة، صيد الأسماك، بالقوارب والمراكب والشباك، منذ القدم فهم، على خلاف المتزلجين، يزاولون عملاً لم يحصلوه على الشرفة البحرية، ويبعد أن يحاول ناس يأتون من غير جوار الشرفة القريب وأهله، تحصيله. فهو أقرب الى الإرث والسنن والرسوم المحلية، ويجتمع الناس على القفز، والمباراة فيه، اجتماعهم على بعض مشاهد الساحة وعروضها. فيحتشد عند المتكأ، مشرفاً على الماء، جمهور من النظارة، قد يتسع وقد ينكمش ويتفرق بحسب العرض، وقوة أهل القفز على استوقاف المارة. ويحف جمهورُ المتفرجين الفتيانَ والشبان العراة، إلا من سراويل داخلية قصيرة، رمادية أو بنية أو سوداء، لصيقة ببطونهم ومؤخراتهم وأفخاذهم المنضدة العضلات، وينشق المتفرجون صفين قريبين ويوسعوا للقافزين مدرجاً وممراً يركضونه قبل علوهم المتكأ، ثم انحراف أجسامهم المستقيمة، وتوجهها الى الماء، وغطسها فيه. ولا يزاول القفز واحد من الفتيان أو الشبان، فالقافزون على الدوام جماعة قلما تقل عن ثلاثة، أو تزيد عن خمسة، بموضع واحد. فإذا قفز واحدهم الى الماء عاد جمهور المتفرجين فاجتمع جمعاً واحداً، وشيع بنظره، وبخطوات محكمة، التافزَ، وتبعه الى حد الشرفة، وانتظر خروجَه من الماء، وتسلُّقَه الجدار الحجري الى الرصيف، وقَفْزَ زميله الذي يليه. وفي الأثناء، ليس على المشاة المارة إلا حرف مشيهم، والدوران حول كتلة الجمهور، والمضي على طريقهم وقصدهم.
وغير بعيد من مسبح الجامعة الأميركية ببيروت، ونظير حرمها، وعلى مقربة من مسرح القفز الى الماء، تشهد الشرفة ولادة جماعة جديدة من منتزهها، تخرج من بين المتكئين على المتكأ المعدني. فبعض هؤلاء يقصد هذا الموضع، ويستند اليه، شأن غيره من المتكئين، ويدير ظهره الى الماء، ويستقبل أهل الشرفة، المشاة والجلوس. ولكنه يصنع ما يصنع وهو إثنان، رجل وامرأة شاب وشابة في مقتبل العمر، يلصق واحدهما بالآخر، ويضم واحدهما صاحبه اليه من كتفه، أو خصره، وقد يقحم رأسه في رقبته أو يرخي الرأس على الكتف أو الصدر" وقد يقف، مولياً الرصيف وناسه ظهره، ووجهه الى وجه صاحبه، وجسده لصق جسده، ويصل الوجه بالوجه، والجسد بالجسد، إما كلام كثير، أو تحديق كثير، أو قُبَل قد يقطعها الكلام والتحديق وقد لا يقطعانها.
والحق أن هذه الجماعة قليلة، ويتقطع ظهورها. ولا قرينة على كون السبب في قلتها، وفي تقطع ظهورها، بهذا الموضع وعلى مقربة منه، انكار متنزهين، أو شرطة وهؤلاء قد تنقضي الأسابيع والشهر والشهران أو أكثر من غير أن يُروا، على الشاب والشابة، وهما على هذه الصورة، ما يصنعان. وإذا لم تخطئني الملاحظة لا يعود ظهور هذه الجماعة الى أكثر من سنتين، ولا أخاله سبق العام 1998. ولم يتفق في أثناء هذا الوقت، ووقع انتباهي في غضونه على عشرات من الشبان والشابات المتضامين والمتعانقين ، ان وقعت مرة واحدة على متنزهٍ، أو متنزهة، يؤاخذ اثنين من هؤلاء على مضامتهما أو عناقهما. ومن وجه آخر قريب من هذا الوجه، لم أقع غير مرة واحدة، في غضون نحو أربع سنين من الإرتياد اليومي للشرفة، في وقت بين العصر والعشاء، على مشاجرة خاطفة لم أتبين أصحابها، انطفأت قبل أن أجتاز الموضع الى موضع يليه ولا يسمع منه جلبة الموضع السابق ومشاجراته. وقلما يحوط متكئون عاديون، ومعظمهم من الشبان والفتيان بهذا الموضع من الحاجز وقلة منهم من المكتهلين والمسنين، قلما يحوطون هذا الضرب من المتنزهين، أو يقتربون منهم قُربَ جوارٍ ومخالطة. فهذه الجماعة يتقبلها أهل الشرفة قبولاً يترجح بين تعمد الإغفال والإهمال وبين فضول مكتوم يداري أهل الشرفة ظهوره وعلانيته - وهذا الترجح هو ربما من أحكام عمل ونظر النزهة والترويح على كورنيش المنارة منذ استقرا مقصد جمهور عريض من الناس.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.